ظريف بين الاستقالة والإقالة

مدة القراءة 6 د

شكّل قرار الاستقالة، الذي أعلنه محمد جواد ظريف من موقع مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الاستراتيجية ورئيس مركز الدراسات الاستراتيجية التابع لرئاسة الجمهورية، صدمةً داخل الأوساط السياسية الإيرانية، خاصة داخل القوى الإصلاحية والمعتدلة التي رأت فيه رافعة مهمّة لمشروع إصلاح للدولة والسلطة وإعادة ترميم العلاقة بين النظام والقاعدة الشعبية.

 

في مقابل الصدمة الإصلاحية باستقالة محمد جواد ظريف من موقع مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الاستراتيجية، ساد صمت لافت بين قوى التيار المحافظ وأقطابه الذين فضّلوا الابتعاد عن التعليق على هذه الاستقالة لأنّها صبّت في مصلحتهم، ووفّرت عليهم جزءاً من المعركة التي كانوا يتحضّرون لها في مواجهة الرئيس الجديد مسعود بزشكيان ومشروعه الذي من المفترض أن يكون تغييريّاً وإصلاحيّاً.

عمل ظريف لثماني سنوات على رأس الدبلوماسية الإيرانية في عهد الرئيس الأسبق حسن روحاني، ولعب دوراً مفصلياً ومحورياً في إنجاح المفاوضات النووية مع مجموعة 5+1 والتوقيع على الاتفاق النووي عام 2015، بالإضافة إلى تاريخه الفاعل في كلّ المفاوضات الدولية التي شاركت فيها إيران من موقعه كمندوب دائم لإيران في الأمم المتحدة، سواء الأمور المتعلّقة بتداعيات الاحتلال الأميركي لأفغانستان عام 2001، أو احتلال العراق عام 2003، أو غيرها من المحطّات الأساسية المرتبطة بالقضايا والمسائل الخاصة بالشرق الأوسط ومنطقة غرب آسيا التي تشكّل العمق الاستراتيجي للنظام الإيراني.

حكومة لا يرضى عنها.. فعاد إلى الجامعة

في استقالته التي نشر خبرها على موقع التواصل الاجتماعي “X” أشار ظريف إلى انزعاجه من الآليّة التي أنتجت التشكيلة الحكومية التي اعتمدها الرئيس بزشكيان وقدّمها إلى البرلمان لنيل الثقة، وخاصة أنّ اختيارات الرئيس لم تكن منسجمة مع النتائج التي انتهت إليها اللجنة الاستشارية لاختيار الوزراء التي كلّف برئاستها مع فريق من الخبراء.

لم يكن الوصول إلى قرار الاستقالة وليد لحظة الإعلان عن التشكيلة الوزارية بل نتيجة سياقات بدأت مع الحملة الانتخابية

يبدو أنّ ظريف التقط المؤشّر إلى طبيعة المرحلة المقبلة والتسوية التي ستكون عليها السلطة، وأدرك أن لا موقع له في هذه التركيبة أو التسوية، وأنّ الآليّات التي ستعتمد في إدارة الشؤون الاستراتيجية والخارجية ستتحوّل إلى عبء على الرئيس، وقد تؤدّي إلى تعطيل التوصّل إلى سياسات سريعة وواضحة في الكثير من المسائل والقرارات. لذلك لم يكن أمامه سوى الهرب إلى التدريس في الجامعة باعتبارها المكان الذي لجأ إليه خلال السنوات الثلاث من رئاسة الرئيس السابق إبراهيم رئيسي.

لم يكن الوصول إلى قرار الاستقالة وليد لحظة الإعلان عن التشكيلة الوزارية، وإن كانت هذه التشكيلة قد لعبت دوراً حاسماً، بل نتيجة سياقات بدأت مع الحملة الانتخابية والدور المحوري والحاسم الذي لعبه ظريف في حشد القواعد الشعبية الرمادية والمتردّدة وإقناعها بالمشاركة لمصلحة بزشكيان، وبالتالي فوز بزشكيان بالرئاسة على حساب مرشّح الجناح المتشدّد في التيار المحافظ سعيد جليلي.

اتّهامات بالعمالة… والتفاف على الاتّهام

بدأ استهداف ظريف بحملة انتقادات واتّهامات من أقطاب التيار المحافظ وصلت حدّ اتّهام الرئيس الجديد باستخدام متّهمين بالعمالة وتضييع الحقوق الإيرانية والقومية ضمن فريقه السياسي والرئاسي، الأمر الذي دفع بزشكيان وظريف للالتفاف على هذه الهجمات واختيار موقع للمشاركة في رسم السياسات الاستراتيجية من خلف الكواليس بما يساعد في سحب الذرائع من هذه الجماعات.

