استفاق الفرنسيون فجأة على عرائض ونداءات من المثقّفين ضدّ اليمين المتطرّف. أكثر من 800 وثيقة وبيان في قطاع النشر والكتاب فقط لإعلان التعبئة ضدّ اليمين المتطرّف. على رأس هؤلاء الكاتب الفائز بجائزة غونكور الأخيرة جان بابتيست أندريا وفرانك ثيليز وكتّاب القصص المصوّرة كاثرين موريس وجول ولويسون وجان دافيد مورفان ووزير الثقافة الفرنسي السابق فرانسوا نيسين. وأشارت الوثيقة التي نشرتها صحيفة “لوموند” الفرنسية إلى أنّ “الثقافة غائبة تماماً عن برامج اليمين المتطرّف، وسيكون المجال الثقافي الضحيّة الأولى عند وصوله إلى السلطة”.
“كيف وصلنا إلى هنا؟”، هو سؤال طرحه وأجاب عليه مثقّفون كبار. اخترنا بعضاً من أجوبتهم، في هذه الحلقة، حول ما قاله آني آرنو وآلان غريش وإدغار موران وباتريك شاموازو وألكسندر تارو وآريان مانوشكين وفرانك ثييز.
فرانك ثييز: أخشى من النّازيّة
الكاتب فرانك ثييز (Franck Thilliez) وقّع على وثيقة “لوموند”. وقال في حديث لموقع “فرانس إنفو”: “عادةً لا أعبّر عن نفسي سياسياً أبداً وأحتفظ بآرائي لنفسي، لكنّ اللحظة خطيرة. لم يكن اليمين المتطرّف قريباً من السلطة أبداً مثل اليوم”.
صرّح مؤلف الروايات البوليسية الشهيرة: “أخشى أن نفقد نحن المؤلّفين والفنّانين الحرّية”، مستشهداً “بما يحدث في بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا حيث رأينا كتباً ممزّقة، تمّ رفعها وإزالتها من المكتبات بضغط من الأحزاب اليمينية المتطرّفة”. وتابع: “وقّعت على هذه العريضة لأنّها تتحدّث عن المشاركة والاحترام واليقظة والحرّية، هذه هي القيم التي تتحدّث إليّ، وهي مهدّدة”.
رأى الشاعر باتريك شاموازو أنّ “الجبهة الشعبية الجديدة هي الحلّ الصحيح”
مهرجان أفينيون يعلن المقاومة
تياغو رودريغيز، مدير مهرجان “أفينيون”، الذي هو واحد من أكبر المهرجانات المسرحية في العالم، أعلن التالي: “سيصبح مهرجان أفينيون “مهرجاناً للمقاومة” في حال فوز حزب التجمّع الوطني في الانتخابات التشريعية ووصوله إلى الحكومة، عشية افتتاح المهرجان”. وأكّد أنّ “وصول اليمين المتطرّف اليوم إلى السلطة يعرّض الحرّية الفنّية وحرّية التعبير التي كانت ولا تزال منذ 80 سنة شعار مهرجان أفينيون، للخطر”. وأعلنها صراحة بكلّ جرأة غير آبه بالدعم المادّي من المال العامّ: “الإدارة الحالية لمهرجان أفينيون لن توافق أبداً على التعاون مع حكومة ووزارة ثقافة يسيطر عليها اليمين المتطرّف”.
آني إرنو: سيحكم التاريخ على ماكرون بقسوة
قالت الأديبة والمفكّرة اليسارية الحاصلة على جائزة نوبل في 2022 آني إرنو في حديث لصحيفة “ليبراسيون” منذ يومين: “التاريخ سيحاكم ماكرون بقسوة”. وكانت دعمت اليساري جان لوك ميلونشون في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، لكن اليوم على الرغم من عدم رضاها على نتائج الانتخابات وإحباطها، إلا أنّها تحثّ المواطنين الفرنسيين على عرقلة فوز اليمين المتطرّف في الجولة الثانية الأحد المقبل. وترفض في هذا الوقت بالتحديد “امتحان أو تحكيم الضمير” الذي اقترحته مؤسِّسة “مسرح الشمس السياسي” أريان منوشكين.
صرّحت إرنو أنّها انهارت جرّاء نتائج الانتخابات الأحد الماضي: “عمري 83 سنة ولم أشهد قطّ شيئاً خطراً إلى هذا الحدّ. إنّها المرّة الأولى في فرنسا التي يتمتّع فيها اليمين المتطرّف بفرصة قويّة للحكم”. واعتبرت أنّ سبب الوصول إلى هذا الوضع يتحمّله أكثر من طرف: “لقد لعب ماكرون لعبة الروليت الروسية بالبلاد، وهو أمر لا يُغتفر”.
ذكّر غريش أنّها “ليست المرّة الأولى التي يهيمن فيها اليمين وفكره على الشارع. كان الوضع مشابهاً في ثلاثينيات القرن العشرين
لا تعتقد إرنو أنّ كلّ الذين صوّتوا لحزب التجمّع الوطني هم عنصريون: “العملية معقّدة للغاية. سمحنا لسنوات منذ جان ماري لوبان بزرع فكرة أنّ الهجرة بحدّ ذاتها مشكلة. وقد اكتسبت هذه الفكرة المزيد من الزخم. وساهمت وسائل الإعلام المهيمنة في تصوير الأجنبي ككبش فداء، وأقنعت كثيراً من الفرنسيين، وخصوصاً في المناطق الريفية حيث لا يوجد مهاجرون بكثرة. تضاف إلى ذلك حملة التشويه التي يتعرّض لها اليسار الذي تزعم أنّه يفضّل الهجرة واستغلال الإسلاموفوبيا من خلال اتّهامات بمعاداة السامية. هناك أيضاً التخلّي التدريجي عن العمّال والعاملين، والإغلاقات المتتالية للمصانع، وعدم التدخّل الاقتصادي من الدولة، وهو ما يغذّي الشعور بالظلم الاجتماعي الذي هو أساس التصويت لحزب التجمّع الوطني”.
لكن هل يحمل اليسار الحلّ؟
لا ترى إرنو أنّ “الوقت اليوم مناسب للنقد الذاتي، ليس عندما يكون البيت مشتعلاً… كلّ ما تمّ إنجازه في هذه البلاد لمصلحة الناس أتى عن طريق اليسار: خفض ساعات العمل، الإجازة المدفوعة الأجر، الإجهاض، إلغاء عقوبة الإعدام، حقوق الأقليّات… من ناضل ضدّ إصلاح نظام التقاعد؟ اليسار ونقاباته”.
إدغار مورين: حان وقت المقاومة الجديدة
رأى الشاعر باتريك شاموازو أنّ “الجبهة الشعبية الجديدة هي الحلّ الصحيح”.
تخوّف الموسيقي الشهير ألكساندر تارو أن يدوس “اليمين المتطرّف على الفنّانين وحقوقهم ومصادرة أصواتهم الحرّة، إذ بدأوا يخافون من الآن من التوقيع على عريضة ضدّ التصويت له خوفاً من وقف الدعم عنهم لاحقاً وعلى مراكزهم ووظائفهم”.
لكنّ لدى الفيلسوف وعالم الاجتماع إدغار موران، الذي يبلغ في اليوم التالي للجولة الثانية من الانتخابات 103 سنوات، تحليلاً ورأياً أكثر نضوجاً. فهو حذّر في مقابلة مع الصحافي بول غاسنييه في برنامج “Quotidien” من إمكانية تشكيل حكومة لليمين المتطرّف: “في مواجهة الأكاذيب والأوهام والهستيريا الجماعية، يجب تشكيل واحات الأخوّة”.
إنّها المرّة الأولى في فرنسا التي يتمتّع فيها اليمين المتطرّف بفرصة قويّة للحكم
أدرك موران اليساري حتى النخاع أنّ “البشرية تواجه الكثير من المخاطر”، وهو “ليس متشائماً ويرفض التفاؤل لمصلحة اليقظة لأنّني أعلم أنّه عندما تكون متشائماً لا يمكن أن تأتيك إلا أخبار جيّدة، وعندما تكون متفائلاً حتماً ستنهار حين تأتي الأخبار السيّئة… لا أضمر أوهاماً غير عضوية”.
مؤسّس نظرية “التعقيد – complexité”، الذي عاش الحرب والاحتلال والمقاومة، وولد باسم ناعوم، وهو ابن يهودي من مدينة تسالونيكي وأطلق على نفسه اسم موران، رأى أنّ “التجمّع الوطني الذي يطمح إلى الغالبية المطلقة، على الرغم من أنّه مهدّد اليوم بعد تشكيل الائتلاف المناهض، يتجاهل “الواقع الفرنسي الأساسي: التنوّع في الوحدة”. وقال: “زرع اليمين المتطرّف خوفاً من الهجرة عند الفرنسيين، والخطأ في الأساس فكري ومنطقي. يتحدّث التجمّع الوطني عن هويّة فرنسية باعتبارها هويّة جذع أصيل، لكنّ ما يميّز فرنسا أنّها توحّدت على مرّ العصور بين شعوب غريبة بعضها عن بعض”. وشرح أنّ “التجربة التاريخية تظهر لنا أنّه خلال جيلين يحدث اندماج كامل متكامل، خصوصاً عندما تحصل زيجات مختلطة، وهو ما حصل في البداية عند الإسبان والإيطاليين ثمّ اليهود البولنديين والروس والمغاربة والأفارقة”. وصرّح موران أنّه على الرغم من تضخّم الهجرة إلا أنّ عملية الاندماج لا تزال مستمرّة ولو ببطء ومع معوّقات. باختصار مفيد: “فرنسا هي التنوّع في الوحدة وقبول الجمهورية وقبول الأمّة”.
اعتبر أنّ “شعباً عظيماً مثل الشعب الألماني عانى سابقاً من هذا الهذيان الجماعي، كما عانى العديد من الروس من الهذيان الجماعي الستالينيّ. لكنّ فرنسا بفضل التقاليد والموروثات من الثورة الجمهورية، لديها كبلد قدرات إبداعية، وأعتقد أنّ من صوّتوا للتجمّع الوطني ذهبوا بنيّة الاحتجاج على الوضع القائم من محاكمات وتجارب، وهم ينتظرون رسالة أو إشارة تمنحهم صوتاً يُسمع”.
وصول اليمين المتطرّف اليوم إلى السلطة يعرّض الحرّية الفنّية وحرّية التعبير التي كانت ولا تزال منذ 80 سنة شعار مهرجان أفينيون، للخطر
آلان غريش: التّاريخ الاستعماريّ هو السبب
أمّا الصحافي والكاتب اليساري الفرنسي آلان غريش فاعتبر في إحدى مقابلاته مع موقع “جدلية” أنّ “صعود اليمين المتطرّف في فرنسا متعلّق بتاريخنا الاستعماري، هذا التاريخ الذي لم ينتهِ بعد. فرنسا لا تزال قوة استعمارية ولم تنجح في التخلّص من هذا التاريخ، الأمر الذي يدفع باتجاه العودة إلى أيديولوجية كانت موجودة حين كنّا في الجزائر. فالفكرة الوحيدة التي يسوّقها اليمين بمواجهة المسلمين: “سيغزوننا”.
لفت غريش إلى أنّ هذا هو “أحد أسباب فشل اليسار الفرنسي المنقسم، الذي لم يكن يوماً قادراً على مناقشة مسألة الاستعمار هذه وعواقب التاريخ الاستعماري على المجتمع الفرنسي”.
إقرأ أيضاً: مثقّفو فرنسا استفاقوا متأخّرين: كيف وصلنا إلى هنا؟ (1/2)
ذكّر غريش أنّها “ليست المرّة الأولى التي يهيمن فيها اليمين المتطرّف وفكره على الشارع. كان الوضع مشابهاً في ثلاثينيات القرن العشرين حين كان اليمين المتطرّف قوياً. لكنّ الاختلاف أنّه كان في مواجهته حزب شيوعي – اشتراكي يساري جداً، وكان قادراً ليس فقط على مكافحة الفاشية، بل أيضاً على مكافحة العنصرية والمعاداة للسامية. والفارق أنّ العدوّ (خاصة للطبقة العاملة) لم يكن المسلم أو الأجنبي بل الرأسمالي، واليوم اختفى الفاعلون وانهارت الأحزاب السياسية، ونقابات العمّال أصبحت ضعيفة، والنظام من الداخل أصبح ضعيفاً، ولا يوجد مشروع سياسي حقيقي إلا لدى اليمين المتطرّف، وهو مبني على القومية الشوفينية في غياب المشروع الفرنسي الموحّد”.