انقلاب ماكرون: هل يشكّل الحكومة… بعد رئاسة البرلمان؟

مدة القراءة 6 د

دورةً، فاثنتين، فثلاثاً، واقتراعاً، فاثنين، فثلاثة تطلّب انتخاب رئيسة الجمعيّة الوطنيّة في فرنسا. هذا ما كان متوقّعاً في برلمان لا غالبيّة نسبيّة فيه ولا مطلقة كي تحسم التصويت من الدورة الأولى أو الثانية. لقد أظهر انتخاب رئيسة البرلمان أنّ كتلة اليسار، الجبهة الشعبيّة الجديدة، الكبرى “ممنوعة من الصرف” (بحسب تعبير الزميل جان عزيز عن كتلة القوات في البرلمان اللبنانيّ)، وكتلة اليمين المتطرّف ستبقى معزولة. بينما كتلة الوسط هي المستفيد الأكبر من هذا الواقع. ويبدو أنّ الرئيس إيمانويل ماكرون قد فاز في رهانه على هذه الانتخابات.

 

 

كما توقّع “أساس” في مقال سابق، قبِل إيمانويل ماكرون استقالة حكومة غبريال أتال قبل 18 تموز الجاري موعد انعقاد الجمعيّة الوطنيّة لانتخاب رئيس لها. والسبب أنّ أتال والعديد من أعضاء حكومته هم نوّاب منتخَبون. وبحسب الدستور (المادّة 23) لا يمكنهم الجلوس في مقاعد النواب والمشاركة في التصويت إذا كانت وزارتهم قائمة.

كان معروفاً بحسب “البوانتاج” أنّ كتلة الوسط، كما الكتل الأخرى، بحاجة إلى كلّ صوت لأنّها انتخابات “ع المنخار”. وهذا ما حصل فعلاً في الانتخابات التي استلزمت عقد ثلاث دورات متتالية. على الرغم من كلّ شيء تبقى فرنسا دولة مؤسّسات. والدستور “مقدّس”. لا يمكن المسّ به. ولا مجال للاجتهاد فيه بحسب المصالح السياسيّة.

تنافس في الدورة الأولى ستّة مرشّحين. تقدّمهم الشيوعي أندريه شاسينيو مرشّح “الجبهة الشعبيّة” الجديدة الذي نال 200 صوت

دورات ثلاث… “سرقة التصويت”؟

تنافس في الدورة الأولى ستّة مرشّحين. تقدّمهم الشيوعي أندريه شاسينيو مرشّح “الجبهة الشعبيّة” الجديدة الذي نال 200 صوت. وحلّ ثانياً سيباستيان شونو مرشّح “التجمّع الوطنيّ” اليمينيّ (142 صوتاً). كما حلّت في المرتبة الثالثة يائيل براون بيفيه مرشّحة كتلة “معاً” الوسطيّة. ونال مرشّح الحزب الجمهوريّ 48 صوتاً، ومرشّحة حزب “آفاق” 38 صوتاً، ومرشّح كتلة “ليوت” 18 صوتاً.

بنتيجة هذا التصويت أعلن رئيس الجلسة (الأكبر سنّاً) دورة ثانية للتصويت.

في الدورة الثانية انقلب ترتيب المرشّحين رأساً على عقب. انسحب مرشّحا الحزب الجمهوري و”آفاق” وصبّت أصواتهما لمصلحة يائيل براون بيفيه التي حلّت أولى (210 أصوات). وتراجع مرشّح الجبهة الشعبيّة الجديدة إلى المركز الثاني (202 صوت). وحلّ مرشّح اليمين المتطرّف ثالثاً (143). أمّا مرشّح “ليوت” فحصل على 12 صوتاً.

لأنّ أيّاً من المرشّحين لم يحصل على الأغلبيّة المطلقة (289) المطلوبة للفوز، دعا رئيس الجلسة إلى دورة اقتراع ثالثة يفوز فيها من يحصل على الأغلبيّة النسبيّة (بحسب الدستور). فأُعيد انتخاب يائيل براون بيفيه بأكثرية 220 صوتاً. وهو فوز اعتبره أندريه شاسينيو “سرقة للتصويت” لأنّه نِتاج “تحالف ضدّ الطبيعة”. وكتب إيريك سيوتي، رئيس الحزب الجمهوريّ المتحالف مع اليمين المتطرّف، على منصّة “إكس”: “نكمل (بالأشخاص) أنفسهم! إنّه احتقار للناخبين! يستمرّ إيمانويل ماكرون ممسكاً بالسلطة بفضل لوران فوكيه وكزافييه برتران (من الحزب الجمهوريّ)!”.

في الدورة الثانية انقلب ترتيب المرشّحين رأساً على عقب. انسحب مرشّحا الحزب الجمهوري و”آفاق” وصبّت أصواتهما لمصلحة يائيل براون بيفيه

صعوبة إدارة البلاد

ما جرى في انتخاب رئيسة الجمعيّة الوطنيّة مؤشّر إلى ما ستكون عليه الحياة السياسيّة خلال السنة المقبلة وربّما السنوات الثلاث الباقية من ولاية ماكرون إذا لم يُقدم على حلّ البرلمان بعد سنة. ويمكن اختصارها بالتالي:

1- كلّ تصويت في البرلمان تلزمه عدّة دورات وتبدّل في التحالفات واتّفاقات تحت الطاولة وفي الغرف المغلقة. وهو ما يعني صعوبةً في إدارة الحكم في البلاد وتأخيراً في اتّخاذ القرارات وعرقلةً في الإصلاحات.

2- كتلة الجبهة الشعبيّة الجديدة هي الكبرى في البرلمان لكن لا يمكنها الفوز في التصويت. والسبب أنّ أيّ طرف يرفض التعاون معها بسبب انضواء اليسار المتطرّف فيها (فرنسا الأبيّة).

3- كتلة التجمّع الوطنيّ ستبقى معزولة. وربّما ستزيد عزلتها حتى الاستحقاق الرئاسي في 2027.

4- تيّار ماكرون، على الرغم من خسارته الأكثريّة النسبيّة التي كان يحوزها في البرلمان السابق، هو المستفيد الأوّل من الواقع الجديد في البرلمان. فاليمين الجمهوريّ واليسار الجمهوريّ يمكنهما الالتقاء في الوسط ومع الكتلة الوسطيّة درءاً لشلّ المؤسّسات والحياة السياسيّة في البلاد. وهو ما يحرص عليه الفرنسيون المُشبعون بالثقافة الديمقراطيّة. على خلاف السياسيين اللبنانيين الذين أظهر عدم احترامهم للاستحقاقات في السنوات الأخيرة والفراغات الناجمة عنها، وأبرزها في رئاسة الجمهوريّة، أنّهم “مراهقون” في الحياة السياسيّة الديمقراطيّة.

ما جرى في انتخاب رئيسة الجمعيّة الوطنيّة مؤشّر إلى ما ستكون عليه الحياة السياسيّة خلال السنة المقبلة وربّما السنوات الثلاث الباقية من ولاية ماكرون

حكومة وسط ويمين ويسار؟!

لكن ماذا عن الحكومة التي أصبحت حكومة تصريف أعمال بعدما قبل إيمانويل ماكرون استقالتها في 16 الجاري؟

ما حصل في انتخاب رئيس الجمعيّة الوطنيّة ربّما ينسحب على الحكومة ورئيسها. فبحسب الدستور، رئيس الجمهوريّة يختار “الوزير الأوّل” (المادة 8)، ويختار الوزراء بناء على اقتراح هذا الأخير. ولا تحتاج الحكومة الجديدة إلى ثقة البرلمان لتبدأ مهامّها. ويكتفي رئيسها بالمثول أمام الجمعيّة الوطنيّة لعرض سياساتها العامّة. بيد أنّ الحكومة تبقى “مهدّدة” بطرح الثقة بها.

فبحسب المادّة 49 من الدستور يتطلّب طرح الثقة بالحكومة عُشر عدد أعضاء الجمعيّة الوطنيّة (58 نائباً). ويجب التصويت عليها خلال مهلة 48 ساعة، وحصولها على الغالبيّة المطلقة (298). لذلك يسعى ماكرون إلى انفراط عقد الجبهة الشعبيّة الجديدة قبل تشكيل الحكومة لسببين:

1- اتفاق كتلتَي الجبهة الشعبيّة الجديدة (182) والتجمّع الوطنيّ وحلفائه (143) يهدّد بإسقاط الحكومة.

2- رغبته في ضمّ الحزب الاشتراكي إلى الحكومة العتيدة للحصول على الغالبيّة المطلقة لها في الجمعيّة الوطنيّة. خاصّة أنّ تصويت اليمين الجمهوريّ ليائيل براون بيفيه أعطى مؤشّراً إلى إمكانية التعاون معه في الحكومة والبرلمان.

إقرأ أيضاً: خطّة ماكرون لتأليف الحكومة: تقسيم اليسار.. وترميم الوسط

هل ينجح؟

ربّما، لأنّ عدم اتّفاق الحزب الاشتراكي مع “فرنسا الأبيّة” على اسم مرشّح لرئاسة الحكومة بعد مرور أسبوعين على الانتخابات يشير إلى صعوبة استمرار الجبهة الشعبيّة الجديدة.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@Fadi_ahmar

مواضيع ذات صلة

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…

كنّا نخاف منه وصرنا نخاف عليه

قبل عام 1969 كان العالم العربي والإسلامي يتدافع نحو أخذ صورة مع جمال عبدالناصر، ثمّ بعد العام نفسه صار العرب والمسلمون ومعهم عبدالناصر يتدافعون للوقوف…

دعاية “الحزب” الرّديئة: قصور على الرّمال

لا تكفي الحجج التي يسوقها “الحزب” عن الفارق بين جنوب الليطاني وشماله للتخفيف من آثار انتشار سلاحه على لبنان. سيل الحجج المتدفّق عبر تصريحات نوّاب…

معايير أميركا: ملاك في أوكرانيا.. شيطان في غزّة

تدور حرب ساخنة في كلّ من أوروبا (أوكرانيا)، والشرق الأوسط (غزة – لبنان). “بطل” الحرب الأولى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، و”بطل” الحرب الثانية رئيس الوزراء…