منذ عام 2023 بدأ الفريق الإيراني، ومن ضمنه الحزب، الحديث عن “وحدة الساحات“، وكأنه يريد الحرب المحدودة وفي ظنّه أنّها تجلب فوائد كبرى مثل حرب عام 2006، لكن هذه المرّة للجانب الفلسطيني الذي يدعمه. ووقعت الحرب نتيجة هجمة السابع من أكتوبر 2023. بيد أنّ وقائعها ونتائجها ما كانت متوقّعة لفريق الممانعة. والآن نحن على شفا صدام كبير سعت إليه إسرائيل باعتبار رجحان كفّتها. هي مرحلة جديدة في حاضر المنطقة ولا مجال للعودة إلى المراوحة ومراعاة قواعد للاشتباك، لكنّ الدول الكبرى لن تسمح بانتصارٍ ساحقٍ لأحد.
حجّة القائلين إنّه لا أمل قوامها أنّ لبنان هو أسير رهانات العلاقات الإيرانية – الأميركية. والعلاقات الإيرانية الأميركية منذ أبطل ترامب الاتفاق النووي مع إيران عادت لمراوحةٍ خطرة بين العقوبات من جانب أميركا، وتهديدات التحرّش من جانب إيران من طريق الميليشيات الموالية لها. التجربة الميليشياوية الأنجح كانت وما تزال هي تجربة الحزب الذي يلبّي رغبات التحرّشات المؤثّرة التي تريدها إيران مع إسرائيل دون أن يصل الأمر بعد 2006 إلى حائط الحرب الكبرى. أمّا الميليشيات العراقية الموالية لإيران والتي طمحت أن تدفعها إلى صدام مع الجنود الأميركيين بالعراق فإنّها لم تنجح لا في التحدّي ولا في التأثير. بيد أنّ في الشهور الأخيرة بعد نشوب حرب غزة اكتشف الإيرانيون أنّ ميليشيا الحوثي فعّالة في تهديد التجارة والأمن البحري في البحر الأحمر والمحيط ضدّ الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين.
اشتباكات المراوحة
عن “قواعد الاشتباك” أو اشتباكات المراوحة التي عبّر عنها حسن نصر الله والتي سلّمت بها الولايات المتحدة وإسرائيل تعرّضت لهزّةٍ قويّةٍ في الشهور الستّة بين عامي 2022 و2023. إذ كانت هناك ظاهرتان: ظاهرة اتفاق عام 2022 بين الحزب وإسرائيل على الحدود البحرية للبنان (!) بسبب “المصالح المشتركة” في استغلال حقول الغاز في البحر المتوسط، والظاهرة الثانية (الداخلية في المراوحة والاستيعاب) اتفاق الولايات المتحدة وإيران على تبادل محتجزين، والإفراج عن ستّة أو سبعة مليارات من الدولارات لإيران كانت الولايات المتحدة تتسبّب في احتجازها من ضمن الحصار المفروض.
تحقّقت “وحدة الساحات” عندما انضمّ كلٌّ من الحزب والحوثيين إلى حرب إسناد غزّة
بيد أنّ هناك ظاهرةً ثالثةً إذا صحّ التعبير برزت في الشهور الأولى من عام 2023. فقد بدأت منظمة الجهاد الإسلامي الفلسطينية التابعة لإيران تنفّذ عمليات هجومية في الضفة الغربية تخسر فيها كثيراً من شبابها لكنّها تنال من الجنود وبعض المستوطنين. وبالتوازي مع ذلك بدأت خطابات نصر الله تتحدّث عن وحدة الساحات، وبدأ مسؤولون إيرانيون كبار ومسؤولون من حماس يأتون إلى لبنان للاجتماع بنصر الله. والشائع وقتها أنّ إيران كانت تريد تحريك الجبهات على الرغم من وضعها المقبول – الحسن مع أميركا، والوضع المقبول – الحسن بين حماس وإسرائيل من خلال وساطة قطر.
لماذا كانت إيران تريد تحريك الجبهات من جديد؟ ولماذا تصاعد الضغط على حماس بهذا الاتّجاه للانضمام إلى الجهاد الإسلامي وتصعيد القتال من غزة وليس من الضفة الغربية فقط؟ حتى الشهر الخامس أو السادس من عام 2023 كان الشائع أنّ حماس ليست مستعدّةً لإنشاب حربٍ أو المشاركة فيها. لكن في السابع من أكتوبر كما هو معروف شنّت حماس حربها من غزة (= طوفان الأقصى) باتّجاه مستوطنات غلاف غزة، فقتلت 1,200 بين مدنيين وعسكريين، وأخذت معها إلى القطاع زهاء مئتين وخمسين أسيراً أكثر من نصفهم من المدنيين.
