الياس خوري رحل إلى بيروته وتركنا لأشباحها

2024-09-17

الياس خوري رحل إلى بيروته وتركنا لأشباحها

عن 76 عاماً، قضاها بين الورق والحبر والكتب والنضال من أجل تحرير فلسطين والإنسان العربي، غادرنا الروائي والقاصّ والناقد والأكاديمي الياس خوري، تاركاً فراغاً يصعب ملؤه.

 

سيرة ومسار

في 16 تموز الماضي، كتب الياس خوري في مقالة له في “القدس العربي”، تحت عنوان “عامٌ من الألم”: “كيف يفقد الشجاعة من امتزجت تجربته بالتراب منذ بداية المقاومة الفلسطينية؟

غزّة وفلسطين تُضربان بشكل وحشي منذ ما يقارب عاماً أيضاً، وهما صامدتان لا تتزحزحان. إنّهما النموذج الذي أتعلّم منه كلّ يوم حبّ الحياة”.

فما الذي جرى أول من أمس؟ كيف قرّر فجأةً الياس خوري أن يغادرنا، ونحن في أمسّ الحاجة إلى ما يضيء عليه بحبره الناصع، وإلى بوصلته التي لم تضلّ الطريق، إلا أمس؟

هل فعلاً ضلّ طريقه؟ لا، هيهات أن يفعلها الياس خوري. ما جرى بسيط جداً وقد تحدّث عنه هو بنفسه. كتب في 30 تموز الماضي، أيضاً في “القدس العربي”، تحت عنوان “إيقاع الفتنة”:

“قالت: أين ستذهب بعد الخروج من المستشفى؟

قلت لها: إلى بيروت.

نحن في بيروت، قالت.

لا، هذه ليست بيروت. هذه أحد أشباح بيروت، وأنا أريد المدينة لا أشباحها”.

إذاً، غادرنا الياس خوري ميمّماً وجه بيروت، المدينة التي كانت هنا ذات يوم. وبيروت الياس خوري فيها الكثير من فلسطين، من القدس وحيفا ويافا وغزة… وفيها حرّية وشمس ساطعة حارقة، ودور نشر لا تُعدّ ولا تحصى، وصحف ورقية تغطّي أرصفة شوارعها، وفيها بحر، بحر كبير وواسع محمّل بالكتب والثقافات والحضارات والأفكار والآفاق الجديدة، وليس فيها بحر يعجّ بحاملات الطائرات والسفن المقاتلة ولا أسماك فيه ولا شطآن له.

الياس خوري

يرحل الياس خوري إلى بيروته، آخذاً معه الكثير من بيروتنا التي شكّل على مدى نصف قرن معلماً بارزاً من معالمها وشغل مساحةً واسعةً من صحفها ومكاتبها ودور نشرها وكتبها ومسرحها ونثرها وشعرها.

يرحل الياس خوري إلى بيروته، آخذاً معه الكثير من بيروتنا التي شكّل على مدى نصف قرن معلماً بارزاً من معالمها

رحل إلى بيروت الأخرى، بيروت الحلم، بيروت المدينة التي ننام كلّ ليلة على أمل أن نستيقظ عليها، بيروت الحوريّة التي خرجت من البحر وطاب لها المقام على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، مستظلّةً جبال لبنان وقممه الشاهقة، ومتوسّطةً طريق الفكر والثقافة والكلمة.

البيروتيّ الفلسطينيّ

وُلد إلياس خوري عام 1948، لعائلة أرثوذكسية من الطبقة المتوسّطة في منطقة الأشرفية. حصل على شهادة الثانوية العامّة عام 1966 من ثانوية “الرأي الصالح” في بيروت. بعد سنة من تخرّجه، سافر عام 1967 إلى الأردن حيث التحق بحركة فتح الفلسطينية، وغادره عائداً إلى بيروت برفقة من التحق بهم هناك. في بيروت تابع تحصيله العلمي، فدرس التاريخ في الجامعة اللبنانية وتخرّج منها عام 1971. وفي العام التالي حصل على الدكتوراه في التاريخ الاجتماعي من جامعة باريس.

احترف الكتابة والعمل الصحافي باكراً، فانضمّ إلى مجلّة “مواقف” عام 1972. أصبح عضواً في هيئة التحرير فيها، وخلال الفترة من 1975 إلى 1979 رأس تحرير مجلّة “شؤون فلسطينية” بالتعاون مع الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش. عمل محرّراً لسلسلة “ذكريات الشعب” الصادرة عن مؤسّسة البحوث العربية في بيروت بين عامَي 1980 و1985. كما شغل منصب مدير تحرير مجلّة “الكرمل” من 1981 إلى 1982، ومدير تحرير القسم الثقافي في صحيفة “السفير” اللبنانية من 1983 إلى 1990. وعمل أيضاً مديراً فنّياً لمسرح بيروت من 1992 إلى 1998، ومديراً مشاركاً في مهرجان سبتمبر للفنون المعاصرة. كما شغل منصب رئيس تحرير الملحق الثقافي الأسبوعي لجريدة النهار اللبنانية، وكان في أيّامه علامةً فارقةً في الثقافة والسياسة وغيرهما.

عن 76 عاماً، قضاها بين الورق والحبر والكتب والنضال، غادرنا الروائي والقاصّ الياس خوري تاركاً فراغاً يصعب ملؤه

إلى عمله في الصحافة، احترف خوري التدريس الجامعي في جامعة نيويورك، وجامعة هيوستن، وكلّية بيركلي، وجامعة شيكاغو، وجامعة كولومبيا، وجامعة جورج تاون، وجامعة مينيسوتا، وجامعة برينستون في الولايات المتحدة. كما درّس في جامعة بواتييه في فرنسا، وجامعة لندن في المملكة المتحدة، وجامعة برلين في ألمانيا، وجامعة زيورخ في سويسرا. وفي لبنان درّس في الجامعة الأميركية في بيروت والجامعة اللبنانية الأميركية والجامعة اللبنانية.

إلياس خوري له العديد من الروايات أولاها “لقاء الدائرة” (1975)، وأبرزها “باب الشمس” التي صارت فيلماً سينمائياً يحمل الاسم نفسه من إخراج يسري نصر الله، وثلاث مسرحيّات وسيناريوهات، وكتابات وكتب نقدية كثيرة، تُرجمت غالبيّتها إلى لغات عدّة: الكاتالانية والهولندية والإنكليزية والفرنسية والألمانية والعبرية والإيطالية والبرتغالية والنرويجية والإسبانية والسويدية.

من عمر النّكبة

في الأدب والثقافة والرواية والنقد، كان الياس خوري غزير الإنتاج. خاض في مجالات وأفكار كثيرة. كتب عن فلسطين وعن الحرب الأهلية اللبنانية وعن المدينة والريف، وعن الفلسطينيين شعباً وأفراداً وأدباء وناساً عاديّين ولاجئين ومثقّفين ومقاتلين ومناضلين وملاحم. في السياسة كان على خطّ واحد رسمه الصراع العربي الإسرائيلي، وحدّد معالمه.

بعد حركة فتح، انخرط الياس خوري في حركة اليسار الديمقراطي، ثمّ سرعان ما خرج منها بعد حرب تموز 2006. في الصراع العربي ـ الإسرائيلي يعرف خوري جيّداً على أيّ ضفة يقف، وفي أيّ موضع يتموضع.

إقرأ أيضاً: ناجي العلي… ريشة تسكنها قضيّة

لكنّه على الرغم من ذلك، كان مع الحرّيات إلى أقصى حدّ، ومع الآخر كلّ آخر. وقد أيّد بشدّة ثورات الربيع العربي، ومطالب الشعوب العربية بالعدالة والحرّية والديمقراطية. كما شارك بفعّالية في ثورة تشرين 2019 في بيروت.

من اللافت أن يرحل الياس خوري اليوم، ونحن على أعتاب نكبة جديدة، نكبة مستمرّة وُلدت يوم وُلد الياس خوري. وأقصى ما يرجوه المرء في ظلّ ما يجري من حرب إسرائيلية وحشية على غزة والضفة وجنوب لبنان أن تنتهي برحيله الجسدي عن دنيانا، فالياس خوري الكاتب والصحافي والروائي والناقد والأكاديمي والمفكّر هيهات أن يرحل أو يغيب.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@jezzini_ayman

مواضيع ذات صلة

طلال سلمان في ذكراه… “أين الطريق”؟

قبل عام كامل غادرنا طلال سلمان، بعد سبع سنوات من توقف جريدته “السفير” عن الصدور. غادرنا قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة وجنوب لبنان، وتمرّ…

وليد فيّاض وعجائبه السّبعة: تحويل “الكرامة” إلى “فيولة”‎

اختصر وزير الطاقة وليد فياض في كلمتين فلسفة المنظومة السياسية التي يمثّلها: “الكرامة” و”أميركا”. ونحن اللبنانيّين عالقون بلا كهرباء، بين هاتين الكلمتين. نحن المحكومون من…

يحيى السنوار: إيمان عميق وبراغماتيّة أيضاً؟

غاب عن المشهد 23 سنة، فلمّا عاد إليه عام 2011، ارتقى بسرعة سلّم القيادة، فأضحى في عام 2017 بعد ستّ سنوات من تحرّره رئيس الحركة…

“القديس” الدويهي: مركز أبحاث في رجل..

الأسبوع الفائت قدّمت الكنيسة المارونيّة نموذجاً جديداً من القدّيسين. إنّه إسطفان الدويهي البطريرك والمؤرّخ واللاهوتيّ الذي أُعلن طوباويّاً. هو رجل استثنائيّ، قائد جريء لطائفة خائفة،…