أوروبا تطرق أبواب التّطبيع مع دمشق

مدة القراءة 8 د

تتحرّك دول الاتحاد الأوروبي بخطى حذرة باتجاه “إعادة تقويم” علاقاتها مع النظام السوري في دمشق. لم يصدر عن الاتحاد موقف جديد يخالف ما هو رسمي معلن ومكرّر بشأن “المسألة السورية”. فالاتحاد يرفض تطبيع علاقاته مع النظام ويرفض رفع العقوبات عنه ويرفض الانخراط في أيّ تمويل لإعادة الأعمار قبل الشروع في عملية سياسية وفق القرار الأممي 2254 المتّخذ بالإجماع في 18 كانون الثاني 2015. غير أنّ دول الاتحاد تُظهر أعراض بداية تموضع جديد للتعامل مع “الأمر الواقع”.

يقوم تحوّل دول الاتحاد الأوروبي في التعامل مع النظام السوري، على شلل الدور الأوروبي في قضية هي جزء من مجال أوروبا الاستراتيجي بحكم التاريخ والجغرافيا. يعتبر التحرّك الجديد أنّ مبدئية التمسّك بالقرار الأممي “فقط” على منوال ما تفعل الولايات المتحدة، تخفي نأياً بليداً بالنفس عن ملفّ يقف وراء أكبر أزمة لاجئين تشهدها أوروبا، لا سيما منذ عام 2015. وهو ملفّ نزاع مرشّح لتصدير مزيد من موجات الهجرة والمخدّرات والإرهاب.

تتحرّك دول الاتحاد الأوروبي بخطى حذرة باتجاه “إعادة تقويم” علاقاتها مع النظام السوري في دمشق

بدأت أعراض هذا التحوّل في 22 تموز الحالي على هامش اجتماع لوزراء خارجية الاتحاد. ظهرت فجأة رسالة وجّهتها 8 دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، تدعو فيها الاتحاد إلى “مراجعة وتقويم” نهجه تجاه سوريا.

قالت الرسالة التي وجّهها وزراء خارجية النمسا، وكرواتيا، وقبرص، والتشيك، واليونان، وإيطاليا، وسلوفاكيا، وسلوفينيا، إنّ “هدفنا هو سياسة أكثر نشاطاً وتوجّهاً نحو نتائج عملية في سوريا، وهذا من شأنه أن يسمح لنا بزيادة نفوذنا السياسي وفعّالية مساعداتنا الإنسانية”. وتقرّ الرسالة بأنّ الأمور تحرّكت صوب سوريا، وأنّه على الرغم من هذه “التطوّرات المهمّة لم تتطوّر سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه سوريا، ونتيجة لذلك فإنّ الجهد الإنساني الضخم لا يترجم إلى دور سياسي مماثل”.

مبادرة إيطاليّة وليست أوروبيّة

أوروبا تبحث عن دور في سوريا، أو على الأقلّ هذا ما يبدو وفق رسالة الدول الثماني، وسط أسئلة عن دوافع تلك الدول بالذات من بين 27 عضواً بالاتحاد لفتح صفحة جديدة في التعامل مع سوريا تحرّياً لنفوذ سياسي.

اللافت أنّ أغلب هذه الدول لا تشكو من أزمة هجرة سوريّة، بما يجعل من رسالتها واجهة تجريبية وممهّدة لمقاربة بالمفرّق قبل سياسة بالجملة للتعامل مع الملفّ ومع النظام السوري بالذات. وحين تسأل مصدراً إيطاليّاً عن سرّ الرسالة والموقّعين عليها يجيبك بوضوح: “إنّها مبادرة إيطاليّة وليست أوروبيّة”.

تمّ القبض على برونو كاربوني، وهو زعيم مافيا إيطالية كان يتنقّل داخل الأراضي السورية في آذار 2022، وهو ما يشير إلى تحوّل سوريا إلى بؤرة تهدّد أمن أوروبا

منطقة آمنة بين حلب وحمص وحماة

استند هذا المسار إلى عمل خلفيّ داخل الاتحاد جرى أخيراً للدفع باتجاه إقامة علاقات ما مع النظام السوري لبحث ملفّات الهجرة والمخدّرات والجريمة المنظّمة. وكانت إيطاليا قد أعلنت في تموز 2020 ضبط 14 طنّاً من الأمفيتامين المخدّر قادمة من سوريا. كما تمّ القبض على برونو كاربوني، وهو زعيم مافيا إيطالية كان يتنقّل داخل الأراضي السورية في آذار 2022، وهو ما يشير إلى تحوّل سوريا إلى بؤرة تهدّد أمن أوروبا.

تحدّثت بعض المعلومات عن لقاءات جمعت فريقاً أوروبياً مع النظام السوري بحثت إمكانات إقامة منطقة وسط سوريا (بين حلب وحمص وحماة) تكون آمنة لإعادة لاجئين سوريين من أوروبا (ممّن لم يحصلوا على حقّ اللجوء)، على أن يكون التمويل أوروبيّاً بضمانات أمنيّة روسيّة. وتكشف المعلومات عن تداول فكرة إنشاء صندوق تشرف عليه الأمم المتحدة بعيداً عن العقوبات الأميركية يتسلّم تلك التمويلات ويشرف على إقامة هذه المنطقة.

يستفيد “الوحي” الذي أنتج تحرّكاً من داخل الاتحاد من تطوّر أنجزته جامعة الدول العربية حين أعادت، في أيار 2023، تفعيل مقعد سوريا في صفوف الجامعة. ينهل أيضاً مبرّراته من تطوّرات أخرى في علاقة عدد من الدول العربية مع دمشق بما في ذلك إعادة إرسال سفرائها إلى العاصمة السورية. ويستوحي حيويّته أيضاً من أجواء تقارب يتمّ الإعداد لها بوساطة روسيا والعراق بين سوريا وتركيا تشمل الإعداد لقمّة تجمع الرئيس السوري بشّار الأسد والرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

تحدّثت بعض المعلومات عن لقاءات جمعت فريقاً أوروبياً مع النظام السوري بحثت إمكانات إقامة منطقة وسط سوريا تكون آمنة لإعادة لاجئين سوريين من أوروبا

أميركا ليست معترضة؟

تنهل “استفاقة” أوروبا على ضرورة استرجاع “نفوذ سياسي” في سوريا ديناميّتها من أجواء أميركية تعايشت مع التطبيع العربي مع سوريا وبدت غير معترضة على مسارات من هذا النوع. يأتي “استرخاء” الإدارة الأميركية هذا على الرغم من موقف واشنطن (المماثل لموقف أوروبا) الرافض لأيّ تعويم للنظام أو تطبيع معه قبل مسار سياسي يجري وفق القرار الأممي 2254، علاوة على “قانون قيصر” لعام 2019 الذي يفرض عقوبات على النظام السوري والمتعاملين معه.

تحت سقف أعراض تحوّلات أوروبا ذهبت إيطاليا، لأنّها أيضاً واحدة من الدول الثماني الموقّعة على الرسالة الموجّهة لبوريل، خطوة إضافية متقدّمة. فقد أعلن وزير الخارجية الإيطالي، أنطونيو تاجاني، الجمعة 26 تموز الجاري، أنّ ستيفانو رافانيان، الذي كان المبعوث الخاصّ لوزارة الخارجية إلى سوريا، عُيّن سفيراً، ومن المقرّر أن يتولّى منصبه في دمشق قريباً. وأوضح تاجاني أنّ تعيين سفير جديد في دمشق “يتماشى مع الرسالة التي أرسلناها إلى بوريل لتسليط الضوء على سوريا”.

استمرّت دول أوروبية بالاحتفاظ بتمثيل دبلوماسي (رومانيا وبلغاريا واليونان وقبرص وجمهورية التشيك والمجر) في العاصمة السورية على الرغم من القطيعة الأوروبية مع دمشق. غير أنّ إيطاليا هي الدولة الوحيدة العضو في مجموعة دول السبع الكبار G7 التي تقوم بهذه الخطوة، بما يعني أنّ الحكومة الإيطالية تبعث برسالة إلى المنظومة الغربية بتطوّعها بما يمكن اعتباره سلوكاً استكشافياً لتفحّص مدى نجاعة وجود تواصل رسمي بين عاصمة غربية والعاصمة السورية وعلاقة دبلوماسية كاملة معها.

إيطاليا – سوريا…

ترأس جورجيا ميلوني زعيمة حزب “أخوة إيطاليا” حكومة ائتلافية يمينية متطرّفة في إيطاليا. وعلى الرغم من أنّ أحزاب اليمين المتطرّف الأوروبي عامة قريبون من روسيا ويؤيّدون رواية موسكو للحرب في أوكرانيا، غير أنّ مواقف ميلوني كانت معارضة لحرب روسيا وداعمة بالسلاح للجانب الأوكراني. ومع ذلك فإنّ مقاربة ميلوني في التعامل مع ملفّ سوريا قد لا تكون بعيدة من رؤية موسكو للحلّ في سوريا، خصوصاً أنّ نائبها في الحكومة، ماتيو سالفيني، زعيم حزب “رابطة الشمال” اليميني المتطرّف، هو من القريبين من موسكو وبوتين. كما أنّ زيارة الأسد الأخيرة لموسكو قد لا تكون بعيدة عن حدث قرار روما بتعيين سفير لها في دمشق.

قامت عقيدة التطبيع العربي مع سوريا على نظرية ضرورة استعادة دمشق من حضن إيران

غير أنّ ميلوني لا تقوم بخطوة انقلابية في سياسة إيطاليا حيال سوريا. فعلى الرغم من التزام إيطاليا بسياسة الاتحاد الأوروبي الذي قطع علاقاته مع النظام السوري بسبب موقف النظام السوري من الصراع الداخلي بعد عام 2011، غير أنّ روما احتفظت دائماً بعلاقات مخابراتية مع دمشق. فعلى الرغم من القطيعة الدبلوماسية بين عدد كبير من دول الاتحاد والنظام السوري لسنوات طويلة، فإنّ العلاقات الأمنيّة بقيت فاعلة، على الأقلّ وفق رواية المدير العامّ للأمن العام اللبناني السابق عباس إبراهيم الذي كشف عن تنظيمه لمحادثات وزيارات متبادلة لمسؤولين سوريين وأوروبيين، بما في ذلك زيارة مدير مكتب الأمن الوطني حينها علي مملوك وإحدى أرفع الشخصيات الأمنيّة لدى النظام للعاصمة الإيطالية روما بطلب من الاستخبارات الإيطالية.

يضع مصدر إيطالي هذا التطوّر في سياق سياسة روما حيال الهجرة. ويشير إلى أنّ هذه المبادرة هدفها أيضاً إيجاد بيئة لعودة اللاجئين السوريين في لبنان إلى بلادهم. يضيف المصدر أنّ لإيطاليا أكثر من ألف جندي يعملون في عداد “اليونيفيل”، وأنّ روما شديدة الاهتمام بأمن لبنان واستقراره. الأرجح أنّ أوروبا تفتح الباب، ولو بشكل تدريجي حذر وموارب، أمام مقاربة أخرى مع ملفّ سوريا.

إقرأ أيضاً: الحكومة الإيرانيّة.. الامتحان الأوّل بين المرشد والرّئيس

قامت عقيدة التطبيع العربي مع سوريا على نظرية ضرورة استعادة دمشق من حضن إيران. ويهدف سعي أوروبا إلى استعادة “نفوذ” لها في سوريا إلى حلّ مشكلة أوروبا مع أزمة سوريا من خلال طرق أبواب دمشق من جديد من جهة، وإلى الشروع بحلول عملية جديدة لا تسقط القرار 2254 من جهة أخرى، لكنّها تقترب، للمفارقة، من رؤية روسيا المتضمّنة أن تكون دمشق بوّابة أيّ حلّ شامل للمسألة السوريّة.

لمتابعة الكاتب على X:

@mohamadkawas

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…