للمرّة الثانية خلال عشرة أشهر، تعقد منظمة التعاون الإسلامي اجتماعاً لها في جدّة في المملكة العربية السعودية. الاجتماعان يرتبطان بالحرب الإسرائيلية على غزة وكيفية العمل في سبيل وقفها ومنع اندلاع حرب إقليمية. وذلك يرتكز على إقامة دولة فلسطينية وفق المبادرة العربية للسلام التي طرحتها المملكة في القمّة العربية في بيروت عام 2002. الاجتماع الثاني جاء بناء على طلب إيران التي تريد تضامناً دوليّاً معها بعد اغتيال رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية في طهران. لكنّ نتائج الاجتماع الذي أدان استهداف إيران أعادت تأكيد الثوابت حول وجوب حلّ الدولتين، الحلّ الذي وافقت عليه إيران، في نصّ مكتوب، مجدّداً، وللمرّة الثانية بعد القمّة العربية الإسلامية في السعودية.
تفاصيل اجتماع منظمة التعاون الإسلامي في المملكة العربية السعودية، بطلب من إيران، تشير مجرياته ونتائجه بوضوح إلى الفوارق بين المقاربات السعودية وتلك الإيرانية لملفّات المنطقة، خصوصاً للقضية الفلسطينية. لكن لا بدّ في البداية من الإشارة إلى الأسباب التي دفعت إيران إلى المطالبة بعقد هذا الاجتماع الاستثنائي:
– أوّلاً، إثر اغتيال هنية لم تصدر مواقف دولية رسمية تحمل إدانة كافية لاستهداف الأراضي الإيرانية وخرق سيادتها، فوجدت طهران أنّها منتهكة ومستباحة ليس بالمعنى العسكري فقط بل بالمعنى السياسي، وأرادت البحث عن مظلّة دولية متضامنة معها.
للمرّة الثانية خلال عشرة أشهر، تعقد منظمة التعاون الإسلامي اجتماعاً لها في جدّة في المملكة العربية السعودية
– ثانياً، أرادت طهران خلق جوّ تحشيديّ ضدّ إسرائيل بسبب استهداف رئيس المكتب السياسي لحركة حماس لأنّ تل أبيب لم تتبنّ العملية بشكل رسمي، وهو ما خلق الكثير من التأويلات.
– ثالثاً، تمّ العمل على إثارة شكوك بشكل متعمّد في كيفية حصول الاغتيال. إذ تضاربت الروايات بين استهداف هنية بصاروخ بعيد المدى أو بصاروخ أطلق من غوّاصة أو بعبوة ناسفة أو بصاروخ قصير المدى يحمل رأساً متفجّراً بوزن 7 كلغ. وهو ما جعل الرواية الإيرانية ضعيفة ومتضاربة. وهذا ما لم تكن تريده طهران فأرادت تجاوزه سياسياً لتجاوز أيّ تأويلات أو تشكيكات.
– رابعاً، أرادت إيران تحصين موقفها السياسي والدبلوماسي والحصول على مظلّة لأجل احتفاظها بحقّ الردّ، وللحصول على غطاء لتوجيه ضربة ضدّ إسرائيل ردّاً على هذا الاستهداف. وبالتالي أرادت الارتكاز على إدانة منظّمة التعاون الإسلامي لاستهداف أراضيها.
– خامساً، تريد إيران أن تكون شريكة في كلّ الحلول المقترحة للمرحلة المقبلة التي تلي الحرب على غزة وما يخصّ القضية الفلسطينية، لا سيما أنّ كلّ المباحثات التي تجري بين الدول لا تشمل طهران، والتفاوض معها من قبل الأميركيين والأوروبيين محصور بالسعي إلى وقف إطلاق النار وليس الوصول إلى حلّ للقضية الفلسطينية.
تفاصيل اجتماع منظمة التعاون الإسلامي في المملكة العربية السعودية، بطلب من إيران، تشير مجرياته ونتائجه بوضوح إلى الفوارق بين المقاربات السعودية وتلك الإيرانية لملفّات المنطقة
أهداف إيران… وأطماعها
لم تنَل إيران كلّ ما تريده من هذا الاجتماع. فهي إلى جانب المظلّة التي أرادت توفيرها لنفسها، أرادت أن تكرّس نفسها مجدّداً الدولة الوحيدة الحريصة على القضية الفلسطينية والممسكة بتلابيبها انطلاقاً من علاقتها مع حركة حماس والجهاد الإسلامي والعمل المسلّح. وهو ما كانت سعت إليه طهران بعيد الأيام الأولى لاندلاع عملية طوفان الأقصى من خلال دعوة الدول الإسلامية إلى عقد اجتماع، فعملت المملكة حينها على دمج مؤتمر القمّة العربية بالقمّة الإسلامية وصدر عنه موقف واضح يشير إلى الالتزام بحلّ الدولتين، وقد وافق عليه آنذاك الرئيس إبراهيم رئيسي.
في بداية الاجتماع طلب القائم بأعمال وزارة الخارجية الإيرانية علي باقري كني الوقوف دقيقة صمت وقراءة الفاتحة على روح إسماعيل هنية. لكنّ طلبه قوبل بمطالبة المجتمعين بوجوب الوقوف دقيقة صمت وقراءة الفاتحة على أرواح كلّ الضحايا الذين سقطوا في غزة، فغضّ كني حينها النظر عن الأمر.
حاولت إيران خلال الاجتماع وضع اغتيال هنية في خانة اعتداء على الأراضي الإيرانية يشابه الاعتداء الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية. وهو ما يعني أنّها أرادت أن تجعل نفسها دولة معتدى عليها، فحصل نقاش من قبل المجتمعين في أنّ إيران هي التي تباهت بأنّها شريكة في عملية طوفان الأقصى، وأنّ الهدف من العملية ضرب مسارات سياسية في المنطقة، وبالتالي لا يمكن لإيران أن تضع نفسها في خانة أخرى.
لم تنَل إيران كلّ ما تريده من هذا الاجتماع. فهي إلى جانب المظلّة التي أرادت توفيرها لنفسها، أرادت أن تكرّس نفسها مجدّداً الدولة الوحيدة الحريصة على القضية الفلسطينية
إيران توافق على حلّ الدّولتين مجدّداً
استحصلت طهران على إدانة المؤتمر لاستهداف أراضيها، وأدان نائب وزير الخارجية السعودي الاعتداء على السيادة الإيرانية أيضاً، وهو ما قرأته طهران بإيجابية. لكن خرج الاجتماع بثوابت هي التي توضح الفوارق بين السياسة الإيرانية والسياسة السعودية تجاه القضية الفلسطينية، لا سيما لجهة تجديد البيان الختامي للمؤتمر على ضرورة الحفاظ على الهويّة العربية والإسلامية لمدينة القدس الشريف والسيادة الفلسطينية عليها لكونها جزءاً لا يتجزّأ من الأرض الفلسطينية المحتلّة منذ عام 1967 وعاصمة دولة فلسطين.
وافقت طهران على البيان كما في الاجتماع السابق، وهذا يعني أنّها توافق على حلّ الدولتين بخلاف ما كانت تدّعيه من رفض لذلك وإعلاناتها المتكرّرة عن رغبتها في إزالة إسرائيل من الوجود وإدانة الدول العربية التي توافق على المبادرة العربية للسلام.
استحصلت طهران على إدانة المؤتمر لاستهداف أراضيها، وأدان نائب وزير الخارجية السعودي الاعتداء على السيادة الإيرانية أيضاً، وهو ما قرأته طهران بإيجابية
مخاض الدّاخل الإيرانيّ الصّعب
جاء انعقاد المؤتمر ونتائجه في ظلّ مخاض سياسي تعيشه إيران ليس بسبب الخرق الأمني والعسكري بل بسبب تسلّم الرئيس الجديد مسعود بزشكيان مقاليد السلطة بعد انتخابه. وهو ما جعل إيران تعيش نوعاً من التضارب في الرؤى حول كيفية التعاطي مع المرحلة المقبلة سياسياً وعسكرياً.
1- كانت إيران بحاجة إلى تقديم صورة إيجابية للخارج من خلال إشارة الانفتاح التي تتمثّل باختيار مرشّح إصلاحي لرئاسة الجمهورية.
2- أبرز مسعود بزشكيان دوراً أساسياً لمحمد جواد ظريف واستحدث له موقعاً يرقى إلى مستوى نائب رئيس للجمهورية.
3- سعى بزشكيان إلى إقناع مرشد الجمهورية الإسلامية بعدم الردّ العنيف على إسرائيل بشكل عسكري وموسّع، وتأجيل الردّ أو انتظار تنفيذ عمليات أمنيّة لا تكون واضحة كي لا يؤدّي ذلك إلى ضرب مسارات التفاوض مع الأميركيين والغرب.
جاء انعقاد المؤتمر ونتائجه في ظلّ مخاض سياسي تعيشه إيران ليس بسبب الخرق الأمني والعسكري بل بسبب تسلّم الرئيس الجديد مسعود بزشكيان مقاليد السلطة
لكنّ هذه المساعي سرعان ما تبدّدت بفعل الصراعات الداخلية وتشهد عليها أحداث عديدة:
1- أصرّ خامنئي على أن توجّه إيران الضربة انطلاقاً من أراضيها وباتجاه إسرائيل لا الدول الأخرى.
2- عدم قبول الحرس الثوري بالتشكيلة الحكومية التي اقترحها محمد جواد ظريف، فتمّ إدخال تعديلات عليها بناء على ضغط من الحرس على بزشكيان للسماح له بتمرير حكومته.
3- ممارسة المزيد من الضغوط التي دفعت محمد جواد ظريف إلى الاستقالة من منصبه.
الحزب ملزم بالردّ على استهداف الضاحية الجنوبية. وبالتالي يمكنه أن ينفّذ ضربة قوية ضدّ الإسرائيليين قد تستدعي ردّاً من قبلهم
إيران استاءت من خطاب نصرالله
يُظهر كلّ ذلك أنّ طهران لم تخرج من المخاض بعد، وسط معلومات تفيد بأنّ التضارب في الرؤى الإيرانية لا يزال قائماً وسط تفضيلات من قبل جهات داخل بنية النظام للارتكاز على عمل الحلفاء ضمن قوى المحور في الإقليم للردّ على الضربات وعدم الانخراط مباشرة في أيّ معركة. هنا تفيد بعض المعطيات أنّ الإيرانيين عبّروا عن انزعاجهم من الموقف العالي السقف الذي أطلقه الأمين العام للحزب في خطابه الأوّل بعيد اغتيال هنية وفؤاد شكر. وإثر هذه الملاحظة تراجع نصر الله في الخطاب الثاني وقال علانية إنّ إيران غير ملزمة بالقتال.
من ضمن النقاشات الإيرانية حول كيفية الردّ، برزت فكرتان:
– الأولى أنّ الحزب ملزم بالردّ على استهداف الضاحية الجنوبية. وبالتالي يمكنه أن ينفّذ ضربة قوية ضدّ الإسرائيليين قد تستدعي ردّاً من قبلهم، وهو ما يقود إلى أيام قتالية، وبذلك تتجنّب إيران الردّ بشكل مباشر.
– الثانية أن تفعّل فصائل المحور ككلّ عمليّاتها ضدّ إسرائيل كي لا تنخرط إيران، وسط تعويل إيراني على دور متقدّم للحوثيين في استئناف عملياتهم. فطهران تريد تكريس دور الحوثيين الفاعل في البحر الأحمر من خلال العمليات التي يخوضونها.
إقرأ أيضاً: فتنة غزّة تشعل “التكفير” المتبادل بين الجماعة والتكفيريين..
تحت هذا البند تندرج مفارقة تصريح عبد الملك الحوثي الذي هاجم فيه بعض الدول العربية إذ قال: “بعض الأنظمة العربية لا تزال تتعاون بشكل كبير مع العدوّ الإسرائيلي”، مشيراً إلى أنّ “هناك أربعة أنظمة عربية تتعاون معه بشكل واضح”. وانتقد المتعاطفين مع “خدش أذن ترامب”، مشيراً إلى أنّهم “لم يصدروا حتى بيانات إدانة تعبّر عن موقفهم من جريمة استهداف قائد إسلامي كبير”. وأوضح أنّ “بعض الأنظمة العربية تصنّف الفصائل الفلسطينية، بما في ذلك كتائب القسّام وحركة حماس وسرايا القدس، إرهابية على الرغم من الجرائم الفظيعة التي يرتكبها العدوّ الإسرائيلي”.