رأيان متناقضان إلى حدّ ما حول خطاب بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس الأميركي أدلى بهما دبلوماسيان أميركيان لكلّ منهما تجربة وخبرة طويلتان في شؤون منطقة الشرق الأوسط وبشكل خاص الشؤون الإسرائيلية الفلسطينية، وهما: ديفيد هيل* وآرون ديفيد ميلر*.
هيل: على زعماء أميركا أن يحسدوه
كتب ديفيد هيل في موقع مركز ويلسون حيث يعمل حالياً زميلاً أوّل:
“سواء اتّفق المرء معه أم لا، أظهر نتنياهو طلاقة في الكلام ينبغي للزعماء السياسيين الحاليين في أميركا أن يحسدوه عليها. وعلى الرغم من أنّ رسالته قد تكون مكتومة بسبب الدراما التي شهدتها الانتخابات الرئاسية الأميركية، إلا أنّه مع ذلك قدّم حججاً قويّة، فذكّر جمهوره بأهوال السابع من أكتوبر، ودور إيران في الصراع المتعدّد الأوجه في الشرق الأوسط اليوم، و”تعهّد إسرائيل المقدّس” بـ”عدم السماح مرّة أخرى” بحدوث 7 أكتوبر..
على الجبهة اللبنانية الإسرائيلية، اختار نتنياهو كلماته بعناية، مفضّلاً الدبلوماسية كوسيلة لاستعادة الأمن على الحدود الشمالية، لكنّه لم يستبعد أيّ شيء. وتعهّد ببذل كلّ ما يلزم لتأمين الحدود وتمكين عودة ثمانين ألف إسرائيلي نزحوا منذ انضمّ الحزب إلى الحرب. ويبدو أنّ الحكمة التقليدية في واشنطن تقول إنّه بمجرّد التوصّل إلى اتّفاق لتحقيق الهدوء في غزة، فإنّ الحرب بين إسرائيل والحزب ستهدأ أيضاً. غير أنّ الأمر ليس بهذه البساطة. وسيسعى الحزب وإيران إلى العودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبل 7 أكتوبر، مع الاحتفاظ بأسلحتهما وقدرتهما على إرهاب إسرائيل. والسؤال هنا ليس عن نوايا الحزب، بل عن نوايا إسرائيل. وربّما يدرك نتنياهو التكاليف المترتّبة على شنّ حرب شاملة مع الحزب، فالتطوّر وكمّية الأسلحة على كلا الجانبين يتجاوزان ما رأيناه عام 2006. ولكنّه لن يسمح بأن يتجاوزه جناحه اليميني، الذي يحرّكه نفس شعار “لن يتكرّر هذا أبداً” الذي استشهد به نتنياهو في خطابه.
من المشكوك فيه أن تؤدّي هذه الغزوة لواشنطن إلى تعزيز استطلاعات الرأي الباهتة في الداخل.
ولكي تنجح الدبلوماسية، لا بدّ أن تقدّم سريعاً سيناريو مقنعاً لا يستطيع فيه الحزب اتّخاذ قرارات الحياة والموت للّبنانيين والإسرائيليين على حدّ سواء. ولن تنجح التحرّكات الصغيرة، مثل تعديل قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701، أو إبعاد مقاتلي الحزب بضعة كيلومترات، أو نشر المزيد من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة من دون تفويض بالقتال، في تحقيق أيّ هدف. تكمن الإجابة في طهران، لا في بيروت، وفي تغيير حسابات المخاطر والفوائد في ما يتّصل بالمواجهة المستمرّة مع الولايات المتحدة وحلفائها. عرض نتنياهو بعض الأفكار في هذا الصدد، لكنّ التغيير الحقيقي في السياسة الإيرانية سيتطلّب فرض ضغوط حقيقية على إيران، وهو أمر لن يتحقّق بسهولة في عام انتخابي.
ميلر: هدفه كسب الوقت والبقاء في السّلطة
من جهته آرون ديفيد ميلر كتب في مجلّة “فورين بوليسي”:
“نتنياهو تفوّق حتى على خطابات رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل الثلاثة أمام جلسة مشتركة للكونغرس، لكن من المشكوك فيه أن تؤدّي هذه الغزوة لواشنطن إلى تعزيز استطلاعات الرأي الباهتة في الداخل. لم تكن الزيارة مهمّة لما حقّقته، لكن لما تعكسه، وهو أنّ ما نسمّيه نظام العمل الأميركي الإسرائيلي لا يزال يعمل. ولا تزال السياسة الداخلية للولايات المتحدة تتشكّل من خلال الالتزام العميق بأمن “إسرائيل”، وهو ما يزيد من نفوذ “إسرائيل” على الولايات المتحدة، ويقلّل من نفوذ الولايات المتحدة على “إسرائيل”.
حاليّاً، فإنّ الدعامة الأساسية لهذا النظام هو الحزب الجمهوري، حزب “إسرائيل” الحقيقي. لكنّه يتعرّض لضغوط قويّة، إذ أصبحت إسرائيل بزعامة نتنياهو قضية حزبية ومتضاربة للغاية في السياسة الأميركية.. وإذا أصبح الحزب الجمهوري الآن حزب ترامب فمن المهمّ لنتنياهو، أكثر من أيّ وقت مضى، إصلاح علاقاته مع دونالد ترامب. يبقى أن نرى ما إذا كانت إدارة هاريس المحتملة ستتّخذ نهجاً أكثر صرامة تجاه إسرائيل، لا سيما في ما يتعلّق بسياستها تجاه الفلسطينيين.
نتنياهو تفوّق حتى على خطابات رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل الثلاثة أمام جلسة مشتركة للكونغرس
لم يأتِ نتنياهو إلى واشنطن للتفاوض أو تقديم تنازلات بشأن وقف محتمل لإطلاق النار. بل جاء لتعزيز رصيده السياسي في الداخل، وإدارة التوتّرات مع بايدن ونائبة الرئيس كامالا هاريس، وإصلاح العلاقات مع ترامب. وكان خطابه أمام الكونغرس بمنزلة دعامة له، ولم تكن هناك مفاجآت. كان دفاعاً قاسياً وساخطاً عن أهداف “إسرائيل” من الحرب، وخطاباً أدائيّاً يهدف إلى تأمين قاعدته اليمينية، وإرضاء أنصاره الجمهوريين، وتسليط الضوء على أنّه وحده الذي لا غنى عنه لإدارة أعداء “إسرائيل” والوقوف في وجههم. ولا ينبغي لأحد أن يتوقّع أيّ شيء خلاف ذلك.
استراتيجيّته هي كسب الوقت.. إذا كان نتنياهو يميل إلى قبول اتفاق وقف إطلاق النار، فسيكون الوقت قد حان الآن. تضع عطلة الكنيست نتنياهو في مأمن من تصويت شركاء الائتلاف. يمكنه أن يحاول انتزاع أكبر عدد ممكن من الرهائن خلال المرحلة الأولى من الاتفاق، ثمّ في حال خرق حماس للاتّفاق تتاح له فرصة استئناف الحرب لإبقاء شركائه اليمينيين داخل الائتلاف. هدفه رصّ صفوفه والمحافظة على أغلبيّته البرلمانية الصغيرة سليمة، بينما تشعر الولايات المتحدة بالقلق بشأن الحملة الرئاسية وانتخاباتها. إذا تمكّن نتنياهو من الحفاظ على ائتلافه خلال عطلة الكنيست، يمكن الدعوة إلى انتخابات جديدة في أقرب وقت ممكن في أوائل عام 2025، وهذا سيجعل من الممكن مواءمة التقويمات السياسية الإسرائيلية والأميركية. وسيكون قادراً بعد ذلك على تعديل استراتيجيته وتكتيكاته وفقاً لهويّة الرئيس الأميركي المقبل.
لم يأتِ نتنياهو إلى واشنطن للتفاوض أو تقديم تنازلات بشأن وقف محتمل لإطلاق النار. بل جاء لتعزيز رصيده السياسي في الداخل
* السفير ديفيد هيل: كان وكيل وزارة الخارجية من 2018 إلى 2021، وسفيراً لدى باكستان (2015-2018)، ولدى لبنان (2013-2015)، ومبعوثاً خاصّاً للسلام في الشرق الأوسط (2011-2013)، ونائباً للمبعوث الخاص (2009-2011)، وسفيراً لدى الأردن (2005-2008). خدم في تونس والبحرين والسعودية وفي بعثة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة. كان نائباً مساعداً لوزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط (2008-2009)، ومديراً للشؤون الإسرائيلية الفلسطينية (2001-2003). شغل عدّة مناصب إدارية، بما في ذلك مساعد تنفيذي لوزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت.
إقرأ أيضاً: فريدمان: نتنياهو.. زعيم صغير في عصر عظيم؟
* آرون ديفيد ميلر: باحث أوّل في مؤسّسة كارنيغي للسلام الدولي، ومفاوض ومستشار سابق حول شؤون الشرق الأوسط لوزراء خارجية أميركيين من الجمهوريين والديمقراطيين. ساعد في صياغة السياسة الأميركية حول الشرق الأوسط والسلام العربي الإسرائيلي.
لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا