من الضّاحية إلى طهران.. نتنياهو يصوّب على النّوويّ الإيرانيّ

مدة القراءة 9 د

تصعب “قراءة” رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو. يقول العالم بدبلوماسيّيه ودوله إنّه سيحيّد بيروت والضاحية والمدنيين، فيقصف في بيروت، وتحديداً ضاحيتها الجنوبية، ويقتل ويجرح نحو 100 مدني… ويطلّ برأسه بعد ساعات في قلب طهران ليقتل رئيس حركة “حماس”، ويحاول اغتيال “عقول” الطائرات المسيّرة في العراق بعد ساعات.

على هذا المنوال، هل هذه أهدافه حقّاً أم يريد جرّ إيران إلى حرب يسهل بعدها ضرب مفاعلاتها النوويّة؟

 

دخلَت المنطقة منعطفاً خطراً بعد اغتيالات مُتزامنة بدأت مع اغتيال القائد العسكريّ للحزب فؤاد شكر (السّيد محسن) في الضّاحية الجنوبيّة لبيروت ورئيس المكتب السّياسيّ لحركة حماس إسماعيل هنيّة في طهران. وبين الاغتياليْن سقطَ عددٌ من خبراء صناعة وتطوير الطّائرات المُسيّرة تابعون لكتائب حزب الله العراقيّ، أبرزهم أبو حسن المالكي، وذلك في منطقة جرف الصّخر، بحسب مصدر أمنيّ عراقيّ.

سلسلة اغتيالاتٍ تتحدّى نظريّة “وحدة السّاحات” بما يمكن تسميته “وحدة الاغتيالات”، وتضع المحور برمّته من الضّاحية إلى طهران مروراً ببغداد واليمن، أمام خياريْن، أحلاهما مُرّ. فإمّا السّكوت وتلقّي المزيد، وإمّا التّصعيد وإعطاء بنيامين نتنياهو ما يُريد، وهو فرصة ضربِ البرنامج النّوويّ الإيرانيّ، أو الحدّ من نفوذ طهران العسكريّ في المنطقة.

مصدر أميركيّ مسؤول في مكتب الأمن القوميّ لـ”أساس”: الولايات المتحدة لم تعلم باستهداف هنيّة إلّا بعد العمليّة

“شيطان الرّياح” قتل هنيّة

لكن ماذا يريد نتنياهو حقّاً؟

في محاولة الإجابة عن هذا السّؤال لا بُدّ من التّوقّف أوّلاً عند 6 أسباب لها علاقة بالتّوقيت:

  • كانَ نتنياهو قد عادَ لتوّه من الولايات المتحدة. وهو يحاول الإيحاءَ بأنّ اغتيال شُكر وهنيّة نالَ موافقة مُسبقة من الإدارة الأميركيّة. لكنّ الواقع يقول عكس ذلك. فإن كانت واشنطن لن تُعارض استهداف شُكر لأنّه مطلوبٌ على لوائحها بقضيّة استهداف المارينز عام 1983، إلا أنّها في الوقت عينه لن تقبل بضرب العاصمة الإيرانيّة التي تفاوضها على ملفّات المنطقة كلّها.

هنا يُؤكّد مصدر أميركيّ مسؤول في مكتب الأمن القوميّ لـ”أساس”، رفض الكشف عن هويّته لأسباب إداريّة، أنّ الولايات المتحدة لم تعلم باستهداف هنيّة إلّا بعد العمليّة. ذلك أنّ نتنياهو يعلم جيّداً أنّ واشنطن لن توافق على أيّ ضربة في قلب إيران قد تجرّ الأخيرة لردّة فعل مُختلفة عن 13 نيسان. وهذا ما كانت إدارة بايدن تُحاول تجنّبه منذ اللحظة الأولى لعمليّة 7 أكتوبر (تشرين الأوّل).

يُرجّح المصدر أن يكونَ هنيّة قُتِلَ بصاروخ إسرائيليّ جديد يُدعى “Wind Demon” أو “شيطان الرّياح”. وهو صاروخ كروز مُطوّر خفيف رأسه الحربيّ يزن 20 كيلوغراماً، ويطلق من مسافات بعيدة، وهو ما يحدّ من كلفة تشغيل الطائرات وتعريضها للانكشاف. ويُطلَق نحوَ الأهداف الثّابتة والمُتحرّكة وفقَ إحداثيات مُحدّدة مسبقاً من دون حاجة إلى تدخّل المُشغّل. وله قدرة عالية على تجاوز الرّدارات والدّفاعات الجوّيّة بسبب تحليقه على ارتفاعات منخفضة وتمتّعه بنظام ملاحة مُتطوّر.

وأمس نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” عن مسؤولين أميركيين وإيرانيين أنّ هنية قُتِلَ بعبوة ناسفة زرعَت في غرفته في بيت الضيافة. لكنّ رواية حماس والحرس الثوري الرسمية تؤكّد أنّ هنيّة اغتيل بغارة أو قذيفة. هذا قد يعني أنّ رواية الصحيفة الأميركية تهدف إلى تخفيف وطأة “شكل الاغتيال” لاعتباره عملاً أمنياً وليس عسكريّاً، وبالتالي فتح المجال أمام إيران لتخفيف وطأة الرّد.

تزامن الاغتيالان مع تنصيب مسعود بزشكيان رئيساً في إيران. وهو الذي كانَ واضحاً وصريحاً أنّه مستعدّ للحوار مع الغرب لرفع العقوبات عن بلاده

نتنياهو “تخلّص” من مراقبة الكنيست

  • بدأ رئيس الوزراء تنفيذ الاغتيالات بعد دخول الكنيست الإسرائيليّ إجازته السّنويّة. وهو ما يعني أنّ فرصَ إسقاط حكومته من المُعارضة لم تعد ممكنة إلّا بعد 3 أشهر من اليوم.
  • جاءَ اغتيال هنيّة بعد اجتماع روما لبحث صفقة التّبادل يومَ الأحد الماضي، حيث أرسلَ نتنياهو مُقترحات جديدة يطلبُ من خلالها لائحة بأسماء الأسرى الأحياء لدى حماس. وهذا ما رفضته الحركة. فأعطى ذلك نتنياهو مؤشّراً إلى أنّ فرصَ العثور على أسرى أحياء ليسَت عالية، فاختارَ توجيه ضربة لحماس على المستوى السّياسيّ، ومعها ضربُ طاولة المفاوضات في محاولة منه للحصول على تنازلات جديدة من الحركة.
  • تزامن الاغتيالان مع تنصيب مسعود بزشكيان رئيساً في إيران. وهو الذي كانَ واضحاً وصريحاً أنّه مستعدّ للحوار مع الغرب لرفع العقوبات عن بلاده.
  • تواصل إيران بشكلٍ غير مسبوق تخصيب اليورانيوم، عبر استغلالها فترة الانتخابات الأميركيّة والحربَ في المنطقة. وذلك تحضيراً لمرحلةٍ لاحقة قد تبدأ فيها المفاوضات حول برنامجها النّوويّ بعد انتهاء الانتخابات الأميركيّة ومراسم التّنصيب.
  • انهيار إدارة جو بايدن مع دخول الولايات المتحدة المرحلة الأكثر جدّية في انتخاباتها الرّئاسيّة. وانسحاب بايدن أراح نتنياهو. فالرّئيس الأميركيّ الذي فشل في ثنيه عن اجتياح رفح، وحاول دفعه ليكون أكثر ليونة في مفاوضات وقف الحرب، وطلب منه عدم استفزاز إيران بشكلٍ مباشر، لن يكونَ قادراً على التأثير على قراراته بعد اليوم.

رفعَ نتنياهو مستوى التحدّي مع طهران إلى الحدّ الأقصى. وأظهر يومَ الإثنين الماضي أنّ إسرائيل تتحدّى “وحدة السّاحات” بـ”وحدة الاغتيالات”

خمسة أسباب لجنون نتنياهو

نتنياهو يراوده حلمٌ منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي بضربِ المنشآت النّوويّة الإيرانيّة. من يتابع تصريحات “بي بي” عن هذا الملفّ منذ 1994، يجده في كلّ مرّة يُحذّر من أنّ طهران على بعد أشهر أو أسبوعيْن من امتلاك قنبلة نوويّة. ومنذ انسحابِ الرّئيس الأميركيّ السّابق دونالد ترامب من الاتفاق النّوويّ مع إيران في 2018، بدأت إيران بالفعل باتّخاذ إجراءاتٍ رفعت ضمنها منسوب وكميّة اليورانيوم المُخصّب حتّى وصلت إلى مشارف النّسبة المطلوبة لتصنع قنبلتها النّوويّة.

إيران النّوويّة هذه تطوّق إسرائيل من جميع الجبهات، من الجنوب والشّرق والشّمال وحتّى غرباً من جهة البحر المُتوسّط.

رفعَ نتنياهو مستوى التحدّي مع طهران إلى الحدّ الأقصى. وأظهر يومَ الإثنين الماضي أنّ إسرائيل تتحدّى “وحدة السّاحات” بـ”وحدة الاغتيالات”. وصارَ يُمكن تلخيص الأسباب التي دفعت نتنياهو لتنفيذ الاغتيالات كالآتي:

  • يحاول نتنياهو أن يجرّ طهران إلى أمرٍ من اثنين:
  • الأوّل: أن تتجنّب الرّدّ على اغتيال إسماعيل هنيّة في طهران، وتُصبح أيّ بقعة في إيران مباحة للضربات الإسرائيليّة.
  • الثّاني: أن تردّ طهران بطريقة مختلفة عن ردّها على استهداف قنصليّتها في دمشق مطلع نيسان الماضي. وهنا يكون نتنياهو نالَ ما يريد، فيذهب إلى مواجهة مباشرة مع طهران، تنجرّ إليها الولايات المتحدة. وهو ما يُعطيه فرصة لتوجيه ضربة قاصمة لمشروعها النّوويّ.
  • يريد رئيس الوزراء الإسرائيليّ أن يُعطّل أيّ محاولة للتفاوض بين إيران والغرب. إذ تشير معلومات “أساس” إلى أنّ بزشكيان يتّجه لاختيار كبير المفاوضين في اتفاق 2015 عبّاس عراقتشي لمنصبِ وزير الخارجيّة، وذلك بعد “فيتو” المرشد على عودة محمّد جواد ظريف.

كما أنّ بزشكيان صرّح منذ حملته الانتخابيّة، مدعوماً بالرّئيسيْن السّابقيْن محمّد خاتمي وحسن روحاني، أنّه يريد العودة لاتفاقٍ حول البرنامج النوويّ. وممّا يزيدُ من قلق نتنياهو نتيجة لقائه مع دونالد ترامب في الولايات المتحدة، الذي كانَ على عكس ما يتصوّر كثيرون يُطالب ضيفه بضرورة وقف الحرب بأسرع وقتٍ ممكن. كما أنّه صرّحَ في وقتٍ سابق: “لا أريد إسقاط أو تغيير النّظام في إيران، بل أريد أن أضمن أن لا تحصلَ على سلاحٍ نوويّ”.

باغتيال شُكر، كانت تل أبيب تُرسل رسالة للأمين العامّ للحزب. إذ إنّ “الحاج محسن” من أهمّ وأبرز معاونيه ومستشاريه

رسالة إلى نصر الله

  • أمّا باغتيال شُكر، فكانت تل أبيب تُرسل رسالة للأمين العامّ للحزب. إذ إنّ “الحاج محسن” من أهمّ وأبرز معاونيه ومستشاريه. وجاءَ الاغتيال بعد تهديدات أطلقها مسؤولون إسرائيليّون بقولهم إنّهم يعلمون أين يوجد نصرالله. كما يأتي اغتيال هنيّة في وسط طهران كرسالة لكلّ المسؤولين الإيرانيين من المرشد علي خامنئي وصولاً إلى قادة وضبّاط الحرس الثّوريّ وبقيّة قادة الفصائل المدعومين من إيران. مفاد الرسالة: تل أبيب قادرة على الوصول إليكم أينما كنتم.
  • يأتي اغتيال شُكر بعد اغتيال مسؤول وحدة “نصر” في الحزب طالب سامي عبد الله (أبو طالب)، وقائد وحدة “عزيز” محمّد نعمة ناصر (أبو نعمة)، وقبلهما القائد الرفيع في “وحدة الرضوان” وسام الطّويل. وهم من القادة العسكريين الأساسيين في الحزب، والمسؤولين عن القطاعات الغربيّ والأوسط والشّرقيّ بكلّ عملياتها العسكرية والاستخباريّة.
  • قد يكون نتنياهو يسعى عبر اغتيال شكر إلى حشر الحزب في الزّاوية. فإمّا أن يردّ نحوَ تل أبيب، وحينها تكون لديه الذّريعة الكاملة لتوسيع عمليّاته على الجبهة الشّماليّة مع لبنان وصولاً إلى العمق اللبناني. وإمّا أن يردّ بعنفٍ على قواعد عسكريّة أساسيّة في عمق الشّمال من دون المسّ بتل أبيب، وهنا قد يستوعب نتنياهو الرّدّ. وتكون معادلة الضّاحية مقابل تل أبيب قد سقطت، أقلّه في هذه الجولة.

في 13 نيسان الماضي، استوعبَ نتنياهو إطلاق إيران مئات المُسيّرات والصّواريخ على إسرائيل، ما دام الهدف التخلّص من الجنرال محمّد رضا زاهدي. وأيضاً في هذه المرّة، قد يستوعب مئات المقذوفات من مختلف الجبهات، ما دام حقّق أهدافه، وهي قتل فؤاد شكر وإسماعيل هنيّة وأبي حسن المالكي. لكنّ الخطر يكمن بأنّ نتنياهو أثبَت أنّه أكثر شخصٍ يعصي واشنطن في اللحظات الحرجة، وأنّه سياسيّ غير مُتوقّع الأفعال.

إقرأ أيضاً: اغتيالان في ليلٍ واحد

فهل تشتعل المنطقة ويضرب البرنامج النّوويّ الإيرانيّ أم يقف أمام الرّأي العام الإسرائيليّ ليلعب دور “البطل” الذي قضى على محمّد الضّيف وإسماعيل هنيّة وفؤاد شكر وأبي نعمة وأبي طالب والمالكيّ في أقلّ من شهريْن؟

لا جواب حتى الآن..

 

لمتابعة الكاتب على X:

@IbrahimRihan2

مواضيع ذات صلة

الشّيعة وقّعوا الاتّفاق… والرّئيس المسيحيّ سينفّذه

تاريخ لبنان الحديث حافل بالاتّفاقات والانقلابات عليها، لا سيما تلك التي أبرمت في زمن الانقسام الكبير الذي انفجر في السبعينيات، واستمرّ حتى التسعينات، حين استقرّ…

هل قتل “الحاج حمزة” نصرالله وصفيّ الدّين؟

من أوقَع السّيّد حسن نصرالله والسيّد هاشم صفيّ الدّين في فخّ الاغتيال؟ هل استندَ الإسرائيليّون إلى خرقٍ بشريّ داخل “الحزب”؟ أم التقنيّة كانت هي السّبيل؟…

خمسة أيّام من “قصف” الهدنة: “الأمر” للعدوّ!

تتوالى الخروقات الإسرائيلية للترتيبات الأمنيّة المرتبطة بتطبيق القرار 1701، جنوب الليطاني وشماله وصولاً إلى صيدا وبعلبك، إلى حدّ التهديد بنسف هدنة الـ60 يوماً.  يحدث ذلك…

“الحزب” بعد الحرب: الولادة من “الخاصرة الأميركيّة”

أما وقد دخل اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ منذ صباح 27 الجاري، ليشكّل حدّاً فاصلاً بين ما قبله وما بعده، ويدشّن مرحلة جديدة كليّاً،…