في الوقت الضائع بين الانتخابات الأميركية المرتقبة، وبين تسلّم مسعود بزشكيان الرئيس الإيراني المنتخب لمفاتيح الرئاسة والسلطة التنفيذية… حصل تحوّل جوهري في موقف الفريق الإيراني الذي يقود الحوار والتفاوض حول الملفّ النووي مع الإدارة الأميركية والمجتمع الدولي. وهو تحوُّل أعاد الأمور إلى النقطة التي انتهت إليها المفاوضات قبل أكثر من ثلاث سنوات عندما كانت قيادة المفاوضات في يد فريق الرئيس الأسبق حسن روحاني.
عودة رئيس الوفد الإيراني المفاوض ومساعد وزير الخارجية للشؤون السياسية علي باقري كني في الأيام الأخيرة من تولّيه هذه المسؤولية والمهمّة للحديث عن رغبة إيران بإعادة إحياء الاتفاق النووي، تطرح الكثير من الأسئلة على المستويين الداخلي والخارجي، وأسئلة عن حجم التغيير الحاصل في الموقف الإيراني وخلفيّاته وأبعاده.
عودة الحديث عن الاتفاق النووي، والتأكيد أنّ إيران لا تسعى إلى إحداث تغيير في النصّ الموقّع عام 2015، لا يمكن أن يكونا نتيجة قرار من خارج إرادة القيادة العليا للنظام ودوائر الدولة العميقة للسلطة. وبتعبير أدقّ، من غير الممكن لباقري كني أن يعلن هذا الموقف وأن يصف الاتّفاق بأنّه الفرصة التي أسقطت كلّ الذرائع الأميركية والإسرائيلية بمساعي إيران لعسكرة مشروعها النووي، لو لم يكن قد حصل على ضوء أخضر أو أمر مباشر من المرشد الأعلى لإعلان هذا الموقف.
تكشف معلومات خاصة أنّ توافقاً حصل بين مراكز القرار في النظام الإيراني على الانتقال إلى مرحلة جديدة في ما يتعلّق بجميع الملفّات ذات الطابع الدولي والإقليمي، وأنّ قيادة الحرس، وتحديداً قيادة “قوّة القدس” التي تعتبر الذراع الخارجي المنفّذ للسياسات الاستراتيجية الإقليمية والداخلية للنظام، قد أعلنت دعمها وموافقتها على الرؤية السياسية لرئيس الجمهورية المنتخب مسعود بزشكيان المرتبطة بالانفتاح والحوار مع المجتمع الدولي على جميع المستويات النووية وآليّات إلغاء العقوبات الاقتصادية وكيفية التوصّل إلى تسوية للملفّات والأزمات الإقليمية، خاصة تلك المتعلّقة بالساحات التي تشكّل مسرحاً للنفوذ الإيراني الإقليمي وتعتبر الميدان الذي تتحرّك فيه هذه القوّة أو الذراع الإقليمية لإيران.
الاستمرار في سياسات التصعيد والتوتّر قد يقود إلى انفجار واسع وحرب مفتوحة لن يكونا في مصلحة إيران
تسييل إيراني للاستثمارات؟
هذا الضوء الأخضر من “قوة القدس” التي تعمل بآليّات تكاد تكون شبه مستقلّة عن قيادة قوات حرس الثورة، وبالتنسيق المباشر مع المرشد الأعلى للنظام، وبالتعاون مع قيادات الفصائل والقوى المتحالفة معها في الإقليم، قد يشكّل المؤشّر الأكثر جدّية إلى رغبة النظام في طهران بالانتقال إلى مرحلة “تسييل” الاستثمارات التي قام بها في الإقليم، وذلك انطلاقاً من حقيقة أنّ الميدان الإقليمي قد وصل إلى حدّ لم يعد معه قادراً على تقديم أيّ جديد، وأنّ الاستمرار في سياسات التصعيد والتوتّر قد يقود إلى انفجار واسع وحرب مفتوحة لن يكونا في مصلحة إيران، لا بل قد يدخلانها في مسار تقديم الكثير من التنازلات.
المسار الذي فتحته المؤسّسة العسكرية لحرس الثورة، بكلّ قياداتها ووحداتها، أمام الرئيس الجديد للانطلاق بتنفيذ سياساته الخارجية على الصعيدين الإقليمي والدولي، يأتي ليستكمل الحلقات الحوارية والتفاوضية التي سبق أن بدأت بين إيران والولايات المتحدة الأميركية على المستوى الدبلوماسي من خلال مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك مع مندوب إيران الدائم في الأمم المتحدة أمير سعيد إيرواني، وعلى الصعيد الأمنيّ مع إدارة الاستخبارات الأميركية “CIA” في العاصمة العراقية بغداد، وعلى مستوى الحوارات غير المباشرة التي يقودها باقري كني في العاصمة العمانية مسقط.
كيدية رئيسي..
هذه النقلة في الموقف الرسمي الإيراني من التفاوض، التي تعبّر عن سياسة تجتمع عليها دوائر القرار، قد تلتقي مع رغبة لدى الإدارة الأميركية في الأشهر الأخيرة من ولاية الرئيس جو بايدن في البيت الأبيض لأنّ الطرفين يسعيان إلى استغلال الوقت الضائع بين الغموض الذي يكتنف عودة الديمقراطيين إلى الإدارة مرّة ثانية، والتغيير الحاصل في السلطة التنفيذية في إيران ورغبة قيادة النظام بالخروج من الأزمات التي تواجهها إيران، وما يعنيه ذلك من محاولة طهران تثبيت مواقعها وتكريس ما حقّقته من دور ونفوذ في الإقليم ومنطقة غرب آسيا استعداداً لأيّ تغيير في الإدارة الأميركية وعودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض.
تكشف معلومات خاصة أنّ توافقاً حصل بين مراكز القرار في النظام الإيراني على الانتقال إلى مرحلة جديدة في ما يتعلّق بجميع الملفّات ذات الطابع الدولي والإقليمي
بعيداً عن سياسة إحراق الفرص وإهدارها التي تحوّلت إلى سياسة راسخة لدى فريق الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي وفريقه المفاوض، والأثمان والخسائر المالية والاقتصادية والسياسية التي ألحقتها بإيران، وحتى بعلاقاتها الإقليمية والدولية، فإنّ عودة طهران للحديث عن إعادة إحياء الاتفاق وعدم وجود أيّ مشروع بديل أو تعديل على النصّ القديم الذي أُقرّ في تموز عام 2015، تؤكّد أنّ كلّ الجهود التي بذلها هذا الفريق خلال تولّيه هذه المهمّة كانت تعبيراً عن سياسة “كيدية” اعتمدتها إدارة رئيسي والفريق الداعم له. وكان الهدف هو الحفاظ على مكاسب ومصالح ضيّقة على حساب المصلحة العامة والوطنية.
إقرأ أيضاً: بزشكيان بين طموح الانفتاح وقيود النّظام
اللحظات الأخيرة قبل ترامب
سباق اللحظات الأخيرة الذي تخوضه إدارة بايدن مع قيادة النظام الإيراني من أجل التوصّل إلى تفاهم حول الملفّ النووي ومختلف الملفّات الإقليمية الأخرى، قد يكون حاجة إيرانية بقدر ما هو حاجة للديمقراطيين. فهو يساعد في قطع الطريق على دونالد ترامب في حال فوزه بالرئاسة لمنعه من العودة إلى مساعيه القديمة لفرض اتفاق جديد على إيران بشروط جديدة. ويساعد في الوقت نفسه الديمقراطيين على التوصّل إلى تفاهمات على مستوى الشرق الأوسط قد تساعد في تحسين أوضاعهم الانتخابية، خاصة أنّ القبول بإعطاء الرئيس الإيراني مثل هذا الإنجاز يساعد في إعادة التوازن في السياسات الخارجية الإيرانية، خاصة الحدّ من الاندفاعة الإيرانية لتعميق العلاقات الاستراتيجية لطهران مع المعسكر الروسي والصيني.