ظريف

الهجوم الثنائي على ظريف قادته دوائر تابعة لمؤسّسة حرس الثورة الإسلامية، وصحيفة كيهان الناطقة باسم المرشد والدولة العميقة. وقد وصل إلى حدّ اتّهام ظريف بالعمل ضدّ المصالح الاستراتيجية للنظام. واستعادوا موقفه من ثنائية “السياسة والميدان” التي شكّلت عائقاً لعمله على رأس وزارة الخارجية.

لعب اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران دوراً كبيراً في التركيز على ظريف واستهدافه. واتُّهمَ بأنّه سيعمل على تمييع الموقف الإيراني وإضعاف الردّ الذي من المفترض أن يقوم به الميدان على انتهاك السيادة والأمن القومي لإيران. وذلك لمصلحة التوصّل إلى تسوية سياسية وفتح قنوات حوار جديدة مع الولايات المتحدة الأميركية.

عمل ظريف لثماني سنوات على رأس الدبلوماسية الإيرانية في عهد الرئيس الأسبق حسن روحاني، ولعب دوراً مفصلياً ومحورياً في إنجاح المفاوضات النووية

فريق رئيسي “أخرجه”؟

من جهة أخرى، لا تستبعد أوساط سياسية إصلاحية في الغالب أن تكون استقالة ظريف نتيجة صراع داخل صفوف الفريق الجديد للرئيس، وأنّ هذا الفريق الذي يطمح لإدارة المرحلة الجديدة لن يقبل بوجود شخص أو جهة عليا إلى جانب الرئيس تقوم برسم السياسات والتوجّهات، الأمر الذي يجعل منه مجرد أداة تنفيذية من دون أن يكون له دور في هذه الاستراتيجيات.

ربّما إشارة ظريف إلى حصول نجله على الجنسية الأميركية، التي وصفها بأنّها جنسية “قهريّة” نتيجة القوانين الأميركية التي تمنح الجنسية للمولودين على أراضيها، وامتلاك أولاد مسؤولين آخرين لهذه الجنسية بقرار اختياري ومسبق، تكشف عن خلفيات هذا الصراع داخل الدائرة الضيّقة لفريق الرئيس، وتحديداً النائب الأوّل والمساعد التنفيذي للرئيس، خاصة بعد إشارتهم إلى القانون الذي أقرّه البرلمان الإيراني عام 2022 الخاصّ بتولّي الأشخاص من ثنائيّي الجنسية مواقع حسّاسة وقيادية في الدولة والنظام.

الدّولة العميقة لا تريد تحوّلات جوهريّة

هذه الاستقالة مرتبطة طبعاً بالتشكيلة الحكومية التي أخرجها الرئيس، خاصة أنّ هذه التشكيلة تضمّ في صفوفها ثلاثة من وزراء الحكومة السابقة لرئيسي وأربعة من وزراء حكومة الرئيس الأسبق حسن روحاني، الأمر الذي يحمل على الاعتقاد بأنّ الدولة العميقة أو مراكز القرار في النظام لا تشعر بأنّها في مواجهة مخاطر حقيقية أو أنّها لم تصل بعد إلى قناعة بضرورة اللجوء إلى اعتماد تغييرات جذرية في سياساتها وآليّات تعاملها مع العملية السياسية.

إقرأ أيضاً: الحكومة الإيرانيّة.. الامتحان الأوّل بين المرشد والرّئيس

بالإضافة إلى هذه القناعة، تسعى مراكز القرار إلى عدم السماح بإحداث تحوّلات جوهرية في هذه المرحلة الدقيقة التي تمرّ بها إيران، خصوصاً أمام حجم التحدّيات التي تواجهها نتيجة اغتيال هنية، وإمكانية تصاعد الأمور التي قد تؤدّي إلى دخول إيران حرباً إقليمية مباشرة نتيجة تداعيات الضربة التي تستعدّ لتوجيهها انتقاماً لانتهاك سيادتها، في حال لم يتمّ التوصّل إلى تسوية أو صفقة كبيرة تراعي المصالح الاستراتيجية للنظام وموقعه على الخريطة الإقليمية والدولية.

مواضيع ذات صلة

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…

حماس وأزمة المكان

كانت غزة قبل الانقلاب وبعده، وقبل الحرب مكاناً نموذجياً لحركة حماس. كان يكفي أي قائد من قادتها اتصال هاتفي مع المخابرات المصرية لتنسيق دخوله أو…