تحقّقت “وحدة الساحات” عندما انضمّ كلٌّ من الحزب والحوثيين إلى حرب إسناد غزّة. وفي حين تخرّب القطاع وسقط أكثر من خمسين ألف ضحية، فقدَ الحزب في المساندة اليومية ما يزيد على خمسمئة شهيد، وتهجّر زهاء مئة ألف لبناني من قرى الحدود باتّجاه الداخل. وتوقّف إطلاق النار في غزة وعليها عدّة أيام جرى خلالها تبادل بعض الأسرى، ثمّ عادت الحرب بأشكالٍ أفظع، والصراع منذ شهور على مصائر معبر رفح مع مصر، ومن يديره من أجل إدخال المساعدات. وتجري مفاوضات وقف النار منذ شهور، وقد صار ثابتاً أنّ رئيس وزراء الكيان لا يريد وقف الحرب، في حين يريد الأميركيون والعرب والأوروبيون ذلك دون جدوى أو نفاذ حتى الآن.
الآن نحن على شفا صدام كبير سعت إليه إسرائيل. هي مرحلة جديدة في حاضر المنطقة ولا مجال للعودة إلى المراوحة
نتنياهو وتصفية الخصوم
نتنياهو الذي لا يريد وقف الحرب قبل تصفية كلّ خصوم إسرائيل يعمل على التصعيد في كلّ آن. وعندما قتل الجيش الإسرائيلي عسكريين إيرانيين كباراً في القنصلية الإيرانية بدمشق، ردّت إيران بهجماتٍ بالمسيّرات والصواريخ ما وصل منها إلى الكيان غير القليل. وما يحصل الآن من تهديداتٍ إيرانية ومن الحزب بالحرب سببه قيام الاستخبارات الإسرائيلية بقتل القائد العسكري لقوات الحزب في الضاحية الجنوبية، وقيامها باغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحماس بطهران حيث ذهب لتهنئة بزشكيان الرئيس الإيراني الجديد.
إيران مثل الولايات المتحدة في إظهار الحرص الدائم على عدم توسيع الحرب. والحزب والحوثيون يقولون إنّهم يتوقّفون عندما تتوقّف الحرب على غزة. لكنّ إيران في حرجٍ شديدٍ الآن، فإن لم تردّ على الاغتيال على أرضها تفقد احترامها ومصداقيّتها في المواجهة، وإن ردّت فقد يستغلّ الإسرائيليون ذلك لتوسيع الحرب.
لا انتصار بارز لأحد..
منذ هجوم 7 أكتوبر عام 2023 دخلت المنطقة في مرحلةٍ جديدة، فكلّ طرفٍ ما عاد راضياً بقواعد الاشتباك بحسب نصر الله. وكلّ طرفٍ لديه مطامح يأمل أن تساعده الحرب على تحقيقها. ويشيع في أوساط اللبنانيين منذ سنواتٍ أنّه لا انفراج حقيقياً إلّا بعد حرب! غير أنّ أحداً من الأطراف الكبرى لن يقبل بالانتصار البارز لأحد الفريقين. إنّ الحرب وإن لم تجلب نصراً كبيراً لأحد فإنّها ستزيد الخراب في المنطقة أضعافاً مضاعفة. وستزيد الدول مثل لبنان وسورية ضعفاً على ضعف. ومن جانبنا لا يمكن التعزّي بأنّ القضية الفلسطينية لم تنتهِ ولن تنتهي، لأنّه في مقابل بقاء القضية وقعت خسائر بشرية وعمرانية هائلة لا يمكن تعويضها.
إقرأ أيضاً: الحزب وإسرائيل سيحتفلان بالنصر.. والفلسطينيّون والعرب بهمومهم
هي مرحلة جديدة تشبه في جدّتها مرحلة أوسلو، ومن الجانب اللبناني اتفاق الطائف. وقد كانتا مرحلتين تبعثان على التفاؤل. وليس هناك تفاؤل بما بعد حرب غزة وبما بعد الردّ الإيراني. فما أقصده بالمرحلة الجديدة أنّ الأوضاع لن تعود إلى ما كانت عليه قبل الحرب لا عندنا ولا عند الفلسطينيين، فماذا سيحدث لدى إسرائيل ولدى إيران؟
لمتابعة الكاتب على X: