خرج إيمانويل ماكرون عن صمته. بعد ثلاثة أيام على إعلان نتائج الانتخابات النيابيّة توجّه إلى “الفرنسيّات والفرنسيّين” برسالة مقتضبة. قيل أنّه نصّها في الطائرة الرئاسيّة التي أقلّته للمشاركة في قمّة حلف شمال الأطلسيّ في واشنطن. رسالة أحبطت أطراف الجبهة الشعبيّة الجديدة الطامحين لتسلّم الحكم، وزادت من حدّة الأزمة السياسيّة في البلاد، ووضعت الجمهوريّة الخامسة أمام سابقة في تاريخها.
ثلاث رسائل في رسالة ماكرون
منذ إعلان قصر الإليزيه أنّ الرئيس سيتوجّه للمشاركة في قمّة حلف شمال الأطلسي، تأكّد الجميع أنّ إيمانويل ماكرون ليس مستعجلاً لتسمية رئيس للحكومة العتيدة. وكانت قد خرجت إشارة في هذا الاتجاه بعدم قبوله استقالة حكومة غبريال أتال الذي طلب منه “البقاء في مركزه”. يوم الأربعاء الفائت وزّع الإليزيه رسالة الرئيس إلى الفرنسيين التي وجّه من خلالها ثلاث رسائل سياسيّة أساسيّة:
1- “إنّ أيّاً من القوى السياسيّة لم تحصل بمفردها على الغالبيّة الكافية. والكتل والتحالفات التي أفرزتها الانتخابات كلّها أقليّات”.
2- “وحدها القوى الجمهوريّة تشكّل الغالبيّة المطلقة” (في الجمعيّة الوطنيّة الجديدة). وبناء عليه يجب على هذه القوى “الالتزام بحوار صادق ومُخلِص لتشكيل غالبيّة صلبة، متعدّدة حتماً، من أجل البلاد”.
3- “في ضوء المبادئ (التي سيقوم عليها تحالف القوى الجمهوريّة) يقرّ تسمية الوزير الأوّل”.
خرج إيمانويل ماكرون عن صمته. بعد ثلاثة أيام على إعلان نتائج الانتخابات النيابيّة توجّه إلى “الفرنسيّات والفرنسيّين” برسالة مقتضبة.
رسالة حدّدت بشكل واضح طريقة تعامل ماكرون مع المرحلة الجديدة التي أفرزتها الانتخابات النيابيّة. لكنّ السؤال: هل ينجح وينقذ ما بقي من عهده؟ أم يُدخل البلاد في أزمة حُكم بعدما أدخلها في “المجهول” بقراره حلّ الجمعيّة الوطنيّة؟
أقلّيّة وأغلبيّة!
النتائج النهائية للانتخابات النيابيّة أظهرت بشكل واضح أنّ أيّاً من الكتل الثلاث الكبرى لم تحصل على الغالبيّة. بالتالي لا يمكن لأيّ منها تشكيل حكومة دون التحالف مع إحدى الكتلتين الأخيرتين. ادّعاء الجبهة الشعبيّة، خاصّة زعيم فرنسا الأبيّة، بأنّها انتصرت ومطالبتها برئاسة الحكومة والحكم ليسا سوى خطاب شعبويّ وذرّ للرماد في العيون. فالجبهة حصلت على كتلة من 182 نائباً. وهي بحاجة إلى 116 نائباً لتنال الغالبيّة المطلقة في الجمعيّة الوطنيّة (298)، لكنّها عاجزة عن تحقيق ذلك لأنّ كلّ الكتل الأخرى ترفض اليسار المتطرّف (فرنسا الأبيّة) كما ترفض اليمين المتطرّف (التجمّع الوطنيّ). فهي لم تخُض معركة منع مارين لوبان من الوصول إلى السلطة ليصل جان لوك ميلانشون إليها.
ولكن هل يمكن اعتبار الكتل الثلاث الكبرى في البرلمان الفرنسيّ الجديد أقليّة كما جاء في رسالة ماكرون؟ الجواب نعم ولا. إنّها تشبه إلى حدّ ما تركيبة المجتمع اللبنانيّ من ثلاث مجموعات طائفيّة كبرى (سنيّة وشيعيّة ومسيحيّة). وكلّ منها ترفض أن توصَف بالأقلّية. وفي الواقع لا يمكن لأيّ مكوّن حكم البلاد دون تعاون ومشاركة المكوّنين