تشهد الأحجار الباقية من حائط برلين الفاصل بين الألمانيّتين حتى ما قبل 4 عقود على أكثر من عملية تبادل جواسيس وسجناء ومعارضين سياسيين بين المنظومتين الشرقية والغربية إبّان الحرب الباردة. سقطت التوازنات والمعادلات السابقة، لكنّ موسكو وواشنطن ما زالتا تحتاجان إلى مكان ووسيط يعوّلان عليه لإنجاز صفقات من هذا النوع.
عندما كان الغليان والاحتقان في ذروته على خطّ بيروت طهران قبل أيام، كان جهاز الاستخبارات التركي يضع اللمسات الأخيرة على أكبر صفقة إفراج عن الرهائن منذ الحرب العالمية الثانية حتى اليوم تحت عنوان “دبلوماسية السلام” بين روسيا و6 دول غربية.
بذلك يكون جهاز الاستخبارات التركي “ميت” قد منح كبار كتّاب سيناريوهات أفلام الجاسوسية وصفقات تبادل الرهائن، فرصة إعداد مادّة دسمة تستحقّ البحث في تفاصيلها. صحيح أنّ التنفيذ جاء بتوقيع الاستخبارات التركية، لكنّ الوقائع على الأرض تقول إنّ العشرات أو المئات من كوادر استخبارات 7 دول وأجهزتها الأمنيّة شاركوا منذ أسابيع في الإعداد لخطّة تحويل مطار اسن بوغا في أنقرة مركزاً لهبوط 7 طائرات تنقل 26 سجيناً لإتمام تبادلهم بين روسيا والغرب.
أبطال المسلسلات البوليسية
رفضت تل أبيب الوساطة التركية في غزة فقرّرت أنقرة القيام بذلك على خطّ آخر لا يقلّ قيمة وأهمّية. ما زال نتنياهو يناور لعرقلة أيّ جهود إقليمية تبذل على طريق التهدئة، ويرفع سقف ألاعيبه بهدف دفع المنطقة نحو الانفجار الكبير، لكنّ تركيا توّجت قبل أيام جهود الوساطة بالإفراج عن عشرات السجناء والرهائن في أكبر صفقة تبادل بين موسكو والغرب وسط إشادات من الجانبين.
توجز المعارضة الروسية ألكسندرا سكوتشيلنكو، التي كانت بين 26 شخصاً على لوائح المقايضة في الصفقة الروسية الغربية، المشهد بقولها: “كان رجال الاستخبارات التركية الذين شاركوا في العمليات الميدانية يقفون مثل أبطال المسلسلات البوليسية: ملابس سوداء أنيقة ونظّارات تحجب العيون وسمّاعات في الأذن وحوار بالإنكليزية بطلاقة وروائح عطور فاخرة تفوح في المكان”.
يعبّر الرئيس الأميركي جو بايدن عن فرحته وتقديره للجهود التركية بقوله: “نشكر حليفنا التركي على كلّ ما قام به
لم تعد التوصيفات لما جرى في الصفقة مسألة مهمّة حتى لو كانت التسميات تراوح بين جواسيس وسجناء وعملاء وأسرى. المهمّ هو إنجاز المقايضة بنجاح وسط تكتّم شديد على مدارج مطار أنقرة، في عملية اعتبرها البيت الأبيض “الصفقة الأكثر تعقيداً من نوعها”، ووصفها الرئيس الأميركي بايدن بالإنجاز الدبلوماسي المهمّ.
أردوغان اللاعب السريّ
سبق أن كانت هناك عمليات تبادل فردية أو محدودة بين روسيا والغرب كما جرى عام 1986 إبّان الحرب الباردة، حين شملت 10 أشخاص دفعة واحدة. ثمّ كانت هناك عملية في عام 2010 عندما تمّت مبادلة 14 جاسوساً كان بينهم العميل المزدوج سيرغي سكريبال، والعميلة الروسية آنا تشابمان. وبعدها عملية عام 2022 التي شملت مبادلة نجمة كرة السلّة الأميركية بريتني غراينر بتاجر السلاح الروسي فيكتور بوت على مدرج مطار أبو ظبي. لكنّ الإنجاز هذه المرّة كان أكبر وأهمّ، إذ شمل 26 شخصاً بينهم وجوه بارزة يتمّ الإفراج عنهم ونقلهم إلى العاصمة التركية ثمّ تسليمهم إلى بلدانهم، بعد تحرّك بدأ قبل أشهر وتوّج في تموز المنصرم باتفاقية متعدّدة الأطراف شاركت فرق أمنيّة وعدلية وسياسية من روسيا و6 بلدان غربية في إعدادها وتنفيذها.
الوساطة في عرف العلاقات الدولية هي عملية سرّية يقوم بها لاعب محايد تختاره أطراف النزاع لتسهيل التواصل والتفاوض دون أن يكون له حقّ اتّخاذ القرارات بمفرده. ما قامت به أنقرة كان أكبر وأهمّ من ذلك، وتجاوز نقل الرسائل إلى تقديم الاقتراحات والتوصيات وعرض خدمات الدعم اللوجستي لإنجاز المهمّة انطلاقاً من علاقاتها المميّزة مع جميع الأطراف المعنيّة.
ما زال نتنياهو يناور لعرقلة أيّ جهود إقليمية تبذل على طريق التهدئة، ويرفع سقف ألاعيبه بهدف دفع المنطقة نحو الانفجار الكبير
يعبّر الرئيس الأميركي جو بايدن عن فرحته وتقديره للجهود التركية بقوله: “نشكر حليفنا التركي على كلّ ما قام به. العملية ترجمة مهمّة لمعنى امتلاك أصدقاء حقيقيين نثق بهم”. الجانب الروسي لم يتأخّر في توجيه رسالة شكر رفيعة المستوى لتركيا على ما بذلته من جهود أيضاً. كان العالم يحتاج فعلاً إلى محطّة لالتقاط أنفاسه وسط كلّ هذا التصعيد والتوتّر الحاصلين على أكثر من جبهة، لكنّ جهاز الاستخبارات التركي دينامو العملية كان بين الرابحين أيضاً عندما أثبت كفاءته وقدراته العالية عبر عملية معقّدة ومتشابكة بكلّ تفاصيلها وتحتاج إلى التواصل والمتابعة الدقيقة تجنّباً لوقوع ما هو ليس في الحسبان.
التفاصيل الكاملة
لماذا تركيا أوّلاً وليس باريس أو لندن أو روما مثلاً؟ لأنّ العديد من العواصم الغربية لا تثق بعضها ببعض في تنفيذ عملية من هذا النوع، ولأنّ الثقة بين هذه العواصم الأوروبية وروسيا منعدمة تقريباً. تمّ البحث عن طرف ثالث مقبول ويمكن الرهان عليه لإنجاح مثل هذه الصفقات. وهنا يجني الغرب ثمار إبقاء إردوغان لأبواب الحوار والتواصل قائمة مع نظيره الروسي بوتين على الرغم من كلّ الانتقادات التي وجّهت له. الرئيس التركي هو الوحيد في الأطلسي القادر على التواصل بسهولة مع بوتين منذ الغزو الروسي لأوكرانيا.
من أين جاء الاقتراح؟
مصادر تكشف لـ”أساس” إنّ الطلب أميركي نتيجة الضغوطات الداخلية لإنجاز صفقة من هذا النوع. عرضته واشنطن على أنقرة التي نقلته لموسكو فأشعلت الأخيرة الضوء الأخضر لتركيا التي تملك في سجلّها مهامّ سابقة أُنجزت بنجاح.
يقول جهاز “ميت” في بيان له إنّ الهدف من وراء هذه الوساطة هو تعزيز السلم الإقليمي وتبنّي لغة الحوار والتفاوض في حلّ المشاكل
متى بدأ التحرّك وتفعيل الدور التركي؟
تقول التصريحات الصادرة عن القيادات التركية إنّ الخطّة أعدّت في شهر تموز المنصرم، لكنّ الحقيقة أنّ حراك الثنائي فيدان – كالن رئيس المخبارات على خطّ واشنطن – موسكو – برلين المكّوكي منذ أشهر هو الذي فتح الطريق أمام وزير الخارجية التحضير لأكبر عملية تبادل رهائن منذ الحرب العالمية الثانية. عندما كان فيدان وكالن الواقفان دائماً على يمين إردوغان ويساره يكثّفان زياراتهما لموسكو والعواصم الغربية في وقت كانت الأنظار حينه مشدودة نحو الملفّات الإقليمية الحسّاسة. لم يخطر ببال أحدنا أنّ أنقرة تعدّ لطبخة بهذا الحجم والوزن يشرف عليها جهاز الاستخبارات التركي. لو لم تكن العملية بهذه الأهمّية لما كان بوتين وبايدن ليستقبلا المفرج عنهم مثل ضابط الأمن الروسي فاديم غراسيكوف المتّهم بقتل أحد المعارضين في برلين عام 2019، ومراسل صحيفة “وول ستريت جورنال” إيفان غيرشكوفيتش المتّهم بالتجسّس لأميركا، والجندي السابق في مشاة البحرية الأميركية بول ويلان، والصحافية ألسو كورماشيفا، والناشط الروسي البريطاني فلاديمير كارا مورزا.
كيف ستكون ارتدادات هذه الخدمة التي قدّمها جهاز الاستخبارات التركي للجانبين الروسي والأميركي؟ وأين ستردّ واشنطن وموسكو هذا الجميل؟
يقول جهاز “ميت” في بيان له إنّ الهدف من وراء هذه الوساطة هو تعزيز السلم الإقليمي وتبنّي لغة الحوار والتفاوض في حلّ المشاكل.
كان جهاز الاستخبارات التركي يضع اللمسات الأخيرة على أكبر صفقة إفراج عن الرهائن منذ الحرب العالمية الثانية حتى اليوم
تدرك أنقرة أنّ واشنطن ستواصل تقديم حساباتها ومصالحها على مصالح الحليف التركي كما تفعل اليوم من خلال تمسّكها بمجموعات “قسد” في شرق الفرات، وقيادات “الكيان الموازي” المتّهمة بالمحاولة الانقلابية قبل 8 سنوات، وتقديم مصالح إسرائيل الإقليمية على كلّ ما يقوله ويريده الشركاء في المنطقة. وهي تدرك أيضاً أنّ موسكو قد لا تعطيها ما تريده في ملفّ حوض البحر الأسود، أو في ملفّ الحبوب والوساطة السياسية بين موسكو وكييف، لكنّ تتويج جهاز الاستخبارات التركي لوساطته هذه بالنجاح وسط كلّ هذا الهرج والمرج الإقليمي وفي مثل هذه الأجواء، يعني الكثير بالنسبة لتركيا وموقعها ودورها في الإقليم.
إقرأ أيضاً: إردوغان – الأسد: الإقليم يراجع سياسته السّوريّة أيضاً
تشير الوثائق التاريخية إلى أنّ عمر جهاز الاستخبارات التركي يعود إلى عهد السلطان العثماني يافوز سليم في عام 1512، وأنّ السلطان عبد الحميد كان الأكثر استخداماً لهذا الجهاز داخل البلاد وخارجها خلال فترة حكمه الطويلة في القرن التاسع عشر لإيصال أكثر من رسالة. لكنّ هاقان فيدان الذي أشرف على عمل الجهاز بين 2010 و2023 يبقى أبرز من قاد عملية التطوير والتحديث في بنية الجهاز عمودياً وأفقياً قبل أن يترك منصبه لإبراهيم كالن في العام المنصرم.
يقول المثل الشعبي المعروف: “عليك دائماً أن تحرّك قدميك إذا ما أردت البقاء جالساً فوق مقعد الدرّاجة”.
لمتابعة الكاتب على X: