القوّات من بشير إلى سمير

قدّاس الشهداء أصبح المحطّة الأبرز في “السنة السياسيّة” لحزب القوّات. منذ قدّاس عام 2000 في سيّدة إيليج التاريخيّة، وصولاً إلى قدّاس معراب، مروراً بملعب جونيه وسيّدة حريصا، أصبح هذا القدّاس محطّة أساسيّة في حياة الحزب. ومنذ استشهاد بشير أصبح أيلول شهر الشهادة للقواتيين. يستحضرون فيه شهداءهم. يرفعون صورهم. يتذكّرون مآثرهم. ويعِدونهم بإكمال المسيرة. وفي قدّاس هذه السنة يرفعون شعار “الغد لنا” ليؤكّدوا أنّ شهادتهم لم تذهب هباءً.

في مقدَّم الشهداء الذين يستحضرهم القوّاتيون بشير. ابتداء من 23 آب تنتشر خطاباته على مواقع التواصل الاجتماعيّ. تعود نبرة صوته القويّة فتخلق الحماسة في قلوبهم. يرتفع إصبعه فيرفع معنويّاتهم. تهتزّ يده القويّة فتهزّ مشاعرهم. ومن خلف نظّاراته الشمسيّة ينظر إلى لبنان الذي حلم به، فيحلمون معه.

تعيدني هذه الخطابات إلى بدايات الثمانينيات. كنت تلميذاً في الثانويّة. وكنت أخضع لدورات تدريب إلزاميّة أقرّها بشير لطلّاب الثانويّات. كان يزورنا بشير قبل نهاية كلّ دورة ويخطب فينا. إنّها خطاباته التي يتمّ استحضارها في هذه الفترة من كلّ سنة. أذكر في إحداها كلام بشير عن “الإمام الخمينيّ”. قال: “ما بدنا كل ما إجا خميني جديد ندفع ١٠٠ ألف قتيل”!!! بشير استشرف باكراً جدّاً، بحدسه السياسيّ، خطر مشروع تصدير الثورة الإسلاميّة إلى لبنان والمنطقة.

قدّاس الشهداء أصبح المحطّة الأبرز في “السنة السياسيّة” لحزب القوّات. منذ قدّاس عام 2000 في سيّدة إيليج التاريخيّة، وصولاً إلى قدّاس معراب، مروراً بملعب جونيه وسيّدة حريصا

لبنانيّة بشير… بعد الفدراليّة

كان بشير لبنانياً في طروحاته وفكره ومشروعه السياسيّ. وصار خياره الدولة اللبنانيّة بكلّ مكوّناتها المجتمعيّة وبحدودها المعترف بها دوليّاً. صحيح أنّه في بداية حياته السياسيّة تحمّس للفدراليّة وقال إنّ “الصيغة (اللبنانيّة) ماتت ووضعنا على قبرها حجراً”. بيد أنّه بلغ سنّ النضج السياسيّ بسرعة فائقة وأيقن أنّ لبنان لا يمكن أن يُجزّأ، وأنّ صيغة الـ 43 هي المُثلى لحكم البلد المتنوّع والمتعدّد. فاجتمع بالزعيم السنّيّ صائب سلام ليؤكّد على تمسّكه بالصيغة اللبنانيّة. وفي الخطاب الذي أعلن مشروعه الرئاسيّ أكّد على تمسّكه بلبنان الديمقراطيّ وبنظامه الاقتصادي الحرّ.

صوّب بشير خلال الـ 21 يوماً من حياته رئيساً منتخباً على ما ابتُليت به الدولة واللبنانيون: الطائفيّة والمحسوبيّة والفساد، يقيناً منه أنّ المشكلة ليست في الصيغة، ولا في توزيع السلطة بين الطوائف، إنّما في تسخير الطائفيّة السياسيّة من قبل السياسيين وفسادهم. كثيراً ما تكرّرت في خطاباته كلمات “السمسرة” و”الغشّ” و”الكذب”. وانتقد الوزير “اللي بيوصل على السلطة وبيجيب معه عيلته وضيعته وعشيرته”. اللافت أنّه طالب بترشيد الإدارة العامّة، لأنّ “الإدارة ما بقى تحمل، بدها تتخفّف، بدها تتطهّر”.

كان بشير لبنانياً في طروحاته وفكره ومشروعه السياسيّ. وخياره الدولة اللبنانيّة بكلّ مكوّناتها المجتمعيّة وبحدودها المعترف بها دوليّاً.

من جهة أخرى أصرّ بشير على لبنان الـ 10,452 كلم مربّعاً. حتى أصبح رئيس الـ 10,452 كلم مربّعاً. كان إصراره هذا موجّهاً ضدّ الإسرائيلي الذي سعى إلى تقسيم لبنان، على الرغم من أنّ هذا الأخير كان حليفه ودعم وصوله إلى رئاسة الجمهوريّة. بيد أنّ بشير رفض السير بالمشروع الإسرائيليّ على حساب مصلحة لبنان.

لبنان أوّلاً.. قبل الفاتيكان

قبل انتخابه أصرّ بشير على أن يكون الرئيس العتيد خياراً لبنانياً، وليس خياراً “فاتيكانياً ولا أميركياً ولا سوريّاً”. أصرّ على رئيس يعمل لمصلحة لبنان واللبنانيين. فكان هو ذاك الرئيس.

بعد انتخابه تكلّم عن ضرورة أن يكون للدولة جيش قويّ. جيش لا يجرؤ أحد على مواجهته في الداخل، ولا ميليشيات إلى جانبه.

هذ المسار وتلك الوعود التي أطلقها بشير حقّقها سمير في رئاسته للقوّات.

في ثمانينيات القرن الماضي اختار سمير جعجع السير بالطائف لأنّ خياره الدولة وليس الدويلة. فهو قال “نحن محترفو حرب للسلم”. وكانت مواجهته للتطبيق السوري المشوّه للطائف دفاعاً عن بناء صحيح للجمهوريّة الثانية. وهي مواجهة كلّفته ثمناً غالياً، 11 سنة و3 أشهر في السجن.

في المعتقل لم يتخلَّ الحكيم عن خيار الدولة. مثُل أمام القضاء في المحكمة على الرغم من علمه المسبق بخضوعه للنظام الأمني اللبناني – السوريّ الذي اعتقله ووضعه في السجن ليقضي فيه كما قضى العديد من معارضي نظام الأسد في السجون السوريّة.

قبل انتخابه أصرّ بشير على أن يكون الرئيس العتيد خياراً لبنانياً، وليس خياراً “فاتيكانياً ولا أميركياً ولا سوريّاً”

بعد خروجه من السجن رفع سمير جعجع شعار إعادة بناء “الدولة الفعليّة”. وتحالف مع السياديين الذين يريدون بناء الدولة بعد خروج السوري من لبنان. ولا يزال جعجع على هذا الخيار لم يحِد عنه.

عارض بقوّة تحالف ميشال عون مع الحزب لأنّ هذا الأخير بوجوده وسلاحه ومشروعه يضرب فكرة الدولة. واستمرّ معارضاً لسلاح الحزب الذي يعيق قيام “الدولة الفعليّة”. شارك في الحوار حول الاستراتيجية الدفاعيّة لمساعدة الحزب على العودة إلى لبنان والدخول في كنف الدولة. بيد أنّ إصرار الحزب على مشروعه وأيديولوجيته أفشل كلّ حوار. ومشروعه السياسي هو الهيمنة على الدولة. وأيديولوجيته تلزمه التبعية لإيران. واليوم يعارض سمير جعجع بقوّة “حرب الإسناد”. ليس فقط لأنّها تصادر قرار الدولة بالحرب والسلم، إنّما أيضاً لأنّها تقضي على ما بقي من إمكانية صمود للدولة واللبنانيين، وتضع لبنان في قلب أتون المنطقة وتهدّد بانفلاش ناره لتحرق المنطقة.

إقرأ أيضاً: جديد الرئاسة: مسعى لحوار مباشر بين برّي والقوّات

تجربة القوات في السلطة كانت تطبيقاً لما دعا إليه بشير ووعد به. وهي تجربة لم تعرف سمسرة ولا غشّاً، حتى إنّ خصومها اعترفوا بعدم انغماس وزراء القوات ونوّابها بأيّ ملفّ فساد، وأشادوا بهم، وتجربة جعلت الفاسدين يتبرّمون من مشاركة القوات في السلطة وتصويبها على ملفّات الفساد، بمن فيهم الحلفاء.

شعار قدّاس الشهداء هذه السنة “الغد لنا”. من خلاله تريد القوات التأكيد على أنّ مشروع الدولة التي حلم بها بشير، لا بد آتٍ.

لمتابعة الكاتب على X:

@Fadi_ahmar

مواضيع ذات صلة

هل طوي ملف الصفقة؟

بالتأكيد طوي الملف، أولاً بفعل الخوف الأمريكي من فشلٍ جديد في الأسابيع المتبقية على الانتخابات، وثانياً بفعل عدم التوصل إلى صيغة أكثر توازناً من سابقاتها،…

ما لم يواجهه الحزب من قبل

كان لافتاً غياب الأمين العامّ للحزب عن أربعين القيادي فؤاد شكر. تُركت منصّة الخطابة لرئيس المجلس التنفيذي في الحزب هاشم صفي الدين. الخطابان اللذان ألقاهما…

بزشكيان والعراق: تراجع تكتيكيّ للميدان الكردي.. لمصلحة السّياسة

هل سلّم الميدان الإيراني بحقيقة أنّه غير قادر على إدارة الموقف الإيراني بمفرده؟ وأنّه انطلاقاً من رؤيته الحصرية للأمور، حان الوقت لتقاسم أو توزيع الأدوار…

غزّة: ناخب أساسيّ في الأردن.. ومهمّ في أميركا

تقدّمت جبهة العمل الإسلامي في الانتخابات النيابية الأردنية على كلّ قوائم الأحزاب التي شاركت في انتخابات البرلمان العشرين. وإلى جانب اعتبارات تنظيمية، تميّزت بها الجبهة…