فتح جبهة الجنوب أكثر خطورة من اتّفاق القاهرة…

مدة القراءة 5 د

لبنان في هرب مستمرّ من الواقع. لا إدراك لبنانيّاً لدى الطبقة الموجودة، اسميّاً أو شكليّاً، في السلطة لما يدور في المنطقة من جهة، وأنّ اللغة الخشبية المستخدمة لا تنفع في شيء من جهة أخرى. يبدو الهرب اللبناني مستمرّاً منذ عام 1969 تاريخ توقيع اتّفاق القاهرة الذي يعني، من بين ما يعنيه، إلغاء لبنان من جانب واحد لاتّفاق الهدنة الموقّع بينه وبين إسرائيل في عام 1949.

 

تتسارع عملية الهرب من الواقع في أيّامنا هذه مع تجاهل المسؤولين اللبنانيين أن ليس في الإمكان الربط بين حرب غزّة وحرب جنوب لبنان. مثل هذا الربط جريمة لا أكثر… بل أخذ للبنان إلى المجهول. لا مصلحة للبنان في ذلك. لا يستطيع لبنان تجاهل أنّ “الحزب” قرّر فتح جبهة جنوب لبنان وأنّ هذا القرار، الذي في أساسه حسابات إيرانيّة، لا يمكن أن يدافع عنه هذا المسؤول أو ذاك، بما في ذلك وزير الخارجية عبدالله بو حبيب الذي ذهب إلى القاهرة من أجل الشكوى من التصعيد الإسرائيلي والدعوة إلى وقف حرب غزّة. لو كان في الإمكان وقف حرب غزّة، لكانت الدول العربيّة، وعلى رأسها مصر، استطاعت ذلك. لكن ما العمل عندما يكون في إسرائيل وحش بشريّ اسمه بنيامين نتنياهو ربط مصيره السياسي باستمرار حرب غزّة التي أزيلت عمليّاً من الوجود.

ما لا بدّ من التوقّف عنده في أيامنا هذه أنّ فتح جبهة جنوب لبنان يأتي في غياب أيّ سلطة مركزيّة لبنانية

الاعتراف بالواقع

بدل الكلام الذي لا معنى له الصادر عن وزير الخارجية أو غير وزير الخارجيّة، في القاهرة وفي غير القاهرة، على لبنان السعي إلى تدبير أموره وإعداد نفسه لمرحلة ما بعد حرب غزّة بعيداً عن الأوهام والكلام الفارغ ورفض الاعتراف بأنّ “الحزب” مسؤول عن المصيبة التي وقع فيها البلد. يوجد واقع لا يمكن الهرب منه يتمثّل في أنّ قرار السلم والحرب في لبنان لم يعد لبنانيّاً، تماماً كما كانت عليه الحال في مرحلة ما بعد تسليم جنوب لبنان إلى مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية في ضوء توقيع اتّفاق القاهرة. ستثبت الأيام أن لا جريمة تتفوّق على جريمة توقيع اتّفاق القاهرة غير فتح جبهة جنوب لبنان يوم الثامن من تشرين الأول 2023.

ليس بالهرب من الواقع، بما يسترضي “الجمهوريّة الإسلاميّة”، يمكن التعاطي مع ما تعدّه إيران… هذا إذا كانت تعدّ شيئاً، ردّاً على اغتيال إسماعيل هنيّة رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” في طهران وفؤاد شكر، أحد أبرز قياديّي “الحزب” في بيروت. للبنان مصالحه أيضاً. الأكيد أنّ الرضوخ للمطلوب إيرانياً من البلد يعمّق الانقسام بين اللبنانيين، وهو انقسام عميق كشفه تجاهل القيّمين على حرب الجنوب المأساة التي تسبّب بها تفجير مرفأ بيروت قبل أربع سنوات.

حرب غزّة

الحرس الثّوريّ يسيطر على لبنان

ما لا بدّ من التوقّف عنده في أيامنا هذه أنّ فتح جبهة جنوب لبنان يأتي في غياب أيّ سلطة مركزيّة لبنانية. الكلمة الأولى والأخيرة لإيران التي تمتلك لواء في “الحرس الثوري” يسيطر على مقدّرات البلد كلّياً. ما لا يدركه وزير الخارجية في الحكومة المستقيلة، وما لم يدركه قبله ميشال عون عندما كان في قصر بعبدا مع صهره جبران باسيل، أنّ السكوت من ذهب وأنّ من الأفضل تفادي أيّ كلام ذي طابع سياسي يتجاهل كلّياً السيطرة الإيرانيّة على البلد.

تتسارع عملية الهرب من الواقع مع تجاهل المسؤولين اللبنانيين أن ليس في الإمكان الربط بين حرب غزّة وحرب جنوب لبنان

كلّ ما كان يستطيع ميشال عون قوله في 2020 هو الاعتراض على أيّ تحقيق دولي في جريمة تفجير مرفأ بيروت. فعل ذلك تفادياً لتحقيق يكشف من وراء تفجير المرفأ مثلما كشف التحقيق الدولي من قتل رفيق الحريري. كان مطلوباً إخفاء الحقيقة، لا لشيء إلّا لأنّ تحقيقاً دولياً يمكن أن يكشف من خزّن نيترات الأمونيوم في أحد عنابر مرفأ بيروت والغرض من ذلك. لا يزال إخفاء الحقيقة مطلوباً إلى يومنا هذا. الجديد في الأمر أنّ التذرّع بالاعتداءات الإسرائيلية على لبنان يُستخدم لتفادي قول أيّ مسؤول صراحة إنّ توريط الحزب للبنان في حرب غزّة وربط مصير البلد بغزّة في أساس الكارثة التي يعيشها البلد، وهي كارثة ستتفاقم مع مرور الأيّام.

يقول كثيرون إنّه لا خيار آخر أمام أيّ مسؤول لبناني غير اعتماد الخطاب السياسي للحزب، أي الخطاب الإيراني. هذا صحيح إلى حدّ كبير. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ خيار السكوت موجود. السكوت في غياب القدرة على قول الحقيقة، أي قول إنّه لم تكن لدى لبنان مصلحة في فتح جبهة الجنوب استرضاء لإيران

يقول كثيرون إنّه لا خيار آخر أمام أيّ مسؤول لبناني غير اعتماد الخطاب السياسي للحزب، أي الخطاب الإيراني

أكثر من أيّ وقت، يبدو مصير البلد في مهبّ الريح في ضوء رهانه على المستحيل، أي على وقف حرب غزّة كي يعود الوضع إلى ما كان عليه قبل “طوفان الأقصى”. بدل الشكوى من التصعيد الإسرائيلي وتجاهل مبادرة إيران إلى فتح جبهة الجنوب بحجّة “إسناد غزّة”، من المفيد التفكير بطريقة أخرى بعيداً عن أيّ نوع من التذاكي. قد تكون الخطوة الأولى في هذا الاتّجاه الاقتناع بأنّ إسرائيل، بوجود “بيبي” نتنياهو وغيابه، لا يمكن أن تقبل بالعودة إلى ما كان عليه الوضع في جنوب لبنان قبل يوم الثامن من تشرين الأوّل 2023. كيف سيتعامل لبنان مع هذا الواقع، الذي يعني أوّلاً أنّ وضع “الحزب” بشكله الحالي غير مقبول… بدل الهرب منه؟

إقرأ أيضاً: لبنان ضحيّة فارق الحسابات.. بين إسرائيل وإيران

هل بات الهرب من الواقع هواية لبنانية بديلة من ممارسة الشجاعة في قول الأشياء كما هي أو اعتماد السكوت في حال كان ذلك مستحيلاً؟

 

لمتابعة الكاتب على X:

@khairallahkhai5

مواضيع ذات صلة

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…

كنّا نخاف منه وصرنا نخاف عليه

قبل عام 1969 كان العالم العربي والإسلامي يتدافع نحو أخذ صورة مع جمال عبدالناصر، ثمّ بعد العام نفسه صار العرب والمسلمون ومعهم عبدالناصر يتدافعون للوقوف…

دعاية “الحزب” الرّديئة: قصور على الرّمال

لا تكفي الحجج التي يسوقها “الحزب” عن الفارق بين جنوب الليطاني وشماله للتخفيف من آثار انتشار سلاحه على لبنان. سيل الحجج المتدفّق عبر تصريحات نوّاب…

معايير أميركا: ملاك في أوكرانيا.. شيطان في غزّة

تدور حرب ساخنة في كلّ من أوروبا (أوكرانيا)، والشرق الأوسط (غزة – لبنان). “بطل” الحرب الأولى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، و”بطل” الحرب الثانية رئيس الوزراء…