هل يكفي إبدال العجوز جو بايدن (81 سنة) بنائبته الأحدث سنّاً كامالا هاريس (59 سنة) كي يستعيد الحزب الديمقراطي عافيته، ويبقى في السلطة، والأهمّ من ذلك أن يقطع الطريق على الشعبويّ عدوّ المؤسّسات دونالد ترامب فلا يعود إلى البيت الأبيض؟ وهل ترشيح امرأة ملوّنة، وهي سابقة في تاريخ الولايات المتحدة، كافٍ بحدّ ذاته لوقف نزيف الناخبين اللاتينيين والسود، بحيث يميل عدد معتبر منهم لانتخاب ترامب، بسبب الأزمة الاقتصادية التي مرّوا بها خلال ولاية بايدن؟
أجاب المؤرّخ مايكل كازين في رأي له نُشر في مجلّة Politico، في 23 الشهر الجاري، أنّ الأزمة لم تنتهِ بعد، لأنّها أعمق من استبدال أشخاص، وجذورها في دور الحزب الديمقراطي، ومن يمثّل تاريخياً. لكنّها الآن فرصة، وقد تكون مفيدة جداً، إذا تأمّل الديمقراطيون في الكيفية التي تمكّن بها حزبهم من التعافي من الأزمات الخطيرة التي مرّ بها منذ تأسيسه عام 1828. ويكفي إلقاء نظرة إجمالية على هذه الأزمات لمعرفة الفوارق النوعية بين أزمات الأمس والأزمة اليوم. فتلك الأزمات جميعها كانت عبارة عن صراعات مريرة حول السياسة بدلاً ممّا شهده الحزب في الأسابيع الأخيرة من معالجة التدهور المعرفي لمرشّحه جو بايدن أو الشكوك التي أُثيرت حول قدرته على الفوز في الانتخابات. ومن أهمّ الدروس التي يمكن للديمقراطيين الرجوع إليها، أنّهم فازوا دائماً عندما توحّدوا على برنامج اقتصادي تقدّمي، يروّج لرأسمالية أكثر أخلاقية، أو عندما انهار خصومهم من تلقاء أنفسهم، وليس غير ذلك.
عندما انتصر الأميركيون في حرب الاستقلال عن بريطانيا العظمى (1775-1783)، وقامت نواة الولايات المتحدة، واستمرّت في ضمّ الولايات الواحدة تلو الأخرى، لم يكن الحزب الديمقراطي موجوداً. بل نشأ حزبان هما نتاج الخلاف بين توماس جيفرسون (توفّي عام 1826) وألكسندر هاميلتون (توفّي عام 1804)، عندما كانا عضوين في الحكومة الأولى لولاية جورج واشنطن (توفّي 1799). هاميلتون والفدراليون كانوا يؤيّدون قيام حكومة مركزية قويّة، ومعظم أنصارهم من طبقة الصناعيين والتجّار.
مهمّة كامالا هاريس ليست سهلة إطلاقاً، إن استمرّت كمرشّحة عن الحزب الديمقراطي، أوّلاً في إخراج ترامب من المعادلة، وهو أمر صعب
أمّا جيفرسون والجمهوريون فكانوا يعارضون تعزيز سلطة الحكومة المركزية، ومعظم أنصارهم من المزارعين. وخلال حرب (1812-1815) بين الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى بسبب الخلاف على الحقوق البحرية بين الدولتين، حاول عدد من المتطرّفين في الحزب الفدرالي تدبير انفصال “إنكلترا الجديدة” عن الاتّحاد، وهذه المنطقة تضمّ ستّ ولايات في الشمال الشرقي. فلم ينجحوا إلا في تلطيخ سمعتهم بوصفهم خونة، واندثر حزبهم على المستوى الوطني عام 1816، وانضمّت فلولهم إلى الحزب الجمهوري. لكنّ مبادئ الحزب الفدرالي لم تمُت. عاشت الولايات المتحدة “حقبة المشاعر الجيّدةEra of Good Feelings “. لكنّ الحزب الجمهوري ظلّ منقسماً إلى تيّارات متناحرة. وبعد 12 سنة فقط، تمكّن المحامي والسياسي اللامع مارتن فان بورين (توفّي عام 1862) من تأسيس الحزب الديمقراطي من رحم الحزب الجمهوري وعلى أنقاض الحزب الفدرالي.
قد يبدو الحزب الديمقراطي بنسخته الحالية الأكثر تقدّمية في الولايات المتحدة. لكنّه في عام 1860، انقسم الديمقراطيون في الشمال والجنوب بشدّة حول توسّع العبودية لدرجة أنّه انتهى بهم الأمر بعقد مؤتمرين منفصلين، كلّ واحد منهما قدّم مرشّحاً غير مقبول إطلاقاً من الآخر. ومع انقسام الحزب إلى قسمين، فاز الجمهوريون بزعامة أبراهام لنكولن (اغتيل عام 1865) بأغلبية واضحة في المجمع الانتخابي، وبـ40% فقط من الأصوات الشعبية. وهو الذي بادر إلى إنهاء العبودية في البلاد.
انتعش الديمقراطيون في نهاية المطاف في منتصف سبعينيات القرن التاسع عشر، وذلك بفضل الكساد الحادّ، وطريقة إعادة الإعمار في الجنوب بعد الحرب الأهلية (1861-1865) بقيادة الحزب الجمهوري. وما بين 1890-1920، كان للجمهوريين، مع شخصيات مهمّة مثل تيدي روزفلت (توفّي عام 1919) وبوب لا فوليت (توفّي عام 1925)، الريادة في مكافحة الفساد، وإصلاح العملية الانتخابية، والحدّ من فساد رأس المال الكبير، وتطوير برامج الرعاية الاجتماعية، أي كان الحزب الجمهوري على عكس الحزب الديمقراطي لجهة الاهتمام بالرعاية الاجتماعية، ومكافحة تغوّل الرأسمالية. كما كان حزب البيض الإنجيليين في الجنوب، قبل أن ينعكس فيصبح الجنوب من أبرز معاقل الحزب الجمهوري المحافظ.
كما يقول المؤرّخ مايكل كازين، الديمقراطيون موحّدون بشكل ملحوظ حول القضايا التي قام بايدن بحملته الانتخابية من أجلها
المرحلة الفاصلة بين تاريخين هي حقبة “الاتفاق الجديد New Deal”، وهو عبارة عن سلسلة من البرامج الماليّة الإصلاحية التي أطلقها الرئيس الديمقراطي فرانكلين روزفلت (توفّي عام 1945)، وهو الوحيد الذي حكم لثلاث ولايات متتالية بين عامي 1933 و1945، وكان هدف تلك البرامج مواجهة الكساد العظيم Great Depression (1929-1939). ومنذ ذلك الوقت، تسلّم الحزب الديمقراطي زمام المبادرة في مجال ترويض تجاوزات الرأسمالية، وتعزيز المصالح الاقتصادية للطبقة المتوسطة والطبقة العاملة، والضغط من أجل العدالة الاجتماعية. وبالمقابل، تبنّى الحزب الجمهوري تأييد مصالح قطاع الأعمال التجارية، وبات منتمياً بقوّة إلى التيار المحافظ.
جونسون وبايدن
قد يكون الرئيس الديمقراطي السابق ليندون جونسون (توفّي عام 1973)، هو الأكثر شبهاً بالرئيس الحالي جو بايدن، لجهة خبرته في السياسة، وفي مآله أيضاً. فهو كان نائباً في مجلس النواب، وفي مجلس الشيوخ، ثمّ أصبح نائباً للرئيس جون كينيدي (اغتيل عام 1963)، ثمّ أكمل ولاية كينيدي بعد اغتياله، وحكم كرئيس. لكنّه اضطرّ إلى الانسحاب من السباق الانتخابي عام 1968. شغل كلّ من جونسون وبايدن منصب الرئيس، وخطّطا للترشّح لإعادة انتخابهما، لكنّهما اضطرّا إلى الانسحاب بسبب المعارضة الشرسة داخل حزبهما.
لكنّ المعارضة ضدّ جونسون في عام 1968، كانت لسبب أكثر أهمّية بكثير من القلق بشأن كيفية أداء الرئيس على شاشة التلفزيون. كان هناك أكثر من نصف مليون جندي أميركي يقاتل في فيتنام. ونشب صراع حادّ داخل الحزب بين المؤيّدين لحرب فيتنام والمناهضين لها وأدّى إلى فوز الجمهوري ريتشارد نيكسون. ولم يتعافَ الديمقراطيون من هذه النكسة، إلا بعد بضع سنوات، بخطأ مميت ارتكبه نيكسون من خلال التنصّت على مكاتب الحزب الديمقراطي داخل مجمع ووترغيت.
تسلّم الحزب الديمقراطي زمام المبادرة في مجال ترويض تجاوزات الرأسمالية، وتعزيز المصالح الاقتصادية للطبقة المتوسطة والطبقة العاملة
الآن، كما يقول المؤرّخ مايكل كازين، الديمقراطيون موحّدون بشكل ملحوظ حول القضايا التي قام بايدن بحملته الانتخابية من أجلها، وسعى إلى تجديد ولايته لاستكمالها، باستثناء الانقسام بشأن الحرب الإسرائيلية على غزة. فممثّلو الحزب الديمقراطي في مجلسَي النواب والشيوخ يشجّعون العمّال على تشكيل نقابات، ويريدون القيام باستثمارات جادّة في الطاقة المتجدّدة، ويفضّلون بالإجماع زيادة الضرائب على الأغنياء وتسليح أوكرانيا. وإذا كان لانسحاب بايدن من المعركة الانتخابية أن يمنح الديمقراطيين فرصة لإحياء حظوظهم في ما بدا قبل أسابيع قليلة وكأنّه سباق خاسر، فقد لا يعني الكثير لمعالجة الأزمة الأعمق التي يواجهونها منذ أن أعاد دونالد ترامب تشكيل الحزب الجمهوري. فترامب خاض أوّل انتخابات رئاسية عام 2000 عن حزب الإصلاح، ولم يفُز. ثمّ عاد إلى الحزب الجمهوري عام 2012، وفاز عام 2016 بالرئاسة عن هذا الحزب، بعدما أصبح ذا تأثير كبير فيه.
ماذا ستفعل كامالا هاريس؟
ليست المشكلة في كيفية دحض أكاذيب دونالد ترامب في المناظرة المرتقبة مع كامالا هاريس، أو في التغلّب على شعبوية ترامب من خلال سوق الحجج المقنعة لجمهور الناخبين. هي بالنسبة لكثير من الأميركيين ليبرالية من سان فرانسيسكو، تهتمّ بشدّة بالحقوق الفردية والتنوّع العرقي. لكنّها حتى الآن لم تظهر قدرة على التواصل بالشغف مع ناخبي الطبقة العاملة الذين يعتقدون أن لا الحزب الديمقراطي ولا الحكومة أظهرا الاهتمام بمشاكلهم الاقتصادية، ويخشون من أن تكون حياة أطفالهم أسوأ من حياتهم هم.
قد يبدو الحزب الديمقراطي بنسخته الحالية الأكثر تقدّمية في الولايات المتحدة. لكنّه في عام 1860، انقسم الديمقراطيون في الشمال والجنوب بشدّة
فضلاً عن الهموم الاقتصادية التقليدية للطبقات المتوسطة والعاملة، فإنّ الصدمة الأخلاقية التي أصابت كثيراً من مؤيّدي الحزب الديمقراطي، لا سيما الشباب منهم، بسبب تقديم دعم بلا حدود لحرب الإبادة على قطاع غزة، من العوامل التي تهزّ الثقة ليس بالحزب الديمقراطي فقط، بل بنظام الحزبين الذي يحكم الولايات المتحدة منذ تأسيسها، ويجعل هامش التغيير الحقيقي ضئيلاً، وهو ما يحفّز على الإصلاح في النظام الانتخابي الذي يسمح للوبيات الضغط بالتأثير في نتائج الانتخابات لمصلحة فئات أقلّوية في المجتمع، والذي من المتوقّع بحسب دراسة الاتّجاهات الديمغرافية أن يصبح الملّونون من أصول لاتينية، إضافة إلى الآسيويين والسود، أكثر من نصف السكان، بحلول 2050، وذلك لعوامل عدّة، منها ارتفاع معدّل الإنجاب لدى اللاتينيين الكاثوليك بشكل خاص، واستمرار تدفّق المهاجرين عبر الحدود الشمالية من كندا والجنوبية من المكسيك.
إقرأ أيضاً: أميركا وديمقراطيّتها في أزمة
مهمّة كامالا هاريس ليست سهلة إطلاقاً، إن استمرّت كمرشّحة عن الحزب الديمقراطي، أوّلاً في إخراج ترامب من المعادلة، وهو أمر صعب، وثانياً في تجديد الحزب نفسه، من خلال اختيار موفّق لنائبها في الانتخابات، ومراجعة المسيرة السياسية للحزب بما يترافق مع التغيّرات الهائلة في الداخل والخارج، وهذه المهمّة عويصة.
لمتابعة الكاتب على X: