بعد مرور أسبوع، ما زال الخبراء الاستراتيجيون الغربيون يقاربون الاختراق الذي حقّقته القوات الأوكرانية داخل الأراضي الروسية بتحفّظ وحذر. لسان حال الجميع يقول: ماذا بعد؟ ولئن فوجئت روسيا بحجم الهجوم وجرأة الاختراق، فإنّ واشنطن، والعواصم الغربية المؤيّدة لكييف والداعمة لجهدها الحربي، فوجئت بدورها. وبدا أنّ القرار الأوكراني بشنّ هجوم استخدم أسلحة غربية جاء مستقلّاً من دون ضوء أخضر من الحلفاء. لكنّ موسكو تلمّح إلى تورّط مخابراتي غربي وروائح أطلسية في “مغامرة” كييف.
تمكّنت وحدات تابعة للجيش الأوكراني، ضمّت “آلافاً من الجنود”، وفق مصدر أوكراني، الثلاثاء الماضي، من عبور الحدود والتوغّل في منطقة كورسك والتقدّم فيها كيلومتراتٍ عدّة.
ليس واضحاً حجم هذا التوغّل، لكنّ أنباء تحدّثت عن انهيار خطوط الدفاع الروسية، وسقوط عشرات القرى التي كانت تسيطر عليها القوات الروسية، وسط تضارب الأنباء بشأن حجم القوى وهويّاتها ما بين جنود أوكرانيا ومقاتلين روس مناهضين للكرملين (وفق سابقة في هذا الصدد). الثابت أنّ الجيش الروسي أقرّ، الجمعة، بأنّ التوغّل وصل إلى مدينة سودجا التي يسكنها حوالي 5,500 نسمة على بعد 15 كلم من الحدود حيث محطة تحويل الغاز إلى أوروبا.
بعد مرور أسبوع، ما زال الخبراء الاستراتيجيون الغربيون يقاربون الاختراق الذي حقّقته القوات الأوكرانية داخل الأراضي الروسية بتحفّظ وحذر
أوكرانيا: غموض إعلاميّ
لم تحتفِ أوكرانيا كثيراً بإنجازها العسكري المفاجئ. لجأت كييف هذه المرّة إلى قلّة الكلام وانتهاج غموض بدا كذلك بالنسبة لموسكو كما بالنسبة لواشنطن والحلفاء. لم يأتِ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على ذكر الحدث وكأنّه تفصيل ميداني من عاديّات يوميّات الحرب التي تعرفها البلاد منذ الهجوم الروسي في 24 شباط 2022. لكنّه تحدث عن نقل الحرب إلى داخل الأراضي الروسيّة.
راح الرئيس الأوكراني، من دون أيّ زهوّ أو غرور، يمرّر أخبار الحدث. تحدّث في مداخلة يومية عن “تحرّكاتنا ونقل الحرب إلى أراضي المعتدي”. أضاف أنّ “أوكرانيا تثبت أنّها قادرة على ممارسة الضغط الضروري على المعتدي”. وتحدّث في مداخلة أخرى أنّ روسيا “جلبت الحرب” إلى بلاده، وعليها أن تشعر بتداعيات ما قامت به من دون أن يتحدّث بشكل مباشر عن التوغّل في كورسك.
وعدت أوكرانيا حلفاءها وداعميها الغربيين قبل عام بأنّها ستشنّ هجوماً مضادّاً يغيّر من مسار الحرب، لكنّ هجومها مُني بالفشل، وتأخّر لاحقاً المدد الغربي.
عمليّة أوكرانيا انتحاريّة غير مفهومة
في أوروبا جرى نقاش كبير بشأن نجاعة الحرب والحكمة من دعمها. كان على دول الاتحاد الـ 27 أن يجدوا القواسم المشتركة بصعوبة لإنتاج موقف يصون وحدة النادي الأوروبي في مسألة الموقف من حرب تجري على أبوابه. وفي الولايات المتحدة مارس الجمهوريون عملية ابتزاز معقّدة أرادوا بها الإفراج عن رزمة المساعدات لأوكرانيا مقابل تشريعات مختلفة أهمّها متعلّق بمكافحة الهجرة غير الشرعية.
لم تحتفِ أوكرانيا كثيراً بإنجازها العسكري المفاجئ. لجأت كييف هذه المرّة إلى قلّة الكلام وانتهاج غموض بدا كذلك بالنسبة لموسكو كما بالنسبة لواشنطن والحلفاء
فشل الهجوم المضادّ الأوكراني. وتلكّأت المساعدات العسكرية الغربية كثيراً. وراح زيلينسكي يقفز من عاصمة إلى أخرى ومن برلمان إلى آخر مسوّقاً قضية بلاده، مناشداً العون والمدد. ومع ذلك لم تتمكّن روسيا من تحقيق اجتياح يحسم مآلات الحرب. وبقيت اختراقاتها العسكرية، على أهميّتها، نسبية تتعرّض لمقاومة شرسة ولا تشي بما وعدت به بروباغندا موسكو من القدرة على إسقاط كييف.
