السّنوار يستدعي نتنياهو إلى الأنفاق

مدة القراءة 9 د

بعد الخديعة الكبرى التي وقع فيها بنيامين نتنياهو في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، فكانت وبالاً على الإسرائيليين ومحنة على الفلسطينيين، على نحوٍ غير مسبوق. وبعد الفخّ الذي أوقع يحيى السنوار به رئيس الحكومة الإسرائيلية، عندما قبِل بصيغة الهدنة والتبادل قبل أشهر، وكان نتنياهو يظنّ أنّ حماس لن تقبل، وما زال يجرّ أذياله منذ ذلك الحين، لترقيع ما انفتق، يقوم الزعيم الجديد لحماس عقب اغتيال إسماعيل هنيّة، بنصب فخّ أشدّ إيلاماً، وما زال نتنياهو يتخبّط، وذلك حين دلّه بالحيلة على مكان جثث الأسرى الإسرائيليين الستّة، لتقوم بعدئذ قيامة إسرائيل على الحكومة الحالية، وليشتدّ غضبها على نتنياهو، فما الذي جرى؟

 

من الصعب القول إنّ عثور الجيش الإسرائيلي على جثث الأسرى الإسرائيليين الستّة في نفق مهجور بمدينة رفح الفلسطينية، كان مجرّد مصادفة، بعد أقلّ من يومين على الشجار الصاخب بين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، بشأن الخشية الحقيقية على مصير الأسرى الإسرائيليين، عندما يصرّ نتنياهو على التمسّك بممرّ فيلادلفي على الحدود المصرية الفلسطينية، وهو يعلم علم اليقين بأنّ حركة حماس وقبلها الدولة المصرية لن تقبل بإبرام الصفقة وفق هذا الشرط. وفي الاجتماع نفسه، اعترف نتنياهو بأنّ ممرّ فيلادلفي أهمّ عنده من الأسرى. ونقلت الصحافة الإسرائيلية حيثيّات هذا الكلام وتفاصيل النقاش الساخن داخل الحكومة على نطاق واسع. كانت تلك هذه الفرصة السانحة لتغيير قواعد اللعبة، أو بعبارة أدقّ، اللعب وفق القواعد الجديدة لنتنياهو، والتي نسف بها كلّ القواعد السابقة، سواء في جنوب لبنان أو في جنوب فلسطين.

تغيير قواعد اللّعبة

لتوضيح الفكرة، ينبغي العودة إلى بداية الأحداث. فعندما قرّر السنوار، وكان زعيم حماس في القطاع، شنّ الهجوم المفاجئ وغير المعهود على مواقع الجيش الإسرائيلي في غلاف غزة، اختراقاً للجدار المحصّن والمزوّد بكلّ أنواع الاستشعار المسبق، فإنّما كان من أهدافه المباشرة أسر أكبر عدد ممكن من المستوطنين والجنود، لتحقيق أمرين متلازمين:

تغيّرت قواعد اللعبة عند السنوار. ومنذ ذلك الحين، تغيّرت أهداف طوفان الأقصى. لم تعد الأولوية تحرير الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية

–  الأوّل: توفير الأمن للقطاع من ردّ قاسٍ جدّاً على عملية طوفان الأقصى، باعتبار ما عهده الفلسطينيون على مدى جولات القتال من اهتمام إسرائيل الفائق بسلامة جنودها الأسرى الأحياء، وكرامة الأموات منهم. ولا يترك الإسرائيليون أسراهم حتى لو كانوا جثثاً أو بقيّة رفات.

– الثاني: توفير صفقة تبادل أسرى هي الأضخم في تاريخ الصراع مع إسرائيل، مع الاستحواذ على أكثر من 250 أسيراً إسرائيلياً بين مدنيين وعسكريين. وبالمقارنة، فإنّ صفقة إطلاق سراح الجندي الأسير جلعاد شاليط عام 2011 كلّفت إسرائيل ثمناً غالياً، وهو إطلاق أكثر من ألف أسير فلسطيني، ومن ضمنهم يحيى السنوار نفسه. واستغرق إنجاز الصفقة أكثر من خمس سنوات. وبحسابات بسيطة، ومع وجود هذا العدد الكبير من الأسرى الإسرائيليين بيد حماس والفصائل كما العائلات الغزّية، كان متوقّعاً أن يسود الهدوء في القطاع سنوات طويلة من الأخذ والردّ وتبادل الشروط. لكنّ كلّ هذا لم يقع.

نتنياهو ردّ فوراً على طوفان الأقصى بنسف القواعد السابقة، وكان ردّه مفاجئاً، كما استجابة الإسرائيليين للإجراءات الاستثنائية التي اعتمدها، دون أيّ اعتراض تقريباً. فحين كانت قوات النخبة في حماس تقاتل في غلاف غزة، ومعهم أسرى إسرائيليون، أو هم داخل منازل وأبنية مأهولة، أو هم بطريق العودة إلى القطاع ومعهم بعض الأسرى، كان الجيش الإسرائيلي يطلق النار عليهم كلّهم دون تمييز بينهم وبين الأسرى الإسرائيليين الذين معهم، مع تفعيل “بروتوكول هنبيعل”، الذي يسمح باستهداف العدوّ حتى لو كان بحوزته أسرى إسرائيليون. وكانت النتيجة سقوط أكثر من 1,200 قتيل في “الطوفان”، وكان العدد أكبر بـ 200 قتيل، قبل أن يتأكّد الإسرائيليون من هويّات القتلى، وقد اختلطت أشلاء الفلسطينيين والإسرائيليين بالقصف العشوائي عن طريق الطوّافات والدبّابات.

الحدث الحاسم الذي دفع السنوار إلى التكيّف تماماً مع القواعد الجديدة لنتنياهو، هو حادثة مخيّم النصيرات في 8 حزيران الماضي

استمرّ هذا المنهج على نطاق أضخم بكثير في غزة نفسها، عندما بدأ الهجوم الإسرائيلي الجوّي العنيف، الذي أسقط الآلاف من الشهداء خلال أيام معدودة، أثناء ملاحقة قادة حماس وكوادرها، ومن دون إنذار المدنيين، أو إعطائهم مهلة كافية للإخلاء السريع. كان القتل الجماعي سِمة هذه الحرب، ومن دون الاهتمام بمصير الأسرى الإسرائيليين في القطاع، وربّما كان المقصود التخلّص منهم حتى لا يكونوا عبئاً على استراتيجية الحرب والإبادة لدى الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرّفة. بدت الخطة واضحة: تدمير القطاع تماماً، وتهجير سكّانه كلّهم، وضمّه مجدّداً إلى إسرائيل، وبناء المستوطنات فيه. وكلّ ما عدا ذلك مجرّد ألاعيب لإضاعة الوقت، واستكمال أعمال التدمير والقتل دون كلل أو ملل، وبشبه إجماع لدى الرأي العامّ الإسرائيلي، ما عدا عائلات الأسرى ومن يؤيّدهم، وهم قلّة. وحتى يقوم بخداعهم، أجرى نتنياهو أوّل عملية تبادل محدودة في تشرين الثاني الماضي.

لكنّه بعد ذلك ظلّ يماطل ويُفشل صفقة تلو أخرى بشروط تعجيزية. وبين الفينة والأخرى، يستخلص أسرى أو جثث أسرى، للبرهنة على أنّه بالضغط العسكري وحده يمكن تخليص الأسرى، أو إجبار حماس على التنازل، أو حتى على الاستسلام وتسليم بقيّة الأسرى دون مقابل. وفي كلّ هذه التهويمات التي كان يردّدها نتنياهو على مدار العام الحالي، كان بايدن يبارك ويتبنّى، ثمّ يعود إلى نغمة اليوم التالي، وحلّ الدولتين، وهذه أيضاً من أوهام التخدير للفلسطينيين والعرب والمسلمين. وفي الأثناء، كانت التقديرات الأمنيّة تؤكّد باستمرار تناقص عدد الأسرى الإسرائيليين الأحياء لأسباب مختلفة، حتى وصل الأمر إلى التشكيك في وجود عدد كافٍ من الأسرى الأحياء بما يلبّي متطلّبات الدفعة الثانية في أيّ اتفاق جديد، أي 33 أسيراً إسرائيلياً، وهم ثلث الباقين راهناً بعد اكتشاف عدد من الجثث واستعادتها.

اعترف نتنياهو بأنّ ممرّ فيلادلفي أهمّ عنده من الأسرى. ونقلت الصحافة الإسرائيلية حيثيّات هذا الكلام وتفاصيل النقاش الساخن داخل الحكومة

وأكّدت حماس سابقاً مقتل العشرات، لا سيما إبّان القصف الإسرائيلي المنهجي للقطاع الذي لم يستثنِ أيّ بقعة منه، حتى المعلنة بأنها منطقة إيواء آمنة. من أجل هذا، حاول نتنياهو إضافة شرط جديد في المفاوضات، وهو معرفة عدد الأسرى الأحياء، وأن لا تتضمّن الدفعة الثانية أيّ جثث. يريد الأحياء فقط، وفي تقديره أنّه لن يوجد غيرهم، فتنتهي القضية بالنسبة إليه، ويستأنف القتال دون هوادة.

نقطة فاصلة

الحدث الحاسم الذي دفع السنوار إلى التكيّف تماماً مع القواعد الجديدة لنتنياهو، هو حادثة مخيّم النصيرات في 8 حزيران الماضي، عندما تسلّلت قوّة من المستعربين الإسرائيليين إلى المخيّم، وحرّرت أربعة أسرى إسرائيليين، وقتلت خاطفيهم أو بعضهم، ثمّ استهدفت الطائرات والمدفعية برّاً وبحراً الموقع نفسه، بقوّة نارية هائلة سقط بسببها مئات الشهداء. أمّا المرفأ العائم الأميركي الذي لم يكن نافعاً أبداً في تحقيق هدفه المعلن، وهو توزيع المساعدات الضرورية لسكّان غزة، فكان عنصراً مساعداً في تسهيل عملية تحرير الأسرى. ومنذ ذلك اليوم، أضحى المرفأ العائم أضحوكة حتى في الإعلام الإسرائيلي.

وعقب ذلك أعلنت حماس بضعة أمور مهمّة، منها مقتل 3 أسرى آخرين بينهم أميركي الجنسية، والأهمّ تغيير بروتوكول الاحتفاظ بالأسرى، ردّاً على عملية الخداع بالمفاوضات، ومحاولة تحرير الأسرى بالقوّة الغاشمة دون اعتبار للعواقب السياسية ولا لمصير المدنيين الفلسطينيين كما الأسرى الإسرائيليين. وما هو لافت للنظر أنّ عمليّة النصيرات أتت بعد أيام قليلة من تقديم مقترح إسرائيلي يوحي بتقديم تنازلات وهميّة بشأن شروط الهدنة والتبادل. وتبيّن لاحقاً أنّ هدف المقترح الإسرائيلي الذي قدّمه رئيس جهاز الموساد ديفيد برنياع، أواخر أيار الماضي، بتأييد من مدير جهاز الاستخبارات الأميركية وليام بيرنز، ثمّ تبنّاه بايدن علناً في الخطاب الذي ألقاه في 31 من ذاك الشهر، هو طمأنة حماس، وخداعها، والتمهيد لعملية النصيرات، وليس من أجل عقد صفقة حقيقية.

نتنياهو ردّ فوراً على طوفان الأقصى بنسف القواعد السابقة، وكان ردّه مفاجئاً، كما استجابة الإسرائيليين للإجراءات الاستثنائية التي اعتمدها

تغيّرت قواعد اللعبة عند السنوار. ومنذ ذلك الحين، تغيّرت أهداف طوفان الأقصى. لم تعد الأولوية تحرير الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، بل إلحاق الهزيمة بنتنياهو داخل الوسط السياسي المائل بقوّة نحو التطرّف اليميني. استمرّ تعطيل الاتفاق من طرف نتنياهو، وتصاعد الخلاف داخل الحكومة، وبين نتنياهو وفريق التفاوض، وبينه وبين الأجهزة الأمنيّة والعسكرية، وتفاقم الشعور العامّ  في إسرائيل بعدم الثقة برئيس الحكومة، الذي يكذب كلّ يوم، ويتهرّب من إنقاذ الأسرى، إلى أن عُثر على الجثث الستّة في رفح.

إقرأ أيضاً: يحيى السنوار: إيمان عميق وبراغماتيّة أيضاً؟

لكنّ الأهمّ هو ما أوصل الإسرائيليين إلى هذا الفخّ. قبل يومين من هذا الاكتشاف، قال الجيش الإسرائيلي إنّه حرّر الأسير البدوي الإسرائيلي قايد فرحان القاضي في عملية معقّدة في رفح، ولم يذكر كثيراً من التفاصيل، وشاب المسألة تعتيم وغموض، ثمّ قيل إنّ القاضي نفسه دلّهم على مكان محتمل لوجود أسرى آخرين. وبالفعل، وصلوا إلى المكان المحتمل لكن بعد فوات الأوان. وطلع الناطق باسم حماس بعد الحادثة ليعلن أنّ الحركة أصدرت تعليمات جديدة لحرّاس الأسرى في حال اقتراب القوات الإسرائيلية من موقع الاختباء، وهو يعني تصفية الأسرى وعدم تركهم أحياء. وهذا ما يغيّر تماماً مسار اللعبة كلّها ما بين واشنطن وتل أبيب. وبدل استنزاف الوقت الفلسطيني، حان وقت استنزاف الوقت الإسرائيلي. ولا داعي لاستعجال الصفقة. لقد أعلنها السنوار بوضوح: لم يعد يهمّنا مصير الأسرى الإسرائيليين ما دام نتنياهو لا يهتمّ لهم ولا بهم.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@HishamAlaywan64

مواضيع ذات صلة

بعد الحرب.. هل من دروس تعلّمناها؟

“لو كنت تدرين ما ألقاه من شجنِ… لكنتِ أرفق من آسى ومن صفحَ غداة لوّحت بالآمال باسمة… لان الذي ثار وانقاد الذي جمحَ فالروض مهما…

هل يستمع الأسد إلى النّصائح العربيّة؟

هجوم 27 تشرين الثاني 2024 من إدلب على حلب، الذي أثبت ضعف نظام الأسد وتهالُكه، يعني أن لا حلّ في الأمد المنظور للحرب السورية الداخلية…

إسرائيل وتركيا وروسيا تستعدّ لـ”عاصفة ترامب”؟

تتسارع الأحداث مع اقتراب 20 كانون الثاني، يوم تنصيب دونالد ترامب الرئيس الـ47 للولايات المتحدة. وبدأت بعض الدول تتموضع في محاولة لتثبيت وقائع على الأرض،…

إيران والترويكا: حوار الوقت الضّائع

كان لافتاً القرار الإيراني بالذهاب إلى عقد جلسة حوار مع الترويكا الأوروبية (فرنسا وألمانيا وبريطانيا) في العاصمة السويسرية جنيف، على الرغم من الموقف التصعيدي الذي…