تستعير ريم الجندي في معرضها “ملمس الماء” المقام في غاليري أجيال في شارع الحمرا في بيروت، من أفلام هوليوود، الواقعية المجّانية. ومن الصوفيّة، علاقة المياه والعتم في تكرار لامتناهٍ. ومن الأدب اللاتيني، الواقعية السحرية. ومن الأدب الياباني، الفانتازيا. ومن الأدب العربي، الهمس والوشوشات والتلصّص. ومن الفلسفة، العدميّة. ومن الـ “بوب آرت” الألوان الزاهية والدعابة. وتستعمل هذه الخلطة لترسم واقعها الشخصي والحميم. هي الهاربة منه إلى مكان ما، بعيداً عن هدنات الحروب وضوضاء الأوبئة وصرخات الانهيارات المتتالية.
تخلق الفنّانة المولودة في بيروت عام 1965، عالماً موازياً عن الواقع حيث العزلة المنغّمة، بالأكريليك والكانفاس والموتيفات المذهّبة ومنمنمات الأيقونات، على ضفاف بركة السباحة. بـ”خفّة الكائن التي لا تُحتمل” على ما كتب كونديرا، تتوارى شخصية ريم الجندي خلف المياه، تحتها، فوقها، تراقبها، تتلصّص عليها بمتعة وتصوّرها لنا بأسلوب تجريدي، بخفّة محبّبة وروح هشّة ناعمة. ترسم عالمها الذاتي الخالص، والشخصي العامّ الذي قد يتقاطع مع حياة الآخرين أو يتشارك معهم فيها. ترمي مشهداً سينمائياً على الخارج وتعود إلى حكايتها مع العزلة البليغة التي تحيلنا إلى صور الراحل بسّام حجار الشِّعرية في ديوانه “ألبوم العائلة يليه العابر في مشهد ليليّ لإدوارد هوبر”. العزلة هنا من وجهة نظر أنثى.
تخلق الفنّانة المولودة في بيروت عام 1965، عالماً موازياً عن الواقع حيث العزلة المنغّمة، بالأكريليك والكانفاس والموتيفات المذهّبة ومنمنمات الأيقونات، على ضفاف بركة السباحة
انسحاب إلى العزلة
تفرح العين الناظرة إلى تلك المساحات المريحة من الزرقة وانعكاسات الطبيعة على مياه المسبح (البيسين Piscine) شبه الفارغ إلّا من جسد واحد هو جسد الفنّانة التي أرادت عزله في ستّينيات العمر بعدما اعترفت بأنّها “انهزمت” وعاشت حروباً وانتكاسات ودخلت في كوما حقيقية. تنسحب من كلّ هذا القلق إلى العزلة، إلى العدمية، فتُلاعب المكان والزمان بلياقة عالية ورقّة.
يشعر الداخل قاعة غاليري أجيال في يوم صيفيّ ملتهب وسط شارع يعجّ بزحمة الناس وأبواق السيّارات، أنّه دخل فسحة تأمّل أو استراحة ذهنية ممّا يدور في بيروت من تهديدات بالحرب الشاملة ومن أسئلة الخوف والموت والحياة مع كلّ جدار يخترق الصوت جرّاء الطائرات الإسرائيلية المنخفضة في سماء لبنان.
لوحات الجندي تقترن بالدعابة والواقعية والخفّة وعدم الادّعاء منذ 35 سنة من الرسم والتجريب. على الرغم من حملها كلّ هذا الإرث الاجتماعي والأنثروبولوجي اللبناني السوري الثقيل، الذي تربّت في كنفه الفنّانة. لكن سرعان ما يكتشف المتمحّص أنّ وراء هذا الهدوء حذراً، وريشة تبحث عن شيء ما، ربّما العزلة أو السكينة أو السلام الداخلي أو الصفاء الذهبي. جوّ درامي سينمائي يسيطر على المشهد العامّ للوحات كبيرة الحجم: ألوان زاهية ومناظر طبيعية ومجّانية دعابيّة، متداخلة مع شعور بالهروب والقلق محفوف بلمحات تشويقية قريبة من أفلام هوليوود المشحونة بالمفاجآت والحذر. مشاهد درامية متخفّفة من وقع الواقع وقساوته، ومن الثقل التراجيدي للحياة على الضفّة الأخرى، أو تلك التي تتراكم وتكتنز تحت الجلد.
يشعر الداخل قاعة غاليري أجيال في يوم صيفيّ ملتهب وسط شارع يعجّ بزحمة الناس وأبواق السيّارات، أنّه دخل فسحة تأمّل أو استراحة ذهنية ممّا يدور في بيروت
المياه بطبيعتها وملمسها العاطفي الذي يُدخل الهدوء إلى الجلد، فيها شيء من هذه الدعابة التي التقطتها حواسّ ريم الجندي بإحساس عالٍ وعرفت كيف تطوّعها في لعبة انعكاسات الأضواء والعتمة متأثّرة بلعبة الظلال والزرقة والعزلة عند إدوارد هوبر. فصنعت من كلّ تلك العناصر الطبيعية مجتمعةً مشاعر عاطفية مبتذلة باردة ومضمرة، وأحياناً غامضة تنذر بشيء ما خطير! وفي لغة الألوان والفنّ التشكيلي، المياه “لبّيسة” وحمّالة أوجه، كما هي عند الفنّان الإنكليزي ديفيد هوكني. قد تكون مرِنة وحنونة وانسيابية وشفّافة، هادئة وتحتها بركان، وقد تكون غامضة وهوجاء وفضفاضة ومقلقة كالأرواح البشرية أو الشخصيات.
مياه اللايقين
ولمّا كانت المياه اكتسبت في لاوعينا رمزيّات متعدّدة على امتداد التاريخ كالموت والحياة والحكمة والمعرفة غير المحدودة ومرور الوقت والحرّية والعزلة وكانت رمزاً للأبدية، فهي تحيلنا في لوحات ريم الجندي إلى خزّانٍ لكلّ إمكانيات الوجود وتحثّنا على الأسئلة الوجودية وما وراء الواقعية التي لا تنتهي مع الخروج من الغاليري. تنذر بعض المشاهد في بُرك السباحة بالخطر أو الإنذار، فـ “المياه كلّها بلون الغرق”، كما كتب الفيلسوف الروماني إميل سيوران. بُرك العدمية واللايقين. عالم أعزل، مألوف ولطيف، لكنّه غريب. ليس عالم الحياة الصاخبة، ولا عالم الموت من دون لون، بل هو بينهما. عالم بين الأرض والسماء حيث أشجار الصنوبر والنخيل المائل والبنايات الهائمة وامرأة تتكرّر متنقّلة بين لوحة وأخرى وبين لباس بحر بالأحمر وآخر بالأصفر وألوان أخرى. عالم بين الأفكار والشكّ والحياة العاديّة والقلقة المنعكسة على المياه، وبين الأرض الصلبة التي تحمل كلّ ذلك وتحمل حقيقة وجودنا وهي تمثّل اليقين.
في “ملمس الماء” ترسم ريم الجندي العزلة التي لا يمكن عيشها إلا من خلال بلاغة الأشياء التي تحلّ بديلاً للإنسان. ترسم حياة متصوّرة من مكان آخر كأنّها حكاية اغتراب تجريدية حميمة
الهروب إلى الوهم
إنّه “عالم الوهم للهروب من ثقل الواقع، حياة حقيقية وغير حقيقية في الوقت نفسه”، كما وصفته ريم في دردشة مع “أساس”. وتضيف: “هذا العالم الهادئ على شاطئ عمشيت (شمال لبنان) حيث هربت لأجد خلاصي هناك بعد كلّ ما مررت به من غيبوبة ومرض وحرب أهلية وزلازل ووباء وانفجار مرفأ بيروت وانهيار اقتصادي… هو خلاص صغير”.
بهذا المعنى “هي المياه التي أعيش بقربها وهي وهْم ليس لها ملمس بصريّ حقيقي، بل تأخذ شكلها ولونها من العناصر المحيطة بها، لكنّ هذا الوهم جميل كنت أبحث عنه وأحتاج إليه في الستينات من عمري بعدما مرّ العمر ولم أدرك الهدوء… هو مهرب للحفاظ على سلامة ذهنية وحسّية”. في النهاية تعتبر الجندي أنّ هذا المعرض كان بمنزلة علاج روحي من خلال المياه والمكان الهانئ البسيط على الشاطئ ومراقبته والتأمّل فيه ورسم كلّ هذه التجربة”.
إقرأ أيضاً: “أطلال رأس بيروت” لمحمّد الحجيري… رواية المقهى الزائل
في “ملمس الماء” ترسم ريم الجندي العزلة التي لا يمكن عيشها إلا من خلال بلاغة الأشياء التي تحلّ بديلاً للإنسان. ترسم حياة متصوّرة من مكان آخر كأنّها حكاية اغتراب تجريدية حميمة.