لا يمكن لروسيا الانتصار في أوكرانيا. هذا لسان الغرب عامّة، ولسان الرئيس الأميركي، جو بايدن، على نحو يعبّر عن عدم تراجع موقف واشنطن وأوروبا بشأن دعم كييف ضدّ طموحات موسكو وخطط الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. بالمقابل، فإنّ خطط روسيا لن تهضم أيّ هزيمة، كما أنّ الطاقم الحاكم حول سيّد الكرملين يجاهر بالذهاب بعيداً لمنع هزيمة لها ما بعدها. وتسهل هنا ملاحظة اشتعال الميدان من أجل الاستعداد لطاولة التسوية. ويسهل استنتاج كثافة الانخراط المشترك لمخابرات دول “الناتو”.
لا يحيد الموقف الرسمي الذي تعبّر عنه عواصم حلف شمال الأطلسي الكبرى، مثل واشنطن وباريس ولندن، عن مستوى صقوريّ في تقديم الدعم العسكري للجيش الأوكراني. تقوم عقيدة هذا الدعم على فلسفة تعتبر أنّ الحرب الروسية تُشنّ ضدّ الغرب فوق الأراضي الأوروبية وداخل الأراضي الأوكرانية، بمعنى أنّ النصر الروسي العتيد الذي يرومه بوتين هو نصر ضدّ أوكرانيا وأوروبا ومنظومة الغرب بقيادة الولايات المتحدة.
أوكرانيا جدل أميركيّ
تتحمّل تلك العقيدة نقاشاً جدّيّاً يدور بين الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة والمعارضة الجمهورية هناك. ينسحب الجدل آليّاً على خطابَي الثنائي بايدن-هاريس والمرشّح الخصم دونالد ترامب. يشدّد الطرف الحاكم على دعم أوكرانيا والتعهّد بمواصلته بعد الانتخابات الرئاسية. ما برح ترامب يزعم أنّ الحرب لم تكن لتندلع أصلاً لو كان رئيساً ويعد بوقفها فور انتخابه رئيساً من جديد. وحين يُسأل عن السبيل لذلك يقترح ما يشبه التسليم بأمر روسيا الواقع شرق أوكرانيا وعدم عبور كييف نحو “الناتو”، وهو حلّ محبّب لدى بوتين ولطالما اقترحته دبلوماسية وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.
خرج بوتين بتصريح مضادّ يعتبر أنّ هذا الأمر يعني أنّ “الحرب باتت بين روسيا وحلف شمالي الأطلسي”
النقاش نفسه مندلع أيضاً في الضفّة الأخرى من المحيط الأطلسي. احتاجت دول الاتحاد الأوروبي في كلّ مرّة تودّ الاهتداء إلى قرار بشأن معاقبة روسيا أو مكافأة أوكرانيا إلى أيام صعبة لتدوير الزوايا واجتراح إجماع يكاد يكون مستحيلاً. بين تلك الدول، صقور وحمائم، منها من جرّب التفاوض مع بوتين وبات شديد التشدّد ضدّه، مثل فرنسا وألمانيا خصوصاً، ومنها من هو قريب من الزعيم الروسي ويخطب ودّه، مثل هنغاريا مثلاً. وداخل كلّ دول الاتحاد تيّارات يمينية متطرّفة تتقاطع مع يسار راديكالي تمقت “إمبريالية” واشنطن وتستطيب “إمبريالية” روسيّةً تنهل من طموحات قيصرية أوراسية معلنة.
ما زالت أولوية الولايات المتحدّة، منذ التحوّلات المعلنة في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، هي المواجهة مع الصين واستباق خطرها الحتمي. وفي كلّ تفصيل في السياسة الخارجية مع أيّ بقعة في هذا العالم تأخذ واشنطن قضيّة الصراع مع الصين في تفاصيلها. ومن يسعى إلى الفوز بالنزال ضد الصين لا يمكنه أن يسمح بخسارة في النزال ضدّ روسيا في أوكرانيا. ووفق هذه المعادلة تقيس واشنطن حساباتها. وفيما يعتبر ترامب أنّ تحدّيه صينيّ بامتياز، فإنه، على الرغم ممّا يزعمه في حملاته الانتخابية، لا يمكن أن يمرّر “صفقة” أوكرانية تكسّر قوّة بلاده وتقرّ بقوّة خصمها الروسيّ.
ممنوع الهزيمة لأحد
لم تصل الحرب إلى نهايتها بسبب هذه المعادلة الجهنّمية. الصين لا تدعم روسيا بالسلاح، لكنّها لن تسمح بهزيمة حليفتها في أوكرانيا. والولايات المتحدة بالمقابل لن تسمح بهزيمة أوكرانيا وتسجيل روسيا سابقة جديدة، تضاف إلى سابقة الاستيلاء على شبه جزيرة القرم عام 2014، تمهّد الطريق، ولو بعد حين، لاستعادة موسكو أمجادها وامتداداتها السوفيتية لدى بلدان أوروبا الشرقية، لا سيما دول البلطيق وبولندا ورومانيا إلخ..
لم تصل الحرب إلى نهايتها بسبب هذه المعادلة الجهنّمية. الصين لا تدعم روسيا بالسلاح، لكنّها لن تسمح بهزيمة حليفتها في أوكرانيا
والحال أنّ رواج الحديث عن التسوية والتفاوض والسلم النهائي، لا سيما من قبل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي نفسه، يستدعي تصعيداً عسكرياً احتاجت إليه أوكرانيا في التوغّل الاستراتيجي الواسع داخل منطقة كورسك، مقابل تقدّم روسيّ في أقاليم الشرق الأوكراني. فحتى الأمين العام لـ”الناتو” ينس ستولتنبرغ (المغادر منصبه الشهر المقبل) يكتشف قبل أيام أن لا نهاية للحرب إلّا عبر المفاوضات، ملمّحاً إلى “إمكانية الحوار مع روسيا في مرحلة ما”. جاء موقفه متّسقاً مع ما دعت إليه ألمانيا قبل أيام للعودة إلى طاولة المفاوضات، ومع مبادرة قدّمتها الصين والبرازيل رفضها الرئيس الأوكراني.
وفيما استنتجت روسيا فعّالية الأسلحة الغربية المتطوّرة في تحسين أداء الجيش الأوكراني، فإنّ التلويح باحتمال استخدام كييف صواريخ غربية، أميركية (ATACMS) وبريطانية (Storm Shadow) وفرنسية (SCALP) خصوصاً، لضرب أهداف في عمق الأراضي الروسية، أيقظ في موسكو شياطين الخيار النووي من جديد.
مدفديف والتّكرار المملّ
أعاد ديمتري مدفديف، نائب رئيس مجلس الأمن في الاتحاد الروسي، تكراراً مُملّاً لذهاب بلاده إلى استخدام الخيار النووي أو حتى “تدمير العاصمة الأوكرانية كييف بأسلحة غير نووية”. كانت موسكو لوّحت في الأسابيع الماضية بإدخال تغييرات على عقيدتها النووية تتيح لها اللجوء إلى سلاح الدمار الشامل ضدّ أيّ تهديد وجوديّ لروسيا. كان سبق لبوتين نفسه أن لوّح بهذا الخيار في 27 آذار 2022، أي بعد 5 أيام فقط على بدء “العملية العسكرية الخاصة” التي أعلن عنها “لتأديب” أوكرانيا. ولم تكن حينها تلوح أية أخطار وجودية تبرّر هذا التهديد الذي ما برح يردّده وقادة إدارته مذّاك.
رواج الحديث عن التسوية والتفاوض والسلم النهائي، لا سيما من قبل الرئيس الأوكراني زيلينسكي نفسه، يستدعي تصعيداً عسكرياً احتاجت إليه أوكرانيا
على أيّة حال، تبادل الغرب وروسيا الرسائل في الأيام الأخيرة. سحبت موسكو أوراق اعتماد 6 دبلوماسيين بريطانيين، بما فهم أنّه تصعيد سياسي (يضاف إلى الإعلامي التهويليّ) وجب على واشنطن ولندن فكّ شيفرته قبل ساعات من قمّة جمعت رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر بالرئيس الأميركي جو بايدن في واشنطن الجمعة الماضي. كان زيلينسكي قد وجّه قبلها رسائل “عتب” لحلفائه الغربيين لعدم السماح له باستخدام الصواريخ الغربية البعيدة المدى لاستهداف مطارات ومخازن وبنى تحتية تستخدمها موسكو ضدّ بلاده في العمق الروسي.
إقرأ أيضاً: أوكرانيا تنقل الحرب إلى روسيا: مقامرة أم هندسة للمفاوضات؟
خرج بوتين بتصريح مضادّ يعتبر أنّ هذا الأمر يعني أنّ “الحرب باتت بين روسيا وحلف شمالي الأطلسي”. وحذّرت تقارير من ردّ روسيّ عبر تزويد الحوثيين في اليمن بصواريخ بالستية. وكشفت تقارير أخرى عن تقنيّات نووية تزوّدها موسكو لطهران. أصغت واشنطن جيّداً لصدى العواصم المتحاربة، وأصغت لضيفها اللندنيّ، وأصغت لتقارير أجهزة المخابرات الأميركية التي حذّرت من ردّ روسيّ، بوسائط إيرانية الهوى من اليمن إلى سوريا مروراً بالعراق، وقرّرت معه تأجيل بتّ مسألة إعطاء الضوء الأخضر لكييف لاستخدام تلك الصواريخ إلى مواعيد لاحقة، ربّما على هامش قمّة الأمم المتحدة المقبلة. وفي همس الغرف المغلقة أنّها جعجعة تمرّر رئاسة أميركا وتردع الانفجار الكبير.
لمتابعة الكاتب على X: