“علوّ اليهود في الأرض”.. كيف نواجهه؟

مدة القراءة 6 د

“إعصار البايجر” هو النقطة الفاصلة في هذه الحرب، الإسنادية في شكلها، الاستنزافية في جوهرها. هو ليس تفصيلاً بسيطاً، بل رأس الجبل من تجويف خطير لخطاب أيديولوجي مستعلٍ بإنجاز المقاومة، وهو الذي تراكم بثبات منذ عام 2000 على وجه التحديد. وما قصده نتنياهو من تفجير أجهزة استقبال الرسائل بأيدي آلاف الأفراد والكوادر، في مجمل لبنان وبعض سوريا، ليس تدمير القدرة الهجومية لقوّة النخبة، أو تحطيم سلسلة التحكّم والسيطرة تمهيداً لهجوم برّي لم يقع. بل أراد تفجير الخطاب الأيديولوجي، وتهشيم الصورة، وهو أخطر ما تعرّض له الحزب حتى الآن.

 

ما فعلته دولة إسرائيل في الأشهر المنصرمة عقب عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (تشرين الأول)، وحتى 17 أيلول الحالي، لم يسبق أن قامت به منذ التأسيس قبل 76 سنة. لقد نسف نتنياهو كلّ شيء أمامه. فهو لم يمحُ فقط كلّ قواعد الاشتباك السابقة بين إسرائيل والمقاومة في غزة، فجعل عاليها سافلها، وكذلك قواعد الاشتباك مع الحزب في لبنان، فأعاد بناء المنطقة العازلة بالنار في الجنوب، بل تجاوز كلّ ما اعتاده الإسرائيليون. بدلاً من خوض الحروب الخاطفة، بالجنود الاحتياطيين، انتقل إلى حرب الاستنزاف الطويلة الأمد. عوضاً من ترك أعداء إسرائيل يستنزفونها بالوقت، قرّر أن يستنزفهم هو بالوقت. انتهك الأعراف الدبلوماسية، فقصف القنصلية الإيرانية في قلب دمشق. استفزّ دولة إقليمية كبيرة في المنطقة، فاغتال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنيّة في عرين الحرس الثوري بشمال طهران. قطعت طائراته الأميركية الحديثة مسافة ألفَي كيلومتر تقريباً لقصف ميناء الحديدة اليمني على ساحل البحر الأحمر. وأخيراً حوّل آلافاً من أجهزة الاتّصال غير الذكية بيد أفراد وقادة الحزب إلى قنابل موقوتة.

حان الوقت بعد كلّ التجارب في فلسطين وما يحيط بها، إلى التواضع في الخطاب، ووضع الأمور في مقامها ومكانها

الاستعلاء على العالم

سياسياً، تتصرّف إسرائيل بعكس توجّهات كلّ دول العالم تقريباً، حتى بالضدّ من إرادة حليفتها الأقرب الولايات المتحدة، كما هو ظاهر. وقانونياً، تصرّفت إسرائيل منذ نشأتها من دون اعتبار للقانون الدولي. فهي فوق القانون، وهي دولة قامت على خلاف القرارات الدولية. لا حدود لها بخلاف ما تقتضيه الدولة الوطنية الحديثة، وهو استهتار صريح بما تعارفت عليه الدول لتحديد الصلاحيّات ونطاق سيادة كلّ دولة بإزاء أيّ دولة أخرى. وما زالت تتوسّع في الأراضي المحتلّة عام 1967 بالضدّ من عدد كبير من القرارات التي تنبني على القرار 242 الداعي إلى انسحاب إسرائيل من أراضٍ أو من الأراضي التي احتلّتها في ذاك العام بحسب الاختلاف بين النصّين الإنكليزي والعربي. وهي الآن تتحدّى ليس فقط محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، بل تتحدّى مؤسّسة الأمم المتحدة نفسها، وكلّ المؤسّسات التابعة لها، لا وكالة غوث اللاجئين فقط.

إعلامياً، لا تعبأ إسرائيل بكلّ الحملات الإعلامية التي ينشط فيها مؤيّدون لفلسطين في أرجاء الدنيا، حتى إنّ الإعلام الرئيسي في الغرب، والمؤيّد تقليدياً للفكرة الصهيونية، لم يعد بوسعه التغاضي عن الجرائم التي ترتكبها إسرائيل. ولا شيء يؤثّر في نظرة إسرائيل إلى نفسها، بوصفها أعلى قيمة، وأنّ شعبها أعلى درجة من بقيّة الشعوب. إسرائيل بعد 7 تشرين الأول تعتمد على المساعدات الأميركية الحيوية للتسلّح والتذخير والاستثمار والتصنيع، كي تصمد وتدافع وتهاجم، ومع ذلك تستعلي على حليفتها. هم لا يملكون فقط أقوى جيش في المنطقة، بل ينافسون بالتكنولوجيا الحديثة أعتى جيوش العالم.

قانونياً، تصرّفت إسرائيل منذ نشأتها من دون اعتبار للقانون الدولي. فهي فوق القانون، وهي دولة قامت على خلاف القرارات الدولية

إن لم يكن هذا كلّه من قبيل “العلوّ الكبير في الأرض” الذي ورد في الآية الرابعة من سورة الإسراء في القرآن الكريم، عندما وصف باقتضاب حكاية بني إسرائيل مع دورة التاريخ صعوداً وهبوطاً، فماذا يكون إذاً؟ تنصّ الآية على ما يلي: “وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لَتُفسدُنّ في الأرض مرّتين ولَتَعْلُنّ علُوّاً كبيراً”. وما جاء قبلها ثمّ ما تبعها، هو قصّة هذه الطائفة مع الله والناس والتاريخ. وقد انشغل الباحثون والمفسّرون في تفسير الآيات الأولى من هذه السورة، في محاولة منهم لمطابقة الوعد على الواقع المعيش، واختلفوا في ذلك اختلافاً شديداً.

إسرائيل

بالطبع، ليس هنا مقام استعراض الآراء والمقارنة بينها. إلا أنّ أهميّتها الآنيّة أنّها تؤسّس أيديولوجية التحرير عند الحركات الإسلامية الفلسطينية بالدرجة الأولى، كما عند الحركات الأخرى. وهي كانت حاضرة لدى التخطيط لطوفان الأقصى، لمطابقة الوعد الإلهي وملاقاته، في تحرير الأرض المقدّسة. فهل أخطأ المفسّرون المعاصرون في تقدير الموقف؟ وهل بالغ الحركيّون الإسلاميون في الإعلاء من شأنهم بمواجهة العلوّ اليهودي في الأرض تكنولوجيّاً كما هو مشاهَد؟

خطاب الاستعلاء لم يعد مناسباً

ما جرى منذ السابع من تشرين الأول الفائت هو اختبار حقيقي لكلّ حسابات الصمود والتحرير، ولكلّ أشكال التسليح الموازي من صواريخ ومسيّرات وخلاف ذلك، ولكلّ أنواع الاستراتيجيات وتكتيكات القتال التي جرى الحديث عنها طويلاً، وجُرّبت في الميدان، أو معظمها، من استراتيجية الردع، إلى استراتيجية الحرب النفسية بنشر رُهاب الصواريخ، قبل استحداث المسيّرات، الأخطر من حيث التأثير، على الرغم من صغر حجمها، وضآلة قوّتها النارية. والأهمّ من ذلك أنّ خطاب الاستعلاء، أو سرديّة النصر، أو الوعد الإلهي، يمكن أن يصبح ثغرة يتسلّل منها العدوّ، لتحطيمه في لحظة انطلاق العملية المضادّة.

سياسياً، تتصرّف إسرائيل بعكس توجّهات كلّ دول العالم تقريباً، حتى بالضدّ من إرادة حليفتها الأقرب الولايات المتحدة، كما هو ظاهر

حان الوقت بعد كلّ التجارب في فلسطين وما يحيط بها، إلى التواضع في الخطاب، ووضع الأمور في مقامها ومكانها. قد يكون الفرق نوعيّاً بين العقل الإيراني البارد، والعقل العربي المتحرّق. وهذا ما أصبح واضحاً في غضون هذه الحرب المدمّرة، وهو ما أشار إليه أيضاً الأمين العامّ للحزب السيّد حسن نصر الله، في إحدى خطبه بعد طوفان الأقصى، ربّما لتبرير الانضباط والالتزام بحدود المعركة الجارية، لأنّه لم تحن بعد ساعة الحسم مع إسرائيل. إنّ التوازن المادّي مع إسرائيل غير موجود، ولن يوجد. وقدرات الردع نسبية ومحدودة، وليست مطلقة. ففي لحظة ما، يقرّر الإسرائيليون رمي كلّ شيء، والمغامرة على الرغم من أنّهم مشهورون بحساباتهم المتردّدة.

إقرأ أيضاً: نكسة لبنان الرقمية

المشكلة تصبح بنيوية عندما يشكّل الخطاب الأيديولوجي تصرّفاتنا وسلوكاتنا في السياسة والقتال، فيصنع القرارات والخيارات والاستراتيجيات. قد يكون الخطاب السياسي جزءاً من الحرب النفسية الفعّالة، وهو كذلك في أحايين كثيرة. لكنّ الانزلاق ممكن في أيّ لحظة، فيصبح الخطاب عائقاً أمام الرؤية الواقعية واتّخاذ خيارات أكثر واقعية. إنّ التراجع التكتيكي أمام العدوّ قد يكون ضرورياً قبل الإقدام في وقت آخر، كما ذكر مرشد الثورة الإيرانية السيّد علي خامنئي. ليس في إيران فقط، بل في لبنان وفلسطين أيضاً.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@HishamAlaywan64

مواضيع ذات صلة

ثلاثة برامج للبنان بعد سقوط حكم “اتّفاق الدّوحة”

أسقطت الحرب الراهنة، من جملة ما أسقطت، حكم “اتّفاق الدوحة” الذي تشكّل بمفاعيل حرب تموز 2006، والموازين التي أرساها في المستوى الداخلي. لم يعد الحزب…

رئيس أميركا الجديد: حليف داود ويشوع.. والمقلاع

“وأعُدّ أضلاعي فيهرب من يدي بردى وتتركني ضفاف النيل مبتعدا وأبحثُ عن حدود أصابعي فأرى العواصَم كلّها زَبَدَا…”. كان محمود درويش يلجأ إلى الحلم عندما…

انتخابات أميركا: بين السّيّئ.. والأسوأ

واشنطن   أصعب، وأسوأ، وأسخن انتخابات رئاسية في العصر الحديث هي التي سوف تحدّد من هو الرئيس رقم 47 للولايات المتحدة الأميركية. في الوقت ذاته…

قراءة سياسيّة في أزمة النّزوح… التي ستطول

حرب عامي 2023 و2024 لا تشبه حرب عام 2006 في العديد من الأمور، ومنها الحكومة القائمة وقتها، والحماسة العربية والدولية للبنان، والحجم الأقلّ للحرب وخسائرها….