في ضوء اغتيال إسماعيل هنيّة رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” في طهران، وفي ضوء الضربة التي وجّهتها إسرائيل للحزب في الضاحية الجنوبيّة لبيروت حيث اغتالت فؤاد شكر، القيادي البارز في الحزب، بات واضحاً أنّ الدولة العبرية قرّرت الذهاب بعيداً في المواجهة. لن تكتفي بحروب مع أذرع “الجمهوريّة الإسلاميّة”، في لبنان وسوريا والعراق واليمن، بل ستكون المواجهة مع إيران نفسها التي باتت توصف في إسرائيل بأنّها “رأس الأفعى”.
كانت نقطة التحوّل هي الطائرة المسيّرة التي أطلقها الحوثيون وانفجرت في تل أبيب. تبدو الرسالة الإسرائيلية، من خلال اغتيال هنيّة، واضحة كلّ الوضوح. فحوى الرسالة أنّ كلّ شيء صار مباحاً ما دام القرار الإيراني ضرب تل أبيب. إذا كانت “الجمهوريّة الإسلاميّة” مستعدّة للذهاب في تحدّيها إلى وضع مستقبل وجود إسرائيل على المحكّ فلماذا لا يجوز للدولة العبرية عدم استبعاد اللجوء إلى السلاح النووي الذي تمتلكه يوماً، ما دامت القضيّة قضيّة حياة أو موت بالنسبة إليها… وما دامت إيران تعمل من أجل الحصول على القنبلة الذرّية؟
بات واضحاً أنّ الدولة العبرية قرّرت الذهاب بعيداً في المواجهة. لن تكتفي بحروب مع أذرع “الجمهوريّة الإسلاميّة”، في لبنان وسوريا والعراق واليمن، بل ستكون المواجهة مع إيران نفسها
في ضوء هذه المعطيات، يبقى السؤال بالنسبة إلى لبنان في غاية البساطة، لكنّه سؤال في غاية الخطورة في الوقت ذاته: كيف يمكن لبلد مثل لبنان ربط مصيره بمصير غزّة؟ خصوصاً بعدما أزالتها إسرائيل من الوجود؟ كيف يمكن لمصير لبنان أن يتقرّر في غزّة التي انطلق منها هجوم لـ”حماس” على إسرائيل من دون أن تكون لهذا الهجوم أيّ أجندة سياسيّة من أيّ نوع أو تصوّر لليوم التالي للهجوم؟
لا بدّ أن يكون الطرف الذي ربط مصير لبنان بمصير غزّة، التي توسّعت حربها إلى إيران، يفتقد لغة المنطق. يفتقد أيّ تفكير في مستقبل اللبنانيين. لا يمكن لمثل هذا الطرف سوى أن يكون غير مبالٍ بمصير لبنان واللبنانيين.
أين الجبهة الداخلية التي تعترض في لبنان؟
لا يوجد أيّ منطق من أيّ نوع يمكن اللجوء إليه عندما يتعلّق الأمر بـ”إسناد غزّة” انطلاقاً من جنوب لبنان. اللهمّ إلّا منطق غياب جبهة لبنانيّة متماسكة تقول لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران إنّ كلّ الحروب التي تشنّها في المنطقة في موازاة حرب غزّة تصبّ في خدمة إسرائيل. بفضل هذه الحروب تمارس إسرائيل وحشيّة ليس بعدها وحشيّة في حقّ الفلسطينيين العزّل في ضوء تعرّضها لهجوم “طوفان الأقصى” الذي شنّته “حماس” مستهدفةً المستوطنات المُقامة في ما يُسمّى غلاف غزّة.
لا يوجد أيّ منطق من أيّ نوع يمكن اللجوء إليه عندما يتعلّق الأمر بـ”إسناد غزّة” انطلاقاً من جنوب لبنان
في غياب مثل هذه الجبهة الداخليّة المتماسكة التي تدافع عن لبنان، وتدين صراحة إطلاق الحزب من الأراضي اللبنانيّة صاروخاً قتل أطفالاً ومراهقين في بلدة مجدل شمس الدرزية في هضبة الجولان، يبدو طبيعياً وجود وزير للخارجية اللبنانية يقول كلاماً من النوع المضحك المبكي. إنّه الكلام الصادر عن وزير الخارجيّة عبدالله بوحبيب والذي يدعو إسرائيل إلى التزام القرار الرقم 1701 الصادر عن مجلس الأمن في مثل هذه الأيام من عام 2006.
يتجاهل بوحبيب أنّ الحزب رفض دائماً هذا القرار الذي لم تحترمه إسرائيل بدقّة يوماً. رفض الحزب التقيّد ببنود القرار منذ اليوم الأوّل لصدوره. أخذ الحزب من القرار ما أراد أخذه، أي وقف النار مع إسرائيل. عمل بعد ذلك على تعزيز وجوده في منطقة عمليات القوات التابعة للأمم المتحدة في الجنوب اللبناني.
في الواقع، وبموجب القرار 1701 الذي سمح بعودة الجيش اللبناني إلى الجنوب بعد غياب طويل عنه، ليس من حقّ الحزب امتلاك أيّ وجود مسلّح في منطقة عمليات القوات الدولية والجيش. تكمن المشكلة في أنّ الحكومة اللبنانية المغلوبة على أمرها لا تعرف حتّى أهمّية السكوت والامتناع عن الخروج بتصريحات تتناول الـ1701، تصريحات لا تمتّ بصِلة إلى المنطق ولا إلى الحقيقة والواقع.
يتجاهل بوحبيب أنّ الحزب رفض دائماً هذا القرار الذي لم تحترمه إسرائيل بدقّة يوماً. رفض الحزب التقيّد ببنود القرار منذ اليوم الأوّل لصدوره
لبنان مهدّدٌ بالتدمير
يظلّ أخطر ما في الأمر أنّ الحسابات الإيرانية لا تلتقي بالضرورة مع الحسابات الإسرائيليّة على الصعيد اللبناني، خصوصاً بعد اندلاع حرب غزّة. سيدفع لبنان غالياً ثمن ربط نفسه بمصير غزّة، وهو مصير بات محتوماً. أقلّ ما يمكن قوله أنّ لبنان بات مهدّداً بالتدمير بعدما قرّر فتح جبهة الجنوب من دون إدراك لأبعاد مثل هذا القرار. لا وجود لإدراك لبناني لمعنى قول كلام لا معنى له من نوع العودة إلى اتّفاق الهدنة الموقّع بين لبنان وإسرائيل في عام 1949. هذا نوع من التذاكي ليس إلّا. كيف يمكن العودة إلى اتّفاق الهدنة بعدما تسبّب لبنان بخرقه نهائياً عندما وقّع اتفاق القاهرة في عام 1969 حتى لو ألغي لاحقاً؟
يبدو المنطق الإيراني هو المنطق الوحيد الذي يمكن فهمه من خلال جريمة ربط لبنان مصيره بمصير غزّة. وهو مصير بات واضحاً كلّ الوضوح. أين مشكلة إيران في حال بقي لبنان أو زال من الوجود؟ مشكلة إيران في مكان آخر، أي في الحصول على اعتراف أميركي أو إسرائيلي بأنّ من حقّها المشاركة في أيّ مؤتمر ينعقد بعد انتهاء حرب غزّة.
يبدو المنطق الإيراني هو المنطق الوحيد الذي يمكن فهمه من خلال جريمة ربط لبنان مصيره بمصير غزّة
بكلام أوضح، تريد “الجمهوريّة الإسلامية” الجلوس إلى طاولة المفاوضات التي ستجري بعد حرب غزّة للمشاركة في تقرير مصير المنطقة وكيفية إعادة تشكيلها. تسعى إلى ذلك، سواء بقي لبنان أم لم يبقَ، ما دام لا يوجد من يدافع عن البلد… بل توجد حكومة لتصريف الأعمال يعمل كلّ وزير فيها بموجب أجندة خاصّة به. أجندة لا علاقة لها بمصلحة لبنان من قريب ولا من بعيد…
تترتّب نتائج خطيرة على توسيع إسرائيل حرب غزّة لتشمل إيران التي رفعت سيف امتلاك القدرة على توسيع الحرب أو عدم توسيعها. من قرّر توسيع الحرب هو إسرائيل. المؤسف أنّ لبنان الذي ربط مصيره بحرب غزّة سيدفع ثمناً غالياً نتيجة هذا القرار.
إقرأ أيضاً: نتانياهو تجاوز الخطّ الأحمر: كلّ الاحتمالات مفتوحة؟