فتنة غزّة تشعل “التكفير” المتبادل بين الجماعة والتكفيريين..

مدة القراءة 8 د

منذ دخولها على خطّ “حرب الإسناد”، استخدمت الجماعة الإسلامية خطاباً يوظّف الدين بتأويلات معيّنة ومجتزأة، لإسكات أيّ صوت معترض، وتقديم نفسها بصورة “الفرقة المنصورة”. وتوّجت هذا الخطاب بالاشتراك مع سائر أفرع الإخوان المسلمين وجبهات محور الممانعة في حملة شرسة للتحريض ضدّ السعودية إبّان موسم الحج. الأمر الذي أوجد حالة احتقان عند السلفيين.

إزاء هذه الضّغوط، قام بعض السلفيين باستغلال مناسبة عابرة من تنظيم الجماعة الإسلاميّة، لتوجيه رسالة سياسيّة إليها بنكهة دينية، تروم تذكيرها بأنّه لا يمكنها استخدام الخطاب الديني من أجل تشريع الحزب وسلاحه “سنّياً” وطيّ صفحة تورّطه في الدم السوري. مذّاك اندلع سجال كلامي ذو طابع “تكفيري” بين مجموعات من الفريقين، زاد من حدّة الاستقطاب في الشارع السنّي “المتوتّر”.

قبل أسبوعين تقريباً، نظّمت الجماعة الإسلامية محاضرة دينية استضافت الشيخ عبد الهادي الخرسا، وهو عالم أزهري وفقيه حنفيّ كبير، سوري الجنسيّة، في قاعة “الإمام الغزالي” بمسجد خديجة في ضاحية أبي سمراء بمدينة طرابلس. سبقت المحاضرة حملة شنّها السلفيون عبر  وسائل التواصل الاجتماعي، هاجموا فيها الجماعة الإسلامية لاستضافتهم الخرسا لأنّه “أشعريّ”. وطال الهجوم الأشاعرة والصوفية. مما أدى الى إقفال المسجد في صلاتي الظهر والعصر، بتوصية من القيّمين عليه، وموافقة مفتي طرابلس والشمال محمد إمام، خوفاً من حصول احتكاك قد يفضي إلى فتنة.

للتوضيح فإنّ الخرسا استضافته دار الفتوى عدّة مرّات في مجالس القراءات التي تقيمها. وهو تلميذ الشيخ عبد الرحمن زين العابدين المشهور بـ”الشاغوري”، عالم الدين والأديب والشاعر والمتصوّف. ويذكر موقع “نسيم الشام” للعلاّمة السوري الراحل الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، أنّ الشاغوري كان يتمثّل بقول الإمام مالك: “من تفقّه ولم يتصوّف فقد تفسّق، ومن تصوّف ولم يتفقّه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقّق”. وهو المبدأ نفسه الذي سار عليه أغلب علماء الشام، ومنهم الشيخ الخرسا.

“الأشعرية” فهي مدرسة فقهية سنّية تنسب إلى الإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، وتعتبر المذهب شبه الرسمي لـ”الأزهر الشريف”

خلاف حول أولوية “العقل” و”النقل”

أمّا “الأشعرية” فهي مدرسة فقهية سنّية تنسب إلى الإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، وتعتبر المذهب شبه الرسمي لـ”الأزهر الشريف”، وللغالبية العظمى من علماء الشام، ومشايخ دار الفتوى في لبنان، وعلى رأسهم مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، والمفتي الشهيد حسن خالد. ومن أبرز علماء الأشاعرة الأئمّة: الغزالي والجويني وابن حجر والرازي وابن عساكر والعزّ بن عبد السلام والنووي والقاضي عياض. ولكلّ واحد منهم إرث واسع لا يزال محلّ إجلال وتقدير.

بيد أنّ ثمّة خلافاً قديماً بين المدرسة الأشعرية والمدرسة السلفية. ففيما ترتكز الأولى على “تقديم العقل على النقل”، وتجمع بين الثبات والمرونة ودحض الأفكار المنحرفة وشطحات بعض الصوفية، فإنّ الثانية ترتكز على النقل بحرفيّته وجموده دون السماح لأيّ تعديل وفق قاعدة: “لا يمكن أن يتعارض عقل صريح مع نقل صحيح، وبالتالي المسألة غير واقعة أساساً”. على يمين كلّ مدرسة فقهية، ظهرت فرق متزمّتة، نحت صوب تكفير المدارس الأخرى، رغم كلّ الجهود المبذولة من كبار علماء المدرستين لتوقيف هذه المعارك التي لا طائل منها إلّا الإمعان في تقسيم وشرذمة المسلمين.

لا تعتنق الجماعة الإسلامية، كما تنظيم الإخوان المسلمين، أيّ مذهب أو مدرسة فقهية. بل تحرص على أن تكون الوعاء الحاضن لمختلف المدارس الفقهية،

يقول تقيّ الدين ابن تيمية، مرجع السلفية الأبرز والأكثر تبجيلاً، عن الأشعرية: “لهم مساعٍ مشكورة، وحسنات مبرورة في الردّ على كثير من أهل البدع والانتصار لكثير من أهل السنّة والدين”. كما قال عنهم مفتي السعودية الأسبق الشيخ عبد العزيز ابن باز، وهو عالم وفقيه كبير، وأحد أبرز أعلام السلفية المعاصرين: “لا يجوز تكفير الأشاعرة والقول عنهم إنّهم ليسوا من أهل السنّة، فلهم جهود عظيمة وعلم جم وآثار مشكورة لا يجوز إنكارها”.

(تبرئة السلفيين من الغلو والتكفير د. ابو بكر شهال)

حاضنة الهويّات المتناقضة

لا تعتنق الجماعة الإسلامية، كما تنظيم الإخوان المسلمين، أيّ مذهب أو مدرسة فقهية. بل تحرص على أن تكون الوعاء الحاضن لمختلف المدارس الفقهية، فهي ليست سلفية ولا صوفية، ولا أشعرية. وهذا العامل يعدّ من أهم أسرار استمرارية الإخوان المسلمين منذ ما يقارب قرناً، مع براعتهم في تظهير الهويّة الفقهية التي تتناسب مع تطوّرات كل مرحلة، بما يخدم أهدافهم السياسية.

الجماعة الإسلامية وعوض أن تتلقّف الرسالة وتستوعب مضامينها، أطلقت العنان لناشطيها عبر منصّات التواصل للخوض في سجال حادّ ضد السلفيين، وتوجيه انتقادات مبطّنة إلى مفتي طرابلس والشمال الشيخ محمد إمام لموافقته على إقفال المسجد. وراحوا يزايدون عليه. وهو المعروف بعلمه الغزير وورعه ورصانته.  ونجحت  الجماعة الإسلامية في وضع السلفيين في مواجهة الصوفيين. فتحوّل السجال إلى حرب على المنابر الافتراضية حافلة بالتراشق بمفردات ومصطلحات “غير حميدة”.

بان حجم الاحتقان من خطاب الجماعة الإسلامية من خلال توجيه البعض من السلفية كلامهم بشكل مباشر إليها، وانتقادها على تسخيف كل الاعتراضات والتساؤلات التي توجّه اإليها على خلفية مشاركتها بحرب الإسناد، بالقول: “وأنت، ماذا قدّمت لغزة؟”. فكان الردّ بأنّ الدين الإسلامي أهم من أي قضية أو جغرافيا.

الجماعة الإسلامية وعوض أن تتلقّف الرسالة وتستوعب مضامينها، أطلقت العنان لناشطيها عبر منصّات التواصل للخوض في سجال حادّ ضد السلفيين

إضافة إلى بعض الردود والفيديوهات التي ذُكر فيها الإمام محمد عبد الوهاب، مؤسّس الحركة الدينية الإصلاحية التي تعرف بـ”الوهابيّة”، والذي يحظى بالإجلال والتقدير عند السلفيين ويوصف بـ”الإمام المجدّد”. وهي من المرّات النادرة التي يذكر فيها اسم الإمام في مثل هذه المعارك الكلامية بين السلفية وأيّ فريق آخر .

(تدوينة عزام الأيوبي عن السجال الكلامي)

خطورة توظيف الدّين في اللعبة السياسية

تعزّزت النزعة السياسية في هذه الحرب الكلامية بشكل أكبر مع دخول إعلام الحزب لتقديم “الإسناد” للجماعة الإسلامية، من خلال ترويجه قيام السلفيين “التكفيريين” بمنع الصلاة في مساجد طرابلس. وفي ذلك افتئات واضح على السلفيين الذين أوضحوا أنّهم ليسوا وراء قرار إقفال المسجد. ومن بينهم الشيخ رائد حليحل، أحد أبرز مشايخ السلفية، والرئيس الأسبق لهيئة علماء المسلمين، والذي أكّد في خطبة الجمعة عدم علاقة السلفيين بما حصل، وأنّهم لو أرادوا لمنعوا إقامة هذه المحاضرة سواء كانت في المسجد أو في القاعة أو في أيّ مكان آخر.

تكمن خطورة توظيف الدين من أجل تبادل رسائل سياسية في صعوبة حصر ارتداداتها، وخصوصاً في طرابلس. حيث الدين ليس مسألة شخصية، بل يعدّ حجر الزاوية في بناء الهويّة الفردية، وركناً أصيلاً في الثقافة المجتمعية. ناهيكم عن كون طرابلس حاضنة التيارات السلفية التي تحوّلت بفعل التراكم التاريخي الى حالة اجتماعية متجذّرة تتمتّع بتأثير لا يمكن تجاوزه. حتى ولو كانت متشظيّة إلى حالات فردية. فهناك فئة من الملتزمين دينياً ممّن ينتمون إلى المذهب السلفي يرفضون الصلاة خلف إمام صوفيّ. كما أنّ هناك شريحة لا بأس بها منهم تمتنع عن المشاركة في الاقتراع في الانتخابات النيابية لأسباب دينية بحتة.

الى ذلك، تؤكّد مصادر هيئة علماء المسلمين لـ”أساس” أنّ الهيئة ومشايخ السلفية بشكل عام يكتفون بما أوضحه الشيخ رائد حليحل: “لسنا جزءاً من هذا السجال وامتنعنا عن الخوض به، من باب الاعراض عن الفتنة. كما بذلنا جهوداً كبيرة لاحتواء ردود الأفعال الجدليّة على وسائل التواصل الاجتماعي”.

تؤكّد مصادر هيئة علماء المسلمين لـ”أساس” أنّ الهيئة ومشايخ السلفية بشكل عام يكتفون بما أوضحه الشيخ رائد حليحل: “لسنا جزءاً من هذا السجال وامتنعنا عن الخوض به

ومع ذلك فإنّ الحرب الكلامية استمرّت، وزادت حدّتها. حتى إنّ اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنيّة تحوّل إلى مادّة للتنابذ، ولا سيما بعدما سعى ناشطو ومؤثرو الجماعة الإسلامية إلى ردّ اعتبارها إثر الهجمة السلفية، من خلال استغلال قدسيّة الشهادة. فردّ البعض في الفريق الآخر بالتشكّك في كون هنيّة شهيداً، انطلاقاً من الجغرافيا التي اغتيل فيها، وإمامة مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي الصلاة عليه، نظراً للخلاف العقائدي القديم والمعروف بين السنّة والشيعة.

(تدوينة الشيخ خالد عبد القادر عن الترحم والمنع بخصوص اسماعيل هنية، والتي خلقت جدلاً حاداً للغاية لا يزال مستمراً)

وتصدّرت عبارة “مستراح منه” هذه الحرب الكلامية الجدلية. حيث ينظر فريق محدود من السلفية إلى أنّ حماس والجماعة الإسلامية يقودان السنّة نحو التطبيع السياسي والديني مع النسخة الشيعية الإثني عشرية الأكثر تطرّفاً التي يعتنقها ملالي إيران ويعملون على ترويجها، والتي تتّخذ من السنّة عدواً تاريخياً.

(تدوينة الشيخ مصباح الحنون عن الصلاة على هنية بمسجد محمد عبد الوهاب)

في المقابل، تنفي مصادر مقربة من الجماعة الإسلامية  لـ”أساس” مسؤوليتها عن هذا الجدل الانقسامي: “ما حصل لا علاقة للقيادة به، بل هو ناتج عن حماسة عدد من الناشطين الشبان”. وتؤكّد المصادر أنّ قيادة الجماعة “تدّخلت لاحتواء هذا الجدل الكلامي، الأمر الذي تُرجم بتراجع حدّة الخطاب لدى الناشطين الشبان المقرّبين من الجماعة بشكل ملموس”، عازية استمرار السجال إلى كلام وتدوينات أشخاص لا ينتمون إلى التنظيم.

إقرأ أيضاً: كيف منعت السّعوديّة الغرب من مصادرة أصول روسيا؟

مواضيع ذات صلة

برّي ينتظر جواب هوكستين خلال 48 ساعة

تحت وقع النيران المشتعلة أعرب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب موافقته على أن يستكمل الرئيس جو بايدن مسعاه للوصول إلى اتفاق وقف لإطلاق النار في…

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…

تعيينات ترامب: الولاء أوّلاً

يترقّب الأميركيون والعالم معرفة ماذا تعلّم الرئيس ترامب من ولايته الأولى التي كانت مليئة بالمفاجآت وحالات الطرد والانشقاقات، وكيف سيكون أسلوب إدارته للحكم في ولايته…