انطلقت في جنيف مشاورات برعاية أميركية لتهدئة الحرب المنسيّة في السودان، والمتواصلة منذ نيسان 2023. وقد خلّفت نحو 20 ألف قتيل وأكثر من عشرة ملايين نازح ولاجىء، وشبه مجاعة بين السكّان ودماراً هائلاً في البنية التحتية تقدّر خسائره بما يفوق 150 مليار دولار. ورسمت خطوط تقسيم جديدة في البلد المنكوب باللعنات. فما أفق هذه المحادثات؟ وهل تنجح بغياب الجيش السوداني، بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان؟ وما علاقة إيران وروسيا بالحراك الأميركي المفاجىء… من جنيف؟
انطلاقة جولة المحادثات الجديدة بين الأطراف في السودان، برعاية أميركية، لا تبشّر بالتفاؤل. الجيش السوداني بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان يغيب عنها. وهو العمود الفقري للحكومة والطرف الرئيسي في المعارك، بينما يحضر خصمه اللدود “قوات الدعم السريع” بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”. إضافة إلى حضور السعودية كدولة مضيفة مع سويسرا، والأمم المتحدة والاتّحاد الإفريقي ومصر والإمارات بصفة مراقبين.
انطلاقة جولة المحادثات الجديدة بين الأطراف في السودان، برعاية أميركية، لا تبشّر بالتفاؤل
لماذا يغيب البرهان؟
السبب المعلن لرفض الجيش المشاركة هو إصراره على تطبيق اتفاق جدّة أوّلاً قبل الذهاب إلى أيّ مفاوضات جديدة.
كانت الرياض وواشنطن رعتا منذ أيار 2023 محادثات بين الجيش والدعم السريع أثمرت اتفاقاً في جدّة بين الجانبين للالتزام بحماية المدنيين والخروج من المناطق السكنية. لكنّ النتيجة كانت الفشل وتصاعد حدّة المعارك وارتكاب مجازر في حقّ المدنيين العزّل.
في 22 تموز الماضي، دعت واشنطن الطرفين إلى جولة جديدة من المفاوضات في جنيف بهدف توسيع نطاق إيصال المساعدات الإنسانية وإيجاد آليّة مراقبة وتدقيق لضمان تطبيق أيّ اتفاق. لكنّ الجيش السوداني تشكّك في سبب نقل المفاوضات من السعودية إلى سويسرا، خصوصاً بعد الإعلان عن أجندة المفاوضات والدول المستضيفة والجهات المراقبة من دون التشاور مع الحكومة السودانية.
كما يتحفّظ الجيش على مشاركة دولة الإمارات والهيئة الحكومية للتنمية في القرن الإفريقي وشرق إفريقيا “إيغاد” بصفة مراقبين، باعتبارهما لا يخفيان انحيازهما لقوات حميدتي. وكان لافتاً عدم دعوة جامعة الدول العربية إلى الاجتماع، الأمر الذي دفعها إلى التعبير عن امتعاضها من تجاهلها، لا سيما في شأن أساسي يتعلّق بدولة عربية.
كانت الرياض وواشنطن رعتا منذ أيار 2023 محادثات بين الجيش والدعم السريع أثمرت اتفاقاً في جدّة بين الجانبين للالتزام بحماية المدنيين
من شأن إصرار الجيش على مقاطعة مؤتمر كهذا أن يضيف إلى المشهد السوداني المعقّد أصلاً المزيد من التعقيد. وغيابه سيفقد المؤسّسة العسكرية والحكومة أوراق الضغط الدبلوماسية ويظهرها بصورة المعرقل والرافض للحوار والبحث عن تسوية سلمية. وفي المقابل فإنّ مشاركة قوات “الدعم السريع” تمنحها مشروعية دولية وهامشاً للمناورة والتملّص من التزاماتها وتجاوز انتهاكاتها المتواصلة في مختلف المناطق السودانية.
واشنطن مصرّة: “بمن حضر”
في المقابل يُظهر إصرار واشنطن على عقد المؤتمر بمن حضر وفي أسرع وقت ممكن أنّها ماضية في فرض رؤية محدّدة وأجندة معيّنة للسودان لا تتطابق بالضرورة مع أجندة السودانيين. وتتمسّك بإدارة المفاوضات بالضغط وليّ الأذرع. وربّما نقلها من جدّة إلى جنيف هدفه أن تكون هي الموجّه الأساسي للعملية بالطريقة التي تتلاءم ومصالحها.
تطوّرات كثيرة توالت ويفهم منها أنّ الاهتمام الأميركي المفاجىء بوقف الحرب في السودان ليس حبّاً بالسودانيين، بل يأتي في إطار التنافس الدولي على النفوذ ومحاولات القوى الكبرى اغتنام حال الفوضى في البلد العربي الإفريقي لمدّ رؤوس جسر لهم فيه. واشنطن التي استثمرت كثيراً في نخر الجسد السوداني وتفتيته طبقاً لمصالحها، لا تنظر بعين الرضا إلى مساعي روسيا وإيران والصين إلى تثبيت مواطىء قدم لهم في الموقع الاستراتيجي المطلّ على البحر الأحمر والذي يشكّل قلب القرن الإفريقي وجسر التواصل العربي الإفريقي، فضلاً عن موارده الطبيعية وثرواته الهائلة.
يُظهر إصرار واشنطن على عقد المؤتمر بمن حضر وفي أسرع وقت ممكن أنّها ماضية في فرض رؤية محدّدة وأجندة معيّنة للسودان
روسيا على الخطّ أيضاً
قبل أشهر فتحت زيارة المبعوث الروسي للشرق الأوسط وإفريقيا ميخائيل بوغدانوف للسودان الآفاق لتسريع وتيرة التعاون بين البلدين. وكشف مساعد قائد الجيش السوداني ياسر العطا عن اتفاق بين البلدين تزوّد بموجبه روسيا السودان بالذخائر والأسلحة مقابل تمكينها من إقامة محطة تزوّد على البحر الأحمر. وبالفعل زار وزير المال السوداني جبريل إبراهيم موسكو، وأعلن أنّ الخرطوم لا تمانع منح موسكو قاعدة لتقديم الخدمات للسفن على البحر الأحمر. واستدرك مطمئناً الأميركيين أنّ في إمكانهم الحصول على منفذ بحريّ مماثل إذا أرادوا ذلك.
طبعاً تصريح الوزير وهذه المقايضة لم يبعثا الراحة في واشنطن. ذلك أنّ روسيا تنتشر في كلّ الأرجاء السودانية وتمدّ يداً إلى الجيش السوداني ويداً أخرى إلى “قوات الدعم السريع” التي تتشارك معها في استثمار جبال الذهب في دارفور، فضلاً عن انتشار “الفيلق الروسي” وريث قوات “فاغنر”، من ليبيا على البحر المتوسط حتى خليج غينيا الأطلسي، ولديه “مآثره” الكبرى في إفريقيا الوسطى وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.
إذا كان التعاون السوداني الروسي على هذا المستوى أثار قلق الإدارة الأميركية ودفعها إلى مشاركة أكبر في القضية السودانية لقطع الطريق على موسكو… فإنّ الدخول الإيراني اللافت والقويّ على خطّ الأزمة في السودان أعطى المبادرة الأميركية قوّة دفع أكبر وسرعة تحرّك للإمساك بالورقة السودانية قبل أن تفلت من يد واشنطن.
انخرطت الحكومة السودانية، وعمادها الجيش، في خطّة “مكلفة شعبياً” لتطبيع العلاقات مع إسرائيل. وقدّمت الكثير من التنازلات المؤلمة إرضاء لواشنطن
ماذا عن الدّور الإيرانيّ؟
الشهر الماضي استقبل الرئيس السوداني البرهان سفير إيران الجديد حسن شاه حسيني في إعلان رسمي عن معاودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بعد قطيعة استمرّت ثماني سنوات.
قبل ذلك أمدّت طهران الجيش السوداني بمسيّرات هجومية من طراز “مهاجر 6” ساهمت في إحداث فارق في المعارك مع “الدعم السريع” لمصلحة الجيش. كما لا تخفي طهران تطلّعاتها إلى تثبيت وجود عسكري لها على البحر الأحمر موازٍ لوجود حليفها الحوثي في اليمن.
أكثر من ذلك، انخرطت الحكومة السودانية، وعمادها الجيش، في خطّة “مكلفة شعبياً” لتطبيع العلاقات مع إسرائيل. وقدّمت الكثير من التنازلات المؤلمة إرضاء لواشنطن. لكنّها لم تنل في المقابل إلا التوبيخ الأميركي. فإدارة الرئيس جو بايدن لم تمارس أيّ ضغط فعليّ لوقف الحرب أو تحقيق هدنة مؤقّتة. لا بل شجّعت بمواقفها الملتبسة على مواصلة القتال وساوت بين الجيش و”الدعم السريع”.
هكذا لم يعد التقارب مع واشنطن الخيار الأوّل لحكومة الخرطوم. بل صار التوجّه نحو الصين وروسيا وإيران هدفها الأوّل. وعبّرت فعلاً بلسان نائب رئيس مجلس السيادة مالك عقار عن عدم رضاها عن السياسات الأميركية تجاه السودان.
لم يعد التقارب مع واشنطن الخيار الأوّل لحكومة الخرطوم. بل صار التوجّه نحو الصين وروسيا وإيران هدفها الأوّل
أميركا “تقوطب” على الدّور الرّوسيّ – الإيرانيّ
في أعقاب هذه التطوّرات المتسارعة، رفعت وزارة الخارجية الأميركية وتيرة حركتها في الملفّ السوداني. ووجّه الوزير أنتوني بلينكن دعوة إلى الأفرقاء السودانيين للقاء في جنيف حول طاولة واحدة، وأشرف شخصياً على التحضيرات وإجراء الاتّصالات، مع الإصرار على إجراء المحادثات حتى في ظلّ غياب الطرف الأساسي في الأزمة، أي الجيش.
هل ينجح الزخم الأميركي المستجدّ في لجم الحرب أو التخفيف من حدّتها والحدّ من أعداد الأفواه الجائعة أم تكون جنيف محطّة أخرى لشحن السودانيين بموادّ احتراق جديدة؟
هل ينجح التدخّل الأميركي في محاصرة الروس أو الإيرانيين والصينيين أم يجعل السودان ساحة مشتعلة من ساحات التنافس والاحتراب الدولي؟
إقرأ أيضاً: “العدالة والتّنمية” التّركيّ بعد 23 عاماً: “من وين لوين؟”