ناجي العلي… ريشة تسكنها قضيّة

مدة القراءة 5 د

في مثل هذا اليوم قبل 37 سنةً، أردت رصاصة غادرة رسّام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي في العاصمة البريطانية لندن. ولا نزال إلى اليوم نشاهد رسوماته أنّى تلفّتنا. في أحد شوارع عاصمة الضباب لندن، في 22 تموز 1987، أطلق معلوم مجهول رصاصةً استقرّت أسفل عين ناجي العلي اليمنى. أبقته الرصاصة في غيبوبة في المستشفى 37 يوماً فارق الحياة بعدها في 29 آب.

 

ناجي العلي فارق الحياة، لكنّه لم يمت. لا يزال حيّاً ولا يزال عمره عشر سنوات. تماماً كما حين خرج من فلسطين عام 1948. وحنظلة هو الطفل الذي عمره 10 سنوات. يداه ما زالتا معقودتين إلى الخلف. لا يزال ينظر إلى أحوالنا ويطيل النظر إلى فلسطين. في الأثناء يدير ظهره للأنظمة الجائرة والعيون المتربّصة.

من أطلق الرصاصة؟

لا يهمّ.

المتّهمون كثر من جهاز الموساد الإسرائيلي إلى آخر جهاز أمن عربي مروراً بالأهل، رفاق التهجير والقضيّة والمسار والمصير. المهمّ أنّ ناجي العلي لا يزال حيّاً بيننا عبر رسوماته التي يبقى وقعها أشدّ من الرصاص، وسخريتها أمضى من حدّ سكين. وعيناها تريان ما لا نرى. وفمها يقول ما لا نجرؤ حتى اللحظة على قوله. وخطوطها ترسم الحدّ الفاصل بين الحقّ والباطل، وبين الحقيقة والوهم.

في مثل هذا اليوم قبل 37 سنةً، أردت رصاصة غادرة رسّام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي في العاصمة البريطانية لندن. ولا نزال إلى اليوم نشاهد رسوماته أنّى تلفّتنا

تصادف ذكراه الـ37 مرور 11 شهراً تقريباً على اندلاع الحرب الإسرائيلية الوحشية المستمرّة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول الماضي) على غزة (طوفان الأقصى).

ترى لو كان ناجي العلي حيّاً يُرزق بيننا، ويشاهد ما نشاهد من غزة عبر الشاشات، ما كان ليقول؟

كيف كان سيرسم ما يجري في غزّة؟

كيف كان سيترجم الصرخات الخارجة من القطاع؟

هل كان سيدير ظهره ويضع عينيه في عيوننا؟ هل كان سيطلق يديه؟

اكتشفه غسّان كنفاني

هو ناجي سليم العلي. رسّام الكاريكاتير الفلسطيني الأشهر في العالم العربي. وُلد عام 1937، أو عام 1938 على الأرجح، في قرية الشجرة الواقعة بين طبريا والناصرة. هاجر إبّان النكبة مع أهله إلى لبنان. عاش في مخيّم عين الحلوة. كان في العاشرة من عمره يومها. ثمّ هُجّر من عين الحلوة، وبعدها من لبنان كلّه، قبل أن يُهجَّر من الحياة كلّها عام 1987 في لندن. لكنّه لم يفارقنا.

تصادف ذكراه الـ37 مرور 11 شهراً تقريباً على اندلاع الحرب الإسرائيلية الوحشية المستمرّة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول الماضي) على غزة (طوفان الأقصى).

درس العلي المرحلة الابتدائية فحسب. ثمّ انضمّ إلى مدرسة مهنية في طرابلس في شمال لبنان لدراسة ميكانيك السيارات. وفي عام 1960 التحق بالأكاديمية اللبنانية ودرس الرسم لمدّة عام.

الرسوم على جدران “السّجن”

اعتقلته القوات الإسرائيلية وهو صبيّ، ثمّ اعتقله الجيش اللبناني أكثر من مرّة، وكان خلال الاعتقالات كلّها يرسم على الجدران. كان يرسم حرّيته وحرّية شعبه بل حرّية الوطن العربي كلّه فرسومه لا تزال نابضةً بالحياة والقضية الفلسطينية. كلّما ضلّ أحدهم الطريق إلى فلسطين، اتّخذها دليلاً ومضى على الدرب.

اكتشف موهبته الأديب والصحافي والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني، الذي اغتيل في الحازمية في لبنان عام 1972. شاهد رسومه على جدران مخيّم عين الحلوة في جنوب لبنان في أثناء زيارة له للمخيّم. سأل عنه وأخذه بيده إلى الصحافة، ناشراً له أوّل رسمة في مجلّة “الحرّية” في العدد 88 في 25 أيلول 1961. وكانت عبارةً عن خيمة تعلو فوقها يد تلوّح.

إذا نظرنا إلى قطاع غزة من بعيد اليوم، هل نشاهد رسماً غير رسم ناجي العلي السابق الذكر؟ هل في غزة اليوم أكثر من خيمة تعلوها يد تلوّح وما من يد تقابلها وإن بالتلويح؟!

سافر ناجي إلى الكويت عام 1963 ليعمل محرّراً ورسّاماً ومخرجاً صحافياً في “الطليعة” الكويتية، ثمّ انتقل منها إلى “السياسة” الكويتية، فـ”السفير” اللبنانية، و”القبس” الكويتية، و”القبس” الدولية.

اعتقلته القوات الإسرائيلية وهو صبيّ، ثمّ اعتقله الجيش اللبناني أكثر من مرّة، وكان خلال الاعتقالات كلّها يرسم على الجدران

رسّام موته

كان ناجي العلي ريشةً، ريشة بحجم قضية، ريشة أجرأ منّا كلّنا وحتى هذه اللحظة. عبّر بريشته عن القضية الفلسطينية وقضايا الفقراء الذين تحيّز لهم العلي دائماً، وهو القائل: “أنا متّهم بالانحياز، وهي تهمة لا أنفيها، نعم أنا منحاز لمن هم “تحت””.

ليس في رسوم ناجي العلي خطوط كثيرة ولا شخصيات عديدة. سكّان لوحته قلائل: حنظلة الفتى الفلسطيني ذو العشر سنوات المولود بعد نكسة عام 1967، الذي لا يكبر ولا يشيخ ولم يُعطِ إلا ظهره منذ عام 1973، وفاطمة التي لا تهادن ولا تسكت عن الحقّ وزوجها ورجل سمين بمؤخّرة عارية وبلا رجلين، وآخر ذو أنف طويل يمثّل الجندي الإسرائيلي.

إقرأ أيضاً: “بورتريه لمدينة صغيرة” يروي حنين كاميران حرسان لمدينته

خمس شخصيات شكّلت عناصر رسوم ناجي العلي، واختصرت الوطن العربي بكامله، وعرّته كما عرّت إسرائيل. خمس شخصيات من خطوط مرسومة على ورق، رسمها ناجي العلي ورسمت بدورها موته. وكان العلي يدرك هذا تماماً، فلطالما ردّد: “اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حالو: ميت”.

سُئل ناجي العلي يوماً عن موعد رؤية وجه حنظلة فأجاب: “عندما تصبح الكرامة العربية غير مهدّدة، وعندما يستردّ الإنسان العربي شعوره بحرّيته وإنسانيّته”.

في الذكرى الـ37 لاغتياله، هل دنا موعد رؤية وجه حنظلة؟

لمتابعة الكاتب على X:

@jezzini_ayman

مواضيع ذات صلة

سجون داعش… متحف افتراضيّ لحكايا الجرائم

قبل كلّ هذه الموجة العسكرية الجديدة في سوريا، وعودة “جبهة النصرة” المولودة من رحم تنظيم “داعش”، باسمها الجديد: “هيئة تحرير الشام”، وقبل التطوّرات الأخيرة التي…

مهرجان BAFF يضيء على “روح” لبنان… في لحظة موت

يقدّم مهرجان BAFF هذا العام، الذي انطلق اليوم الإثنين، عدداً من الأفلام التي تحيّي “طرابلس عاصمة الثقافة العربية” و”أسرار مملكة بيبلوس” و”المكتبة الشرقية إن حكت”…

بيروت تتنفّس الصّعداء: سينما… وبوح النّازحين

بدأت الحياة الثقافية تتنفّس الصعداء في لبنان وإن بخجل، بعد شلل قسري تامّ منذ أواخر أيلول الماضي وتوسّع الحرب الإسرائيلية على لبنان وتخطّيها الحدود إلى…

فيلم “أرزة”: بارقة أمل لبنانيّة… من مصر إلى الأوسكار

أينما يحلّ فيلم “أرزة” اللبناني (إخراج ميرا شعيب وتأليف فيصل سام شعيب ولؤي خريش وإنتاج علي العربي) يمنح المشاهد، وخصوصاً اللبنانيين، الكثير من الأمل. فعدا…