بعد 10 أشهر على الحرب في غزة والتصعيد على جبهة جنوب لبنان – شمال إسرائيل، اقتربت المنطقة خطوة أخرى من خط النار الإقليمي الذي يتمسّك الثنائي الإسرائيلي الإيراني بإشعاله وتوسيع رقعته. حرّك نتنياهو مقاتلاته الحديثة باتّجاه مواقع حوثية في اليمن، فأعلنت طهران أنّ تل أبيب لم تعد آمنة. دخلت واشنطن ولندن سريعاً على الخطّ من خلال استهداف مواقع حوثية في غرب اليمن ردّاً على مهاجمة السفن الغربية في البحر الأحمر، فأعلن الحوثي أنّ العدّ التنازلي قد بدأ. هل الهدف هو البحث عن ممرّات مائية بديلة أم سحب ورقة هذا الحوض المائي الاستراتيجي من يد الحوثيين؟
يقول وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت مهدّداً بأنّه سيكون بالإمكان رؤية الحرب في اليمن من أيّة بقعة في الشرق الأوسط. لعبة الردّ على الردّ من دون فتح الطريق أمام الانفجار الكبير هي التي تسود على جبهتَي جنوب لبنان والخطّ اليمني الإسرائيلي. الأنظار موجّهة أيضاً نحو جبهات أخرى مثل قبرص والجولان والعراق.
أعلنت إدارة مرفأ إيلات الإسرائيلي أنّ حركة السفن مجمّدة بسبب الأخطار المحدقة بالحوض الأحمر. تل أبيب لن تكتفي بلعب اللون الأحمر في التصعيد الإقليمي، بل يهمّها إشراك الأبيض والأسود والأصفر إذا ما كانت قادرة على فعل ذلك.
نتنياهو وسلّة البيض
الوحيد الذي لا يحمل سلّة بيض على كتفه هو نتنياهو. يهاجم من يشاء، ويصعّد ضدّ من يريد، ويورّط الشركاء والحلفاء في معاركه دون أن يقلق على مصيره الحزبي والسياسي وتحالفه الحكومي. منح طهران ما تريده عندما أوصل الأمور إلى مرتبة صعود الحوثيين خشبة المسرح الإقليمي، فهل هناك تفاهمات إسرائيلية إيرانية غير معلنة على لعب هذه الورقة ضدّ دول المنطقة؟
حمّلت إيران أميركا وإسرائيل مسؤولية استهداف مواقع حوثية في اليمن. طهران عندها وكلاء محليون كثر تحرّكهم دون أن تدخل في مواجهة مباشرة مع تل أبيب. السؤال هو كيف ستتصرّف العديد من العواصم وبينها تركيا في مواجهة طاولة تفاهمات إيرانية – إسرائيلية برعاية أميركية؟
تصعيد الحوثي الأخير باتجاه إسرائيل وردّ تل أبيب في الحديدة قد لا يكونان تقليماً للأظافر بل طلاء لها بالأحمر تمهيداً لتمرير مشروع تفاهمات
تكرّر القيادات السياسية التركية منذ أسابيع أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وقياداته الذين قتلوا ما يقارب 40 ألف فلسطيني في غزة وأرادوا إشعال حرب إقليمية من أجل البقاء في السلطة، سيمثلون أمام المحاكم الدولية وسيحاسبون على الجرائم التي ارتكبوها عاجلاً أم آجلاً. يردّ وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس بأنّ إردوغان يقرّب تركيا من محور الشر الذي تقوده إيران، وأنّ خلايا حماس في غزة يتلقّون أوامرهم من قيادات لهم في تركيا. لكنّ السؤال الأهمّ يبقى حول حدوث المفاجأة الإيرانية الإسرائيلية على أكثر من جبهة. أعمدة الدخان المتصاعدة من الحديدة قد تنتشر في سماء البحر الأحمر، لكنّها قد لا تصل إلى الأجواء الإيرانية.
بعد يوم واحد فقط من هجوم بطائرة مُسيَّرة تبنّته الجماعة الحوثية ضدّ تل أبيب، تحرّكت مقاتلات إسرائيلية قاطعة مئات الكيلومترات لقصف ميناء الحديدة في اليمن.
في العلن هدف نتنياهو هو تحويل حلقة النار التي تطوّقها بها إيران في لبنان وسوريا والعراق بمساندة الحوثي في اليمن، إلى حلقة أوسع تحاصر طهران وتديرها هي في إطار مواجهة إقليمية غربية إيرانية. لكنّ تطوّرات المشهد على الجبهة اليمنية تقول إنّ إيران تريد تحريك جبهات جنوب لبنان والجولان والاستعانة بالدعم الحوثي في البحر الأحمر لفرض نفسها على مسار الوضع في غزة، وتفعيل هذه الجبهات من أجل إقناع تل أبيب وواشنطن بقبول الذهاب إلى طاولة الحوار والتفاوض الإقليمي معها في الكثير من الملفّات العالقة.
في العلن هدف نتنياهو هو تحويل حلقة النار التي تطوّقها بها إيران في لبنان وسوريا والعراق بمساندة الحوثي في اليمن إلى حلقة أوسع
تحصد واشنطن نتائج سياستها الإقليمية وطريقة تعاملها مع أكثر من ملفّ. لن تكفيها غارة أو غارتان على مواقع استراتيجية للحوثي لردعه عن مهاجمة سفنها في مياه البحر الأحمر. مفتاح الحلّ بعد الآن هو إمّا سحب الأوراق التي باتت طهران تمتلكها من خلال توحيد بنادق الردع المحلّي في لبنان وغزة والعراق واليمن، والبداية قد تكون من خلال سحب ورقة غزة من يدها، أو إشراك طهران في كلّ هذه المسائل على حساب العديد من الحلفاء والشركاء تمهيداً لترتيب طاولة تفاهمات إيرانية إسرائيلية. الخيار الثاني قد يكون الأقرب والأسهل بالنسبة للدولة العميقة في إيران وأميركا وإسرائيل.
تعلن إسرائيل أنّها استهدفت طريق إمداد رئيسي لإيصال الأسلحة الإيرانية إلى اليمن. ويردّ الحوثي أنّه سعيد بدخوله المواجهة المباشرة مع إسرائيل. فما هي الخطوة المقبلة بالنسبة للطرفين، انتظار نتائج لقاء بايدن ونتنياهو في واشنطن أم رصد المواقف الإيرانية التي تنتظر من واشنطن إعلان تجميد عمليات التحالف الدولي في البحر الأحمر والذهاب إلى طاولة التفاوض معها حول أكثر من مسألة؟
طلاء الأظافر لا تقليمها
بايدن مقتنع أنّ نتنياهو غير قادر على التعامل بمفرده مع كلّ هذه الجبهات المشتعلة التي يهاجمها وتهاجمه، وأنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي يبحث عن فرص توريط الغرب في المواجهات عندما يفشل في إقناع واشنطن بأنّها الفرصة المناسبة للتدخّل وتغيير كلّ التوازنات التي بنتها إيران في المنطقة. لذلك يعوّل على أن تكون حسابات أميركا مختلفة هنا: التقريب بين تل أبيب وطهران في المناطق الساخنة وبناء معادلات سياسية وأمنيّة جديدة على طاولة إعادة توزيع النفوذ على حساب الآخرين بدلاً من الاستنزاف العسكري والمادّي للطرفين.
تقول الكثير من المؤشّرات إنّه لم يعد مهمّاً من سيقنع الآخر خلال لقائهما المرتقب في واشنطن، بايدن أم نتنياهو، لأنّ التخطيط والتنفيذ والأهداف واحدة. المهمّ هو معرفة ما الذي سيتمّ الاتفاق عليه خلال الأسابيع المقبلة وأميركا في الطريق إلى الانتخابات الرئاسية.
الوحيد الذي لا يحمل سلّة بيض على كتفه هو نتنياهو. يهاجم من يشاء، ويصعّد ضدّ من يريد
تصعيد الحوثي الأخير باتجاه إسرائيل وردّ تل أبيب في الحديدة قد لا يكونان تقليماً للأظافر بل طلاء لها بالأحمر تمهيداً لتمرير مشروع تفاهمات وتقاسم نفوذ إقليمي على حساب أكثر من لاعب. لقاء بايدن نتنياهو المرتقب قد يكشف عن الخطة الأميركية الإسرائيلية الهادفة لإقناع طهران بالذهاب نحو التهدئة وقبول عروض التحاصص الإقليمي الجديد.
لماذا تدخل تل أبيب وطهران في مواجهة إقليمية باهظة الثمن ما دامت التفاهمات قد تعطيهما ما يريدان ودون توسيع رقعة الجبهات وتحمّل المزيد من المخاطر والأعباء؟
مصلحة واشنطن الذاهبة خلال أشهر إلى انتخابات رئاسية تقتضي ذلك أيضاً، ولا فرق بين أن يكون الرئيس ديمقراطياً أو جمهورياً بالنسبة لطهران وتل أبيب.
معادلة استهداف موقع استراتيجي إسرائيلي مثل ميناء إيلات مقابل محاصرة ميناء استراتيجي آخر بيد الحوثي مثل ميناء الحديدة ساقطة منذ البداية
معادلة استهداف موقع استراتيجي إسرائيلي مثل ميناء إيلات مقابل محاصرة ميناء استراتيجي آخر بيد الحوثي مثل ميناء الحديدة ساقطة منذ البداية لأنّ طهران وتل أبيب تنظران إلى الصراع بينهما على أنّه جزء من التوازنات الإقليمية ككلّ وأنّ حسابات الربح والخسارة بينهما لا تعنيهما وحدهما بل تعني العديد من الدول الإقليمية الفاعلة في المنطقة، وأنّ الدائرة الاستراتيجية التي تعنيهما أوسع وأكبر من ذلك بكثير وتصل إلى باب المندب وقناة السويس والعقبة الأردنية والفاو العراقية والموانىء اللبنانية والمضائق التركية.
إقرأ أيضاً: الحوثيّون: هل يغيّرون المشهد الحربيّ؟
يردّد أحد أهمّ المؤرّخين المعاصرين الأتراك الأكاديمي إيلبار أورتايلي بنبرة تشاؤمية أنّ “الكون بأكمله بات مهدّداً بعد الكوارث الطبيعية والأوبئة المتفشّية والحروب التي تدور في أكثر من مكان. خطر اندلاع الحرب العالمية الثالثة يقترب يوماً بعد يوم بسبب ما يجري في منطقة الشرق الأوسط. سندمّر أنفسنا ونزيل عرقنا البشري ونهدّد أرواح أجيال مقبلة، وبعد ذلك لن تكون على الأرض حياةٌ لفترة طويلة”. بعده بساعات كتب أحد أبرز اختصاصيّي النظم الغذائية في تركيا الأكاديمي عثمان مفتي أوغلو كلاماً مغايراً فيه الكثير من التفاؤل: “إنّ متوسّط عمر الإنسان في مطلع القرن العشرين كان بحدود 30 أو 40 عاماً. في مطلع القرن الواحد والعشرين وصل إلى أكثر من الضعف بالغاً 70 أو 80 عاماً. السبب ليس تطوّر مختبرات الأدوية وأساليب العلاج الحديثة فقط، بل نمط العيش ووسائل النظافة والطرق الغذائية المتطوّرة التي يعتمدها الإنسان اليوم لحماية نفسه”. نصر الدين خوجا (جحا تركيا) يقول في طرفته المعروفة: وأنت على حقّ أيضاً!
لمتابعة الكاتب على X: