ضجّت الساحة اللبنانية في الأيام الماضية بالحديث عن معادلات أو فتح طرق جديدة لإنجاز التسويات، لا سيما في ضوء التسريبات الكثيرة حول تفعيل حركة سفراء اللجنة الخماسية المعنيّة بلبنان، وما نُسج حولها من مقاربات، بعضها يمكن أن يكون واقعياً، وبعضها الآخر ربّما يكون أوهاماً وتخيّلات حول اقتراب ظروف إنضاج التسوية السياسية والرئاسية. لذا لا بدّ من استعراض الحكاية التي تسير على إيقاعين.
على خطّين متلازمين، تُبنى تحليلات كثيرة حول إمكانية الوصول إلى إنتاج تسوية سياسية تعيد تشكيل السلطة وتوقف الحرب أو المواجهة المفتوحة بين الحزب وإسرائيل في جنوب لبنان. عاد في الأيام القليلة الماضية الحديث عن تفعيل عمل الخماسية، منذ عُقد اجتماع بين المبعوث الفرنسي جان إيف لودريان والمستشار في رئاسة الوزراء في المملكة العربية السعودية نزار العلولا والسفير السعودي في بيروت وليد بخاري. ترافق ذلك مع إعادة تفعيل اجتماعات اللجنة الخماسية بحثاً عن نقاط التقاء مشتركة بين الأفرقاء اللبنانيين لإنجاز الاستحقاق الرئاسي.
بين لودريان وهوكستين
لا تنفصل زيارة لودريان للرياض عن تواصله مع المبعوث الأميركي آموس هوكستين الذي يبدو مهتمّاً أيضاً بإيجاد تسوية سياسية لبنانية تسهم في خفض التصعيد، خصوصاً أنّ هوكستين على قناعة باستحالة فصل جبهة لبنان عن جبهة غزة، ولا بدّ من انتظار وقف إطلاق النار هناك لينسحب على لبنان، فيما المحاولة الأخيرة تبقى إنتاج تسوية سياسية تدفع الحزب إلى خفض التصعيد نسبياً. في هذا السياق، تأتي زيارة لودريان لبيروت يوم 23 أيلول التي تمتدّ لأربع وعشرين ساعة.
هوكستين على قناعة باستحالة فصل جبهة لبنان عن جبهة غزة، ولا بدّ من انتظار وقف إطلاق النار هناك لينسحب على لبنان
قبل زيارة لودريان للرياض، تحرّك سفراء اللجنة الخماسية كلّ على حدة في إطار استمزاج الآراء والتماس إمكانية التقدّم بخطوات نحو إنتاج تسوية، فكانت الحركة المكثّفة والمعلنة للسفير المصري علاء موسى، وقابلتها حركة معلنة للسفير الفرنسي هيرفي ماغرو، لكنّ أساسها ينطوي على زيارة للضاحية الجنوبية لبيروت لم يعلن عنها. الزيارات واللقاءات توّجت بزيارة السفير السعودي وليد بخاري لعين التينة للقاء رئيس مجلس النواب نبيه بري قبل ساعات من كلمته السنوية في ذكرى الإمام موسى الصدر. كان بري قد أعلن استعداده للتقدّم بمبادرة جديدة أو إعادة تطوير مبادرته، وهو ما لم يتّضح في خطابه بذكرى 31 آب، فعاد وأوضحه بعد يوم في مقابلة صحافية إذ قال: “لقد طوّرت المبادرة وتحدّثت عن بضعة أيام، وعن جلسة مفتوحة بدورات متتالية، وهو ما يعني التراجع عن السبعة أيام، وعن إقفال محضر الجلسة”.
بعد ذلك انتظر رئيس المجلس إشارة من السفير السعودي إثر زيارته للرياض ولقاء لودريان. في الموازاة تسرّبت معلومات في بيروت عن لقاء عقد بين السفير الفرنسي هيرفي ماغرو ووفد من الحزب من أجل مناقشة جدّية للملفّ الرئاسي، وما تضمّنته التسريبات هو استنتاج الفرنسيين استعداد الحزب للدخول في تسوية، والاستعداد الإيجابي للبحث في أسماء من دون وضع فيتو على أحد ومن دون التمسّك بمرشّح، على قاعدة ضرورة التوافق بين أكبر قدر من الكتل النيابية على اسم أو أكثر ليكون الرئيس المفترض انتخابه توافقياً.
قبل زيارة لودريان للرياض، تحرّك سفراء اللجنة الخماسية كلّ على حدة في إطار استمزاج الآراء والتماس إمكانية التقدّم بخطوات نحو إنتاج تسوية
تفاؤل برّي بالخماسيّة
سرت هذه التسريبات في الأوساط الدبلوماسية، وبدأ الحديث جدّياً عن فرصة لتمرير الاستحقاق الرئاسي وفصله عن جبهة الجنوب، باعتباره فرصة لتجنّب التصعيد الإسرائيلي وإعطاء مجال للحلول السياسية والدبلوماسية. في مقابل هذه الأجواء، نُقلت معطيات عن تفاؤل رئيس مجلس النواب بحركة الخماسية، مع اعتبار أنّها مختلفة عن كلّ التحرّكات السابقة، وأنّ هناك اهتماماً قائماً لم يكن موجوداً بالدرجة ذاتها سابقاً، وهو ما تصفه أوساط الثنائي بأنّه تغيير بدرجة الاهتمام قد ينطوي على تغيير في المواقف أو تليينها. على الضفة الأخرى، كانت القراءة المختلفة لهذه الحركة تستشعر تغييراً في موقف الثنائي، مع الظنّ بأنّه أصبح جاهزاً للبحث عن مرشّح ثالث. وما بين القراءتين تدور كلّ التحليلات القائمة اليوم.
يبقى الاستناد الداخلي والدبلوماسي إلى معطى أساسي ووحيد، وهو تجنّب اندلاع حرب كبرى بين إسرائيل والحزب، والتفكير في مرحلة اليوم التالي التي تشمل إعادة الإعمار والنهوض الاقتصادي الذي لا بدّ له أن يمرّ بتغيير سياسي حقيقي في المقاربة وفي المعادلة، ولذلك كان بيان مجلس التعاون الخليجي قد تحدّث عن ضرورة إجراء إصلاح سياسي في تركيبة السلطة في لبنان.
من الخطأ الرهان على هزيمة الحزب، ومن يراهن على ذلك فليست لديه القدرة على تغيير المعادلة السياسية في لبنان
تحت هذا العنوان، تنقسم مجدّداً القراءات اللبنانية بين من يعتبر أنّ التسوية يجب أن تكون على حساب الحزب، مقابل وجهة نظر تستند إلى تعزيز حصّة الحزب السياسية في الداخل كتعويض عن مجريات ووقائع الحرب في الجنوب. بالتأكيد سيكون تشكيل نقاط مشتركة وتقاطعات بين القراءتين بحاجة إلى وقت، وستكون طريقه متعرّجة ومعبّدة بالكثير من العوائق أو الألغام.
إقرأ أيضاً: هوكستين واحتمالات الخرق
لكنّ ما يتشكّل بحسب قراءة جهات مواكبة ومعنيّة بالتحرّكات الدولية هو أهمّية اقتناع اللبنانيين بأنّه لا يمكن إنتاج تسوية بدون إنتاج توازن سياسي داخلي، وتوازن إقليمي – دولي، تبدو إيران منفتحة عليه وتتبنّاه، وما ينطبق عليها لا بدّ له أن ينطبق على لبنان كما هو الحال بالنسبة إلى العراق. ومن الخطأ الرهان على هزيمة الحزب، ومن يراهن على ذلك فليست لديه القدرة على تغيير المعادلة السياسية في لبنان، بل الخيار الأكثر واقعية هو استعادة التوازن السياسي الذي يدفع الحزب إلى التراجع لخطوات إلى الوراء سياسياً وعسكرياً، ضمن سياسة الاحتواء لا الاصطدام.