بزشكيان بين طموح الانفتاح وقيود النّظام

مدة القراءة 7 د

مظاهر الحفاوة بالرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان، وتهافت كلّ المسؤولين والفعّاليات السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية لتقديم التهنئة له، ظاهرة غير مسبوقة في المشهد السياسي الإيراني، ويمكن القول إنّها سابقة في التعامل مع أيّ رئيس فاز في الانتخابات الرئاسية.

 

المشهد الأكثر تعبيراً عن هذه الحفاوة، والرهانات التي يعقدها النظام على الرئيس الجديد، وإلى حدّ ما منسوب القلق أيضاً، هو الدخول غير المسبوق للرئيس جنباً إلى جنب مع المرشد الأعلى إلى قاعة حسينية الإمام الخميني لحضور مجلس العزاء الذي يقيمه المرشد لمناسبة عاشوراء، وهي الحسينية الملحقة بمقرّ إقامة المرشد التي تجري فيها جميع لقاءاته الرسمية والشعبية.

الحفاوة ورهانات المرشد

الحفاوة قد يكون السبب فيها رهانات المرشد تحديداً على الدور الذي يمكن أن يلعبه الرئيس الجديد، الذي وصل إلى الرئاسة بخطاب سياسي واقتصادي واجتماعي واضح، في الحدّ من سرعة المسار التراجعي في الجانبين الاقتصادي والاجتماعي الذي تعاني منه إيران والمجتمع الإيراني. أمّا القلق فيرتبط بالجانب السياسي والعلاقات الخارجية لإيران في المرحلة المقبلة، إذ لم يحدث أن قدّم مرشّح رئاسي خطاباً سياسياً ودبلوماسياً بهذا الوضوح خلال حملته الانتخابية كما فعل بزشكيان، عندما تحدّث عن مشروعه لإعادة ترميم الثقة بين المواطن الإيراني والنظام، وأيضاً على المستوى الثقافي وضرورة اعتماد نمط وآليّات مختلفة، خاصة في ما يتعلّق بمسألة الحجاب الإجباري. إلى جانب العمل على إعادة التوازن للسياسات والعلاقات الخارجية لإيران مع مختلف الدول، وأنّه سيذهب إلى فتح باب الحوار والتفاوض مع جميع الدول والأطراف تحت سقف المصالح الإيرانية الاستراتيجية والقومية بما لا يمسّ استقلال وعزّة إيران ومواقفها العقائدية والاستراتيجية.

الكلام الذي صدر عن المرشد الأعلى، محاولة طمأنة هذه القيادات بأنّ الاتفاق النووي لن يحدث أيّ تغيير جوهري في الاستراتيجية الإيرانية

لا شكّ أنّ لقاءات متكرّرة جرت وستجري خلف الكواليس بين المرشد والرئيس في المرحلة الانتقالية، وحتى الآن تمّ الكشف عن لقاءين بينهما، الأوّل في اليوم التالي لصدور النتائج والثاني قبل يومين قبل انعقاد المجلس العاشورائي. وهذه اللقاءات تحصل قبل أداء الرئيس اليمين الدستورية لبدء ولايته ورئاسته، وهي المرحلة التي تحمل إشارات واضحة إلى توجّهاته من خلال تكليف وزير الخارجية الأسبق محمد جواد ظريف تولّي مسؤولية إدارتها والتخطيط لها، وهو ما يعني ضرورة التوصّل إلى تفاهمات واضحة بين المرشد والرئيس حول الملفّات الأساسية والاستراتيجية والسياسات التي من المفترض أن يعتمدها الرئيس في إدارته السياسية والاقتصادية والدبلوماسية.

قبل هذه اللقاءات، وقبل حسم إجراء المرحلة الثانية للانتخابات، بادر المرشد الأعلى إلى توجيه رسائل سياسية واضحة ومباشرة إلى عدد من حلفاء إيران والنظام الأساسيّين في الإقليم والعالم. وربّما الأبرز في هذا التحرّك كانت الرسالة الشفوية التي نقلها القائم بأعمال رئاسة الجمهورية محمد مخبر إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هامش قمّة شنغهاي الأخيرة، عندما أكّد له نقلاً عن لسان المرشد أنّ أيّ تغيير في الأشخاص الذين يتولّون الدولة في إيران لن يغيّر شيئاً في العلاقات العميقة والواسعة والاستراتيجية التي تربط إيران بالدولة الروسيّة. بالإضافة إلى الموقف الذي سبق أن أعلنه المرشد ويفيد باستمرار إيران بالمسارات التي كانت قائمة في علاقاتها الإقليمية والدولية من دون أيّ تغيير.

بادر المرشد الأعلى إلى توجيه رسائل سياسية واضحة ومباشرة إلى عدد من حلفاء إيران والنظام الأساسيّين في الإقليم والعالم

المرشد والخطوة الاستباقية

محاولة المرشد التوصّل من خلال الحوار والتفاهم المباشر مع الرئيس الجديد حول الخطوط الحمر للسياسات العليا للنظام على المستويين الداخلي والخارجي، وخاصة ما يتعلّق بالحوار المباشر مع الولايات المتحدة بهدف إعادة إحياء الاتفاق النووي وإلغاء العقوبات الاقتصادية، يمكن وصفها بالخطوة الاستباقية التي تسعى إلى عدم الدخول في مواجهة داخلية قد تعيد وضع النظام في دائرة التهديد الجدّي وفي مسار خطير من الأزمات الداخلية والدولية، على العكس ممّا حصل بعد توقيع الاتفاق النووي في عهد الرئيس الأسبق حسن روحاني، الذي اعتبر أنّ مفتاح إنقاذ إيران اقتصادياً وسياسياً يمرّ من بوّابة الاتفاق مع الإدارة الأميركية حول الملفّ النووي وتحويله إلى جسر لبناء علاقات استراتيجية مع الغرب تحدّ من آثار سياسة التوجّه شرقاً التي تتبنّاها دوائر خاصة في منظومة السلطة.

المرشد الأعلى

نتيجة للأحداث التي تلت التوقيع التاريخي على الاتفاق النووي أو خطة العمل الشامل بين إيران ودول مجموعة 5+1 في فيينا في 15/7/2015، ونتيجة تداعياته والحقائق الجديدة التي قد تنتج عنه، سارعت القوى التي بنت قدرتها ونفوذها على أساس الإمساك بمفاتيح العملية الاقتصادية وسياسة الالتفاف على العقوبات، إلى استنفار صفوفها وتحشيدها من أجل الدفاع عن مصالحها وموقعها في معادلة السلطة والاقتصاد داخل منظومة السلطة لمواجهة طموحات روحاني وفريقه.

بعد أسابيع قليلة من التوقيع في فيينا، وقبل أن يدخل الاتفاق حيّز التنفيذ العملي، استقبل المرشد الأعلى للنظام السيد علي خامنئي قيادات قوات حرس الثورة الإسلامية من جميع المستويات، خاصة أعضاء القيادة الاقتصادية التي تعمل تحت  مسمى “مقرّ خاتم الأنبياء للإعمار”، في لقاء لم يشارك فيه أيّ طرف من خارج دائرة هذه المؤسّسة العسكرية.

كان اللافت في هذا اللقاء والكلام الذي صدر عن المرشد الأعلى، محاولة طمأنة هذه القيادات بأنّ الاتفاق النووي لن يحدث أيّ تغيير جوهري في الاستراتيجية الإيرانية السياسية والاقتصادية والتحالفات التي تعمل على إقامتها مع حلفائها، خاصة دول المعسكر الشرقي، وتحديداً روسيا والصين.

 لم يحدث أن قدّم مرشّح رئاسي خطاباً سياسياً ودبلوماسياً بهذا الوضوح خلال حملته الانتخابية كما فعل بزشكيان

القراءة الواقعية

السقف الاستراتيجي الذي رسمه المرشد الأعلى حينها، تحوّلا إلى موقف موازٍ لموقف الحكومة والسلطة التنفيذية بقيادة الرئيس حسن روحاني الذي سعى مع فريقه السياسي والاقتصادي إلى استغلال الفرصة التي أتاحها الاتفاق النووي لتعزيز سياسة الانفتاح السياسي والاقتصادي على الدول الغربية، وإلى إعادة بناء “الثقة” بين إيران وهذه الدول من خلال تعزيز آليّات التشريك والربط الاقتصادي والماليّ والاستثمارات التي بإمكانها تشكيل درع حماية أمام التداعيات السلبية لأيّ انتكاسة في المستقبل.

حينها اعتبر المرشد أنّ الاتفاق يشكّل مرحلة ضرورية لسحب الذرائع من الخصم الأميركي لممارسة المزيد من الحصار والعقوبات، من دون أن يترتّب عليه أيّ تداعيات استراتيجية على صعيد العلاقات الثنائية، وبالتالي قطع الطريق أمام روحاني وفريقه المدافع عن تطبيع العلاقات مع واشنطن وكلّ العواصم الغربية. لكنّه في المقابل عزّز استراتيجية التوجّه شرقاً من خلال السعي إلى إقامة تحالفات استراتيجية مع كلّ من روسيا والصين، باعتبار الوصول مستقبلاً إلى بناء تكتّل سياسي ثلاثي مفتوح على الآخرين في مواجهة الأحادية القطبية التي تمارسها الولايات المتحدة الأميركية، أي التأسيس لتعدّدية قطبية في مواجهة واشنطن وهيمنتها.

إقرأ أيضاً: بزشكيان معمَّم من غير عمامة

ما بين الأمس اليوم، يبدو أنّ النظام بات أقرب إلى تبنّي قراءة واقعية للأحداث السياسية على المستوى الدولي، وأنّ تعميق العلاقات مع المعسكر الشرقي (روسيا والصين) لا يتعارض مع سياسة الانفتاح على الغرب وأوروبا التي وضعها الرئيس الجديد ضمن أولويات برنامجه السياسي، وبالتالي سياسة التوازن بين المعسكرين قد تساعد إيران على توسيع دائرة مصالحها على جميع المستويات، وتدفع بالتقارب والتعاون بينها وبين دول الجوار العربي تحديداً والإقليم عامة بكثير من الثقة المتبادلة إلى مستويات متقدّمة وأكثر ثباتاً.

مواضيع ذات صلة

رفيق الحريري: هل تتحقّق العدالة بتصفية الأداة؟

“المخيف في الأعمال الشرّيرة هو أنّها تُرتكب على أيدي بشر عاديّين” حنة أرندت   ليس المقصود بتفاهة الشرّ بأنّ فعل الشرّ بحدّ ذاته مسألة تافهة….

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…