هي رسالة إلى “أبو مازن” ندعوه فيها إلى اختصار الطريق، والذهاب إلى حيث يجب الذهاب وسط هذا التهديد الكبير.
الأخ “أبو مازن”.
تحيّة وبعد.
أنت أكثر العارفين أنّ حلّ الدولتين بحسب القرارات الدولية لم يعد ممكناً. لو اعترف العالم كلّه بالدولة الفلسطينية، فلن تعترف بها إسرائيل الحالية ولن تسمح لها بالحياة. من أقصى يمينها المتشدّد إلى يسارها المترهّل يعتبر الإسرائيليون أنّ الأرض بين البحر والنهر هي دولة اليهود.
ما حصل في قطاع غزة يتكرّر بشكل ممنهج وعلى مراحل في الضفة. كلّ المؤشّرات تصبّ في هذا الاتجاه. مخيّمات جنين وبلاطة ونور شمس وشعفاط تساق إلى الهدم والتدمير لتلقى مصير مخيّمات الشاطىء وجباليا وخان يونس. المناطق المصنّفة “ج” قُضمت والمصنّفة “ب” في طريقها إلى الابتلاع.
ليست المقاومة قراراً مسبقاً، بل هي النتيجة وليست السبب والمسبّب. المحتلّ هو أصل العلّة وسوسة الفتن. أهل الضفّة مثل أهل غزة بين خيارين: الاستسلام التامّ غير المشروط والتخلّي الكامل عن الأرض والزرع والأشجار والماء والذكريات للمستوطنين الغرباء القادمين من كلّ أصقاع الأرض إلا من فلسطين، أو الدفاع عن النفس، وهو حقّ مشروع لا يختلف عليه اثنان ولا كتب سماوية ولا قوانين وضعية ولا مواثيق أممية ولا شرائع حقوق الإنسان.
ما حصل في قطاع غزة يتكرّر بشكل ممنهج وعلى مراحل في الضفة. كلّ المؤشّرات تصبّ في هذا الاتجاه
الأخ “أبو مازن”.
أين صار اتفاق أوسلو؟ وماذا بقي للسلطة التي انبثقت منه غير التنسيق الأمني الذي جعل الشرطة الفلسطينية أداة قمع ومراقبة للمعارضين والرافضين لبقاء الاحتلال صخرة ثقيلة على صدورهم وصدر فلسطين؟ ماذا بقي فيها من روح ثورة رفاق العمر أبي عمّار وأبي جهاد وأبي إياد وجورج حبش وغسان كنفاني ومحمود درويش؟
طوال العقود الثلاثة الماضية من عمر الاتفاق والسلطة، تضاعفت عمليات الاستيطان ومصادرة الأراضي. كانت الضفة سجناً كبيراً يتيح لنزلائه هامشاً من الحركة والتنقّل، وصارت مجموعة زنزانات انفرادية ضيّقة تعيق الطرق الالتفافية وجدران الفصل والحواجز التواصل فيما بينها. عدتم إلى أرض فلسطين لكنّكم وجدتموها بلا أشجار التين والزيتون.
أوضاع أهلها قبل “طوفان الأقصى” لم تكن أفضل بكثير من أوضاعهم بعدها. لكنّ الخطر الاستيطاني والدفع نحو الترحيل صارا أشدّ وأكثر عنفاً. كان الاحتلال يفتّش عن ذريعة لابتلاعها كلّياً، فوجدها في عملية 7 أكتوبر. مصادرة الأراضي ارتفعت وتيرتها وتجاوزت 27 ألف دونم في ثمانية أشهر، وقرّرت الحكومة إقامة مستوطنة جديدة في مقابل كلّ دولة تعترف بفلسطين.
ليست المقاومة قراراً مسبقاً، بل هي النتيجة وليست السبب والمسبّب. المحتلّ هو أصل العلّة وسوسة الفتن
“أبو مازن”.
لا شكّ أنّك على اطّلاع على عمليات طرد الرعاة الفلسطينيين من الأغوار ومصادرة قطعانهم، وأنّ الحدود الفاصلة بين فلسطين والأردن صارت منطقة إسرائيلية خالصة يُمنع أهلها من دخولها وتفقّد بيوتهم ومراعيهم فيها.
تعرف تماماً أنّ نتنياهو لا يقبل بأيّ إشراك لسلطتك على أيّ شبر من غزة، وأنّ الهدف الأوّل لمعركته المفتوحة في الضفة هو التخلّص من هذه السلطة واستبدالها بروابط القرى والإدارة المدنية.
أما زلت تصدّق أنّ أيّ حكومة إسرائيلية حالياً أو مستقبلاً يمكن أن تزيل المستوطنات وتخلي 750 ألف مستوطن وتعيدهم خلف الخطّ الأخضر حتى لو اتّخذ قرار جديد بذلك في مجلس الأمن أو صدر أمر مباشر من البيت الأبيض؟ من في إسرائيل سيوافق على إقامة عاصمة لفلسطين في القدس الشرقية؟
هل أنت مقتنع فعلاً بأنّ المقاومة هي التي تقدّم ذريعة للاحتلال للقيام بعدوانه وأنّ التنسيق الأمنيّ معه يحمي السلطة ويطلق يدها في الضفة والقطاع؟
ما حصل في القطاع نتيجة العدوان كان كارثة فعليّة ألمّت بالفلسطينيين ونكبة كبرى جديدة، لكنّه أظهر في المقابل مقاومة بطولية استثنائية
ما حصل في القطاع نتيجة العدوان كان كارثة فعليّة ألمّت بالفلسطينيين ونكبة كبرى جديدة، لكنّه أظهر في المقابل مقاومة استثنائية كشفت كلّ التشوّهات في جسم الكيان الهجين، وبيّن أنّ الجيش الذي لا يقهر عاجز عن حسم حرب صغيرة وبحاجة إلى الجيش الأميركي والجيوش الأطلسية لتحميه، وأظهر إسرائيل عارية أخلاقياً أمام العالم بسبب ممارستها حروب الإبادة وكلّ صنوف الجرائم ضدّ الإنسانية، وتدان في كلّ المحافل الدولية.
صحيح أنّ صور المأساة والإبادة ودم الأطفال المباح حرّكت شيئاً من مشاعر البشرية من دون أن توقف العدوان، لكنّ مواصلة الصمود وإظهار الوحدة الداخلية يمكن أن يزيدا الضغط العالمي على الحكومة الإسرائيلية، وقد يدفعانها إلى الرضوخ لوقف النار والقبول بتسوية ولو آنيّة.
“أبو مازن”.
أنت من مؤسّسي حركة “فتح”، وأحد أبرز مطلقي فكرة الثورة من أجل التحرير، وصاحب التجربة السياسية المديدة، واختبرتَ كلّ صنوف الحياة. تعرف جيّداً التاريخ والجغرافيا. أنت أستاذ في هذه المسائل. تدرك أنّ الثمن المترتّب على المقاومة بأيّ شكل من أشكالها، أخفّ وطأة وأقلّ كلفة من الاستسلام. هنا تخسر الكثير. هناك تخسر كلّ شيء بما في ذلك التاريخ والجغرافيا. دروس المفاوضات أظهرت أنّ التنازل للإسرائيلي يجرّ المزيد من التنازلات وصولاً إلى السحق التامّ والتخلّي عن كلّ الحقوق. التاريخ لا يرحم المستسلمين الذين يتخلّون طوعاً عن حقّهم وأرضهم أيّاً كان الثمن الذي دفعوه من قبل والسجلّ الحافل. رفع الأعلام البيض والتخلّي عن المقاومة والصمود لن يوقفا العدوان في ظلّ المجزرة المستمرّة، بل يفتحان شهيّة المحتلّ على تنفيذ خططه الرامية إلى إفراغ الأرض بين البحر والنهر من أهلها أو جعلهم مواطنين “خدماً” من الدرجة الرابعة للقيام بأعمال السخرة المجّانية بلا حقوق ولا واجبات. المقاومة تعني وجود قضية لشعب حرم من أرضه وأنّ شعباً يناضل من أجل تجسيدها. القبول بدور الضحيّة يعني التشرّد والنسيان، والعالم لا يتعاطف مع المشرّدين والمنسيّين. الكفاح المسلّح شكل من أشكال المقاومة يؤدّي أغراضاً معيّنة، أحياناً تفيد وأحياناً تضرّ. هو ليس صنماً يُعبد، بل هو وسيلة. المقاومة شيء آخر. هي أوسع مدى ولديها أشكالها المتعدّدة وأساليبها المختلفة، وهي فعل إنساني لا بدّ منه لكلّ مظلوم ومنهوب حقّه. هي مفروضة فرضاً على الفلسطينيين وليست اختيارية. الحرب الإسرائيلية على غزة لم تقتصر على “حماس” و”الجهاد”، بل استهدفت الشعب الفلسطيني كلّه، وتكاد تُفقده كلّ مقوّمات الحياة. الحملة على من حمل السلاح وقاوم لا تجد ولا توقف الحرب، بل تصير حرباً إضافية على الفلسطينيين. وإذا كان لا بدّ من محاسبة لمرتكب الخطأ، فإنّ الوقت المناسب يكون بعد انتهاء العدوان، والمحكمة هي الشعب.
الزعامة ليست حرساً رئاسياً وبيارق وطبولاً تُقرع، والزعيم ليس من ينسحب أثناء المحنة ويظهر في أوقات الرخاء
“أبو مازن”.
الزعامة ليست حرساً رئاسياً وبيارق وطبولاً تُقرع، والزعيم ليس من ينسحب أثناء المحنة ويظهر في أوقات الرخاء. أنت لست رئيساً عاديّاً. أنت زعيم لقضية لا تشبه أيّ قضية لأيّ شعب آخر في العالم. هذه القضية تتطلّب من زعيمها أن يكون القدوة والأكثر التصاقاً بشعبه الذي عانى الويلات. قضيّتك وزعامتك تحتاج إلى شجاعة لا تخشى شيئاً ولا تنزوي متراجعة من أمر مهما كبر وتحوّل خطراً داهماً.
“أبو مازن”.
أنت خليفة أبي عمّار ورفيق أبي جهاد وقائمة طويلة من شهداء النضال. أنت تملك رأسمالاً نضالياً رمزياً ليس ملكك لتبدّده في اللاجدوى أو اليأس أو الخوف من فشل تجربة جديدة. فلتفشل! ذلك أنّ واجبك والمجد هما المحاولة.
إقرأ أيضاً: خصوصية الحملة الإسرائيليّة على الضفة
اخلع بزّة الرئاسة. اعتمر كوفيّة الفلاح الفلسطيني. اترك المقاطعة لعتاة المصالح والتجارة. التحق بالمناضلين والصابرين في مخيّم جنين. هناك أهلك والطيّبون. هناك تصنع مجدك وتعيد القضية إلى مكانها الصحيح. هناك الربح الأكيد. هناك فلسطين.