يحيى السنوار: إيمان عميق وبراغماتيّة أيضاً؟

مدة القراءة 8 د

غاب عن المشهد 23 سنة، فلمّا عاد إليه عام 2011، ارتقى بسرعة سلّم القيادة، فأضحى في عام 2017 بعد ستّ سنوات من تحرّره رئيس الحركة في غزة. وبعد ستّ سنوات أخرى، أطلق الهجوم التاريخي على إسرائيل، في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، فتزعزع المشهد كلّه من غزة إلى كلّ أنحاء العالم. نسف قواعد اللعبة. خرج من السجن الصغير إلى السجن الكبير الذي اسمه غزّة، وفي ذهنه خطّة جاهزة، بعد دراسة مطوّلة لعقل عدوّه. لن يكتفي بتحرير ما بقي من أسرى، بل دفعه طموحه ليحرّر معتقلي السجن الكبير أيضاً، بعملية اقتحام للأسوار المنيعة، وجرف كلّ القواعد الحاكمة، سمّاها السنوار ورفاقه في الكتائب القسّامية “طوفان الأقصى”، حين كان 30% فقط من غزة يثقون بحكومة حماس، و22% أو أكثر قليلاً يثقون بحركة حماس، وذلك وفق استطلاع لمؤسّسة الباروميتر العربي، قبيل “طوفان الأقصى”.

هذا الطوفان بتداعياته العاصفة أوصله أخيراً ليكون قائد حماس بعد اغتيال رئيس مكتبها إسماعيل هنيّة في طهران. مع كلّ هذه المسيرة الطويلة، ومع كلّ الوضوح في خطاباته وتصريحاته، يبقى شخصية غامضة، كلّ الغموض في صراحته المطلقة التي لم تكن إسرائيل قادرة على استيعابها.

 

كان قطاع غزة ما بين الانسحاب الإسرائيلي منه أو فكّ الارتباط من طرف واحد عام 2005 و”طوفان الأقصى” عام 2023، يسير وفق مشهدية يسودها الروتين القاتل ببطء (اغتيال قائد فلسطيني، فإطلاق صواريخ من غزة، فغارات إسرائيلية انتقامية، وتوغّلات ميدانية محدودة، ثمّ وقف إطلاق نار بتدخّل من مصر وبقيّة الوسطاء). وأحياناً تكون المبادرة فلسطينية، فيتغيّر توالي الأحداث، فتكون أوّلاً عملية خطف جنود إسرائيليين، أو محاولة خطف، فتتدحرج الأحداث المعروفة مسبقاً أو جزء منها، وتبقى السجون الإسرائيلية مكتظّة بالنزلاء بمحكوميّات تصل أحياناً إلى مئات السنين، ويبقى الحصار العامّ للقطاع على ما هو عليه، ويستمرّ بناء الأنفاق العسكرية وغير العسكرية، ولا تتوقّف محاولات التهريب من خارج السجن الكبير الذي اسمه غزة.

لم يكن السنوار مستهلكاً فقط للثقافة الإسرائيلية، بل كان منتجاً من خلال رواية هرّبها من السجن بطرق ملتوية

يحيى السنوار، عاش الأحداث في غزة، وراقب تزاحم المشاهد المتكرّرة، فأراد كسر الروتين، تماماً كما حاوله في السجن. وبخلاف كثير من الغزّيّين خاصة، ومن الفلسطينيين عامة، الذين كانوا يراهنون على المسار السلمي والتفاوض مع إسرائيل، وحلّ الدولتين، للسنوار رؤية أخرى، كشف خطوطها العريضة قبل عام على الأقلّ.

إذ سيكون أمام إسرائيل احتمالان، خلال أشهر معدودة أو عام، فإمّا إرغامها مع العالم على تطبيق القانون الدولي والقرارات الدولية والاعتراف بدولة فلسطينية في الضفة وغزة والقدس الشرقية، أي المناطق المحتلّة عام 1967، وتفكيك المستوطنات، وإطلاق سراح الأسرى وعودة اللاجئين، وإمّا جعلها في حالة تناقض وتصادم مع الإرادة الدولية، وعزلها عزلاً عنيفاً شديداً، وهي حالة نقيض لاتّجاهات دمج الكيان العبري في المنطقة، والانهيار الساري في دول المنطقة العربية. وهذا السيناريو تحقّق عملياً أو جارٍ تحقّقه بعد إطلاق شرارة صراع هائل، دخلت فيه الضفة الغربية على نحوٍ نسبيّ لكن متصاعد، وكشفت فيه إسرائيل عن صورتها القبيحة التي تختلف جذرياً عن الصورة التي رسمتها أمام العالم طوال ثلاثة أرباع القرن. سردية الصهيونية تتراجع. وسردية فلسطين تتقدّم، لتكون على الطاولة مجدّداً، وبثمن غالٍ جداً، لا يُقدم عليه إلا شخص تمتلكه رؤية ملحمية تتجاوز معطيات الواقع إلى ما وراءه.

اتفق السنوار مع زميله على فكرة استئجار عصابة لصوص لتهريب الجندي الإسرائيلي الأسير إلى مصر، عن طريق شقيق للشراتحة

السّجن مدرسة السّنوار

خرج أبو إبراهيم من السجن الصغير ليقود السجن الكبير، وينفّذ أخطر تمرّد ضدّ الاحتلال في تاريخ النضال الفلسطيني منذ النكبة عام 1948، فصدر القرار عن السجّان بقتل كلّ السجناء مع الرهائن الإسرائيليين، بكلّ الوسائل المتاحة، قصفاً، وتدميراً، وتعطيشاً وتجويعاً. لم يقضِ السنوار أيامه الطويلة في السجن الإسرائيلي دون الإفادة منها في فهم عدوّه اللدود. السجن كان له بمنزلة “الأكاديمية”، بحسب تعبير الكاتب الأميركي ديفيد ريمنيك David Remnick في مقاله في The New Yorker. هو مكان تعلّم فيه السنوار لغة العدوّ، ونفسيّته، وتاريخه. وكسواه من السجناء الأمنيّين، أضحى السنوار مفوّهاً باللغة العبرية، وكان يقرأ بنهم الصحف، ويستمع للإذاعات الإسرائيلية، إضافة إلى الكتب عن منظّري الفكر الصهيوني، والسياسيين، وقادة الأجهزة الأمنيّة.

طوال مدّة سجنه، لم ينتظر إطلاق سراحه بعملية من خارج، بل خطّط لعملية خطف جندي إسرائيلي وهو في السجن، قبل أكثر من ستّ سنوات، من خطف حماس للجندي جلعاد شاليط عام 2006. خطّة السنوار في السجن لم تنجح، لكنّ خطّة شقيقه محمد ورفاقه في غزة نجحت في تحريره وأكثر من ألف أسير فلسطيني عام 2011. حملت عملية تبادل الأسرى الشهيرة اسم “وفاء الأحرار”، وهو الاسم الفلسطيني لها، فيما الاسم الإسرائيلي للعملية هو “إغلاق الزمن”، وكانت إحدى أضخم عمليات التبادل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إذ أُطلق سراح 1,027 أسيراً مقابل الإفراج عن جندي إسرائيلي واحد، نجحت حماس في إبقائه حيّاً خمس سنوات.

السنوار

يحيى السنوار كان محكوماً بالسجن أربع مرّات بالمؤبّد لقتله أربعة عملاء فلسطينيين، وبحسب تحقيق أجراه معه في السجن المحقّق الإسرائيلي ديفيد كوهين، وهو مؤرّخ، في شباط عام 1999، وكان عمره 36 سنة، ومرّ على اعتقاله 11 سنة، فقد خطّط السنوار لأسر جندي إسرائيلي ومبادلته بالأسرى الفلسطينيين بحسب اعترافات السنوار للمحقّق الإسرائيلي. شريكه في الخطّة قائد آخر من حماس، هو محمد الشراتحة من مؤسّسي الوحدة 101 المكلّفة بالعمل على تحرير الأسرى الفلسطينيين. وكان الشراتحة أضحى زميلاً له في السجن عام 1997.

بين هذه الشخصيات حوار لا ينقطع عن القضية وطرقها وطرائقها، مع إيراد الحجج المتضاربة لمن هو على حقّ

تبدو الخطّة خيالية، لكنّ العمل عليها كان بالغ الجدّية. وأهمّ نقطة لضمان نجاحها هو الإبقاء على حياة الجندي الأسير. فالجندي القتيل لا قيمة له. اتفق السنوار مع زميله على فكرة استئجار عصابة لصوص لتهريب الجندي الإسرائيلي الأسير إلى مصر، عن طريق شقيق للشراتحة. ولتأمين تكاليف العملية، هرّب السنوار رسالة من السجن إلى مؤسّس حماس الشيخ أحمد ياسين (اغتيل عام 2004)، يطلب منه موافقته وتزويده بخمسين ألفاً دولار لتمويل عملية الأسر والتهريب إلى مصر، وأجاز ياسين العملية، ووافق على تمويلها. لكنّ الشرطة الإسرائيلية اعتقلت عبد العزيز شقيق محمد الشراتحة، وهو يحاول دخول مصر لتمهيد الأمور وتحضير الظروف. ونُسيت الخطّة. لكنّ الفكرة نفسها طُبّقت في قطاع غزة، وتمكّنت حماس من الحفاظ على حياة شاليط من خلال شبكة الأنفاق التي طوّرتها بشكل متسارع.

السّنوار صانعاً لصورته

لم يكن السنوار مستهلكاً فقط للثقافة الإسرائيلية، بل كان منتجاً من خلال رواية هرّبها من السجن بطرق ملتوية تحت عنوان: “الشوك والقرنفل”. وذلك علاوة على كتب وترجمات أخرى ذات علاقة بالفكر الصهيوني وأجهزة الأمن الإسرائيلية. هذه هي شبه سيرة ذاتية، كتبها السنوار على شكل رواية واقعية، لحياة طفل لاجئ، نشأ في المخيّم، وشهد الأحداث كلّها، من نكبة 1948، إلى نكسة 1967، إلى إحباط 1973، إلى بدء المقاومة بالحجارة والمقلاع، فالعمليات الاستشهادية. تنبني الرواية على سرد حياة “أحمد” وقصّة أسرتين واحدة في غزة وأخرى في الخليل. تتوزّع شخصيات الرواية حول ثلاثة: الفتحاويّ “محمود” (شقيق الراوي) الذي يؤمن بأنّه يمكن تحصيل الحقوق بالمقاومة السلمية والمفاوضات مع العدوّ. والحمساويّ “إبراهيم” (ابن عمّ الراوي) الذي أسّس الجناح العسكري، وبدأ بعمليات المقاومة المسلّحة. وأخيراً العميل “حسن” (ابن عمّ آخر للراوي). وهذه الشخصيات الثلاث تختصر المشهد الذي يرى السنوار العالم الداخلي من منظاره.

غاب عن المشهد 23 سنة، فلمّا عاد إليه عام 2011، ارتقى بسرعة سلّم القيادة، فأضحى في عام 2017 بعد ستّ سنوات من تحرّره رئيس الحركة

بين هذه الشخصيات حوار لا ينقطع عن القضية وطرقها وطرائقها، مع إيراد الحجج المتضاربة لمن هو على حقّ: التفاوض أو المقاومة، وأفكار مبتكرة عن إقامة بنية للمقاومة في الضفة والقطاع، بنية مادّية تحتية ومؤسّسات تعليمية، مع تجنيد العلماء لصناعة الأسلحة.

إقرأ أيضاً: حكاية السّنوار: هكذا خدع ثعلب غزّة إسرائيل (2/2)

بحسب تعبير طريف الخالدي وميسون سكرية، في المراجعة التي قاما بها لرواية “الشوك والقرنفل”، فإنّ شخصية السنوار، كما تبدو من ثنايا روايته، تتحلّى بالإيمان العميق، لكنّها أيضاً براغماتية. وفي المدّة الطويلة التي قضاها في السجن، الذي دخله وعمره 26 سنة وخرج منه وهو في سنّ الـ 49، كان لديه الوقت للتفكير ليكون قائد الأنفاق في الصراع المرير مع إسرائيل.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@HishamAlaywan64

مواضيع ذات صلة

فتح الله غولن: داعية… هزّ عرش إردوغان

ثمّة شخصيات إسلامية كثيرة في التاريخ توافَق الناس على تقديرها واحترامها، مع ظهور أصوات قليلة معترضة على نهجها أو سلوكها أو آرائها، لكنّها لم تتمكّن…

مصرع السنوار في مشهد لا يحبّه نتنياهو

مات يحيى السنوار، رئيس حركة حماس منذ اغتيال سلفه إسماعيل هنية في 31 تموز الماضي، وهو يقاتل الجيش الإسرائيلي، في إحدى أسخن جبهات القتال في…

الحزب بعد “السّيّد”: الرأي الآخر… ومشروع الدّولة

هنا محاولة لرسم بورتريه للأمين العامّ للحزب، بقلم كاتب عراقي، التقاه أكثر من مرّة، ويحاول في هذا النصّ أن يرسم عنه صورةً تبرز بعضاً من…

الياس خوري رحل إلى بيروته وتركنا لأشباحها

عن 76 عاماً، قضاها بين الورق والحبر والكتب والنضال من أجل تحرير فلسطين والإنسان العربي، غادرنا الروائي والقاصّ والناقد والأكاديمي الياس خوري، تاركاً فراغاً يصعب…