“ثوريّ” هو أفضل وصف قد نطلقه على حفل افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس المشبّع بالرسائل والرموز. الثورة تحتاج أوّلاً إلى فكر وجرأة. تفكير خارج الصندوق من أجل عنصر المفاجأة الذي تمثّل في التحرّر من الملاعب والقفز إلى نهر السين، وإلى إبهار العالم بـ 12 لوحة فنّية. المفاجأة أو المباغتة تعدّها الثورة عادة للعدوّ أو للسلطة أو لأيّ نظام نثور عليه أو جهة نريد التفوّق عليها. وقد يكون هنا نظام الرتابة والتبلّد والتصحّر الفكريَّين والفنّيَّين والانحطاط الثقافي الذي يتّجه إليه العالم.
الفرنسيون، الشعب المستضيف للألعاب الأولمبية، الذين بدأوا يفقدون الإيمان بقدرة بلادهم، متعطّشون أيضاً لهذا النوع من الثورة، لإثبات الذات الوطنية، وإعادة الثقة بدولتهم!
نحن من على كنباتنا ومن وراء الشاشات سُحرنا بهذا العرض الكبير الثوري الحالم الذي كنّا نحسبه سيكون مهزوزاً ومتوتّراً، على هيئة فرنسا المريضة سياسياً والمهزوزة اليقين، الواقعة بين مطرقة اليمين المتطرّف واليسار المتشرذم والوسط المتخبّط.
لم تعلن الجهات المنظّمة للحفل أسماء الفنّانين المشاركين مسبقاً، ولا الثيمات واللوحات التي اختارتها ولا المسار الفنّي والرياضي للشعلة. وحسناً فعلت. أبقتنا مُسمّرين ومتحمّسين، ثمّ زادت جرعات الأدرينالين منذ اللحظة التي تحرّرت فيها اللوحات من جدران المتاحف وأطلقت العنان لشخوصها لتظهر على هيئة بشر هذا العصر بأزياء باريس الأنيقة الملوّنة وفي استعراضات باهرة تحمل رمزية فرنسا التحرّرية والثقافية. يظهر البشر كما هم على حقيقتهم، فبينهم المثليون، والمتحوّلون، والـ”كوير”، والأسوياء، والبيض والسود، والصمّ والبكم، والمعوّقون، والنساء والرجال، والنسويّات والذكرويون، والمثقّفون أو الأمّيون، والعمّال ورجال الشرطة، والمهاجرون أو السكّان الأصليون، والظالمون أو المظلومون…
رائدات فرنسا في تماثيل مذهّبة من المستكشفة جان باريه إلى الكاتبة والفيلسوفة سيمون دوبوفوار إلى الفنّانة والمخرجة السينمائية أليس غي وغيرهنّ.
هذه هي فرنسا المتنوّعة الملوّنة التي تحدّت العالم أجمع والقدر والاضطرابات السياسية والعجز الذي ينخر عظامها منذ سنوات، كما تحدّت أمطار الطبيعة، وقدّمت في النهاية “نشيداً للحبّ”.
الفرنسيون، الشعب المستضيف للألعاب الأولمبية، الذين بدأوا يفقدون الإيمان بقدرة بلادهم، متعطّشون أيضاً لهذا النوع من الثورة، لإثبات الذات الوطنية، وإعادة الثقة بدولتهم
معسكر المتذمّرين VS معسكر البهجة
قد يقول معسكر المتذمّرين من قيود حركة المرور وانتشار رجال الأمن بكثافة في الطرقات، وهو مشهد غير معتاد في فرنسا، ومن الميزانية الباهظة التي صرفت لتحقيق هذا النجاح، في حين تعاني البلاد من عجز اقتصادي وفساد ومشكلات بيئية وعمّالية في قطاعات عدّة أبرزها قطاع النقل.
فرنسا القويّة الجميلة التي رأيناها عبر الشاشات هي مجرّد فكرة افتراضية لحلم انتهت نشوته بعد 4 ساعات!
عندما تدخل الثقافة والتاريخ على خطّ الرياضة، النتيجة حتماً مذهلة على الشاشة أكثر منها على الأرض. فقد علّق أحد مراسلي شبكة “bein sports” قائلاً: “استمتعتم أنتم في الاستوديو وتأثّر الناس على كنباتهم المريحة أمام الشاشات، لكن نحن هنا يمكن وصفنا بـ “البؤساء” من وحي الأدب الفرنسي، حيث غرقنا بالمياه وخربت معدّاتنا ولم يكن من السهل التنقّل”.
لكنّ معسكر البهجة والمرح يعتقد أنّ هذا الحلم ضروري لانتشال المواطنين من الكآبة والدرك الأسفل الذي وصلت إليه البلاد، وأنّه يدخل في دورة التسويق الجديدة لفرنسا العجوز التي بدت ليل الجمعة السبت تجدّد جلدها وتواكب الحداثة والتطوّر، فيما لا تنسى تاريخها وتطوّرها السياسي وثورتها وحركات التحرّر التي انطلقت من أرضها، وعراقة ثقافتها وفلسفتها وأدبها ومكتباتها ومسارحها ومعاهدها…
قد يكون أصدق تعبير عن ذلك لوحة التضامن والسلام التي استخدمت رمزاً من رموز فرنسا عبر تقنية الذكاء الاصطناعي. وقد ظهر فيها فارس روبوتيّ يركب على ظهر حصان حديدي ويحمل معه علم الألعاب الأولمبية. وكذلك لوحة إضاءة برج إيفل بالليزر بشكل مبتكر وخيالي، ولوحة تعانُق الموسيقى الكلاسيكية بصوت الميزو سوبرانو الفرنسية السويسرية مارينا فيوتي، وموسيقى الميتال عبر فرقة “Gojira” الشهيرة الرباعية، عبر أغنية الثورة الفرنسية “Ah, ça ira”، بتوزيع جديد رفع مستوى التشويق والإثارة، خصوصاً أنّهم أطلّوا من شبابيك مبنى “Conciergerie de Paris”، ومن تحتهم أطلّ رأس ماري أنطوانيت المقطوع في مشهد دامٍ عنيف انتقده كثيرون!
لم تعلن الجهات المنظّمة للحفل أسماء الفنّانين المشاركين مسبقاً، ولا الثيمات واللوحات التي اختارتها ولا المسار الفنّي والرياضي للشعلة
لكنّه نقطة في بحر مجازر الإبادة في غزة اليوم، ونقطة في بحر ما صنعته فرنسا بالجزائريين، خصوصاً أولئك الثوّار الذين ألقت بهم الشرطة الفرنسية في النهر عام 1961 ليلقوا حتفهم بعد احتجاجهم على استعمار بلادهم. لكنّ فرنسا اليوم ليست فرنسا الماضي والاستعمار، وهي قضية جدلية على كلّ حال… لكنّ فرنسا تحاول التصالح مع التاريخ الاستعماري ومع مجزرة السين الجزائرية، عبر مشهد رمي الورود الحمر في نهر السين نفسه من قبل وفد الرياضيين الجزائريين المشاركين في الألعاب الأولمبية هذا العام.
مغامرة ماكرون وعبقريّة توماس جولي
لنؤجّل الجدل السياسي، ونبقى في الحدث المبهر الثوري. وبما أنّ لكلّ ثورة مفكّر ومبدع يغرِف من هويّة المكان وتاريخ الزمان وآنية الوجود والتطوّر البشري، فمن هو المبدع وراء هذا الحدث الذي عوّل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على عبقريّته وغامر في تسليم شابّ كلّ هذه المسؤولية؟
إنّه الممثّل والمخرج توماس جولي ابن الـ 42 سنة، المفتون بالمسرح الشعبي، الذي اختار أن يُلاعب الرموز الفرنسية التاريخية والثقافية وطوّعها لخدمة الإبداع الفرجويّ أو المشهدي. فأبهر الناس بتهجين المسرح بأشكال أدبية وفنّية متعدّدة، ليقدّم عرضاً شكسبيريّاً أسطورياً معاصراً طوّع فيه الذكاء الاصطناعي ليمتزج بتاريخ طويل من الهندسة المعمارية والأزياء الاستعراضية وسينماها وعراقة الثقافة الفرنسية ودورها ومساحاتها وحتى نهرها…. هذا السحر العارم المفعم بالحبّ في عرض الافتتاح، آتٍ ربّما من اشتغال توماس جولي على ثيمات شكسبيرية في مهرجان أفينيون في 2014: ثماني عشرة ساعة من الأداء، ثلاث مسرحيات، خمسة عشر فصلاً، مئة وخمسون شخصية، عشرة آلاف بيت شعر… كلّها وُصفت حينها بالمبدعة والجريئة في ماراثون مسرحيّ هو الأوّل من نوعه. وها هنا على ضفاف السين في باريس في 2024، يبثّ جولي جرعات من الحبّ والمغامرة والجنون والعمل والثورة والانتقام والبهجة والمرح والتأمّل في التاريخ وآليّاته…. جمع بين الخفّة والبساطة والجمال والصناعة والرفاهية والترفيه وأعلى التأمّلات الميتافيزيقية.
“ثوريّ” هو أفضل وصف قد نطلقه على حفل افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس المشبّع بالرسائل والرموز. الثورة تحتاج أوّلاً إلى فكر وجرأة
ماراثون أوبرالي مسرحي سينمائي مشهدي موسيقي أدبي تاريخي مفعم بالحيوية مع قليل من الرياضة، امتدّ لأربع ساعات مُشبعة بالتشويق والعواطف والمؤثّرات الخاصة، سواء الصوتية أو الضوئية، بصحبة مصمّم الإضاءة الخاصّ به توماس ديشاندون. مغامرة خاضها الشابّ الأربعينيّ متحدّياً كلّ الدورات السابقة للألعاب الأولمبية وكلّ معسكرات التذمّر والتشاؤم التي رافقت التحضيرات لهذه الدورة التي استماتت فرنسا لاستضافتها بعد 3 محاولات فاشلة على مدى 25 سنة.
أغنية وداع أم مقدّمة للتّعافي
أعاد جولي للمسرح الفرجويّ مكانته، وأعادنا إلى شاشات التلفزيون بعدما هجرناها إلى شاشات الهواتف ومنصّات البثّ steaming، كما استعاد جمهوراً هجر المسرح والأوبرا والسينما على ضفاف نهر السين، وإن اشتكى من انعدام الرؤية بسبب أخطاء في تصميم المنصّات للمتفرّجين.
دمج العرض الحيّ بالمصوّر. ووضعنا أمام عالم جديد من الإبهار يجمع بين المسرح والأوبرا والسيرك والألعاب البهلوانية وحفلات الموسيقى المتنوّعة، وبين أضواء الليزر والذكاء الاصطناعي، التي زادها المطر المنهمر على عاصمة الأنوار دراما ورومانسية.
قد يقول معسكر المتذمّرين من قيود حركة المرور وانتشار رجال الأمن بكثافة في الطرقات، وهو مشهد غير معتاد في فرنسا
ليلة الحلم التي استثمرت باريس بهندستها المعمارية وحدائقها ونهر السين ومغيبها كخلفيّة تشكيلية لعرض مبهر وضخم، تعيد إلى الأذهان أغنية “أسماء باريس” (Les prénoms de Paris) للفنّان البلجيكي الراحل جاك بريل الذي عشق باريس ويخمّنه الناس فرنسياً، التي تقول: “الشمس التي تشرق وهي تدغدغ السطوح، إنّها باريس الصباح، والسين الذي يتنزّه ويقودني بالإصبع، إنّها باريس الأبديّة، وقلبي الذي يتوقّف، إنّها باريس التي تبتدئ مع القبلة الأولى في حدائق التويلري… إنّها باريس الرواية… الحبّ والموعد الأوّل في جزيرة سان لويس… باريس التي تبقى غداً كاليوم، باريس الرائعة”. ربّما فاتت المخرج توماس جولي هذه الأغنية التي تعبّر فعليّاً عمّا عرضه أو ربّما استوحى منها. من يعلم؟
إقرأ أيضاً: مثقّفو فرنسا أعلنوا “المقاومة” ضدّ اليمين المتطرّف (2/2)
من الصعب اعتبار “ترنيمة الحبّ” كخيار مصادفة. كتبت إديث بياف كلمات هذه الأغنية وسجّلتها عام 1950، مع موسيقى مارغريت مونو، كردّ فعل على مصير مأساوي، وهو وفاة حبيبها الملاكم مارسيل سيردان في حادثة تحطّم طائرة. ربّما غنّتها سيلين ديون انتقاماً لما يخبّئه لها القدر في السنوات الأخيرة من خلال تهديد أغلى ممتلكاتها، وهو صوتها. لكنّ أداء ديون كان تجسيداً لحال فرنسا اليوم التي أرادت الظهور بأبهى حللها وقوّتها وإبداعها، لكنّها في الحقيقة مريضة، وقد لا تتمكّن من الغناء مرّة أخرى أمام الجمهور! أو ربّما يكون هذا الحدث فأل خير ومقدّمة للتعافي والتقدّم في مسيرة فرنسا!