في بعض ما يصدر من تقويمات غربية ما يعتبر أنّ عملية أوكرانيا داخل الأراضي الروسية انتحارية غير مفهومة لا أفق لها. تلتقي هذه التقويمات المتشائمة وربّما الواقعية مع توعّد منابر روسيا بإبادة القوات الأوكرانية داخل الأراضي الروسية والترويج لأمر صدر في موسكو بقتل جنود العدوّ لا أسرهم. غير أنّ كييف بدأت في الأشهر الأخيرة تبعث رسائل القبول بحتمية التفاوض والتسويات، بما في ذلك طلب زيلينسكي دعوة روسيا إلى المشاركة في قمّة ثانية عن السلام في أوكرانيا (لم تدعَ إليها في الأولى في سويسرا في حزيران الماضي)، وبالتالي لا تنخرط أوكرانيا في عملية عسكرية كبرى من فراغ ولا تقامر، بل تغامر وتجازف لتحسين أوراقها على طاولة بدأت تقترب أو يحتمل بسطها ولو بعد حين.
في بعض ما يصدر من تقويمات غربية ما يعتبر أنّ عملية أوكرانيا داخل الأراضي الروسية انتحارية غير مفهومة لا أفق لها
الغرب يلاقي أوكرانيا
لم تتأخّر العواصم الغربية في ملاقاة عملية أوكرانيا في كورسك حتى لو كانت في حال بين التأمّل والذهول. أقرّت واشنطن بأنّ استخدام أسلحة أميركية في الهجوم الأوكراني الأخير يتّسق مع السياسة الأميركية. فيما تدافعت العواصم الأوروبية المعنيّة بعدم هزيمة أوكرانيا إلى التعبير عن دعم واحتضان وتفهّم. بدا أنّ للعملية العسكرية الأوكرانية داخل الأراضي الروسية أهدافاً متعدّدة الوجهات عسكرياً وسياسياً. وبدا أنّ زيلينسكي الذي آثر التحفّظ وقلّة الكلام في تناول أحداث الميدان، أراد التعبير لحلفائه عن حصافة وتعقّل ودراية بموازين القوى. لكنّه أراد إقناعهم جميعاً بنجاعة وفعّالية استمرار دعمهم لردّ هجوم روسيا عن قلاعهم.
لم تعترف روسيا بأنّها تخوض حرباً في أوكرانيا. تتحدّث موسكو والرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ عامين ونصف عن “عملية عسكرية خاصة” هناك. وفيما أعلنت موسكو عن ضمّ 4 أقاليم احتلّتها إلى الأراضي والسيادة الروسيّتين، فهي تصف التوغّل الأوكراني بأنّه عملية يشنّها إرهابيون، وتكاد تقول إنّها كتلك التي شُنّت أخيراً في داغستان وكراسنوغورسك في شمال غرب موسكو.
لم تعترف روسيا بأنّها تخوض حرباً في أوكرانيا. تتحدّث موسكو والرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ عامين ونصف عن “عملية عسكرية خاصة” هناك
قوّة صغيرة باغتت جيشاً هائلاً!
أعلنت موسكو، السبت، أنّها باشرت “عمليّة لمكافحة الإرهاب” في ثلاث مناطق حدوديّة مُتاخمة لأوكرانيا معنيّة بالتوغّل الأوكراني. وعلى الرغم من سعي روسيا إلى التقليل من شأن الحدث، لكنّ موسكو هوّلت من وقعه على المفاعل النووي في كورسك، وهو ما استدعى نداءات، رافائيل غروسي، مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية. لكنّ الهجوم الجريء يطرح في روسيا أسئلة بشأن جيش وجنرالات وظواهر فساد وتسيّب جعلت من السهل لوحدة أوكرانية مباغتة جيش هائل عظيم.
إقرأ أيضاً: مقتل لونا الشبل يكشف “اللعبة” الرّوسيّة؟
يظهر في الساعات الأخيرة أنّ الهجوم ليس تسلّلاً، بل عملية ضخمة تشارك فيها الدبّابات وتحظى بتغطية مدفعية وصاروخية وتحميها المسيّرات. بدا هول ذلك من الارتباك والتلعثم اللذين أظهرتهما موسكو وعجزها عن ردّ “تسلّل الإرهابيين”. ظهر أيضاً من استفاقة الصين على الدعوة إلى وقف التصعيد في هذه الحرب. بالمقابل لا تخفي مصادر كييف أنّ هدف العملية هو تخفيف الضغط على أوكرانيا ونقل المعركة إلى روسيا. وعلى الرغم ممّا قد تسفر عنه عمليات الصدّ الروسي، غير أنّ مفاجآت الميدان لن تنتهي وتثبت أنّها تجري في خدمة السياسة، سواء تلك التي تملي “لعبة الأمم” في صراع الغرب والشرق أم تلك التي ستفرض موازين قوى تنتج “صفقة” ما في مكان ما في يوم ما.
لمتابعة الكاتب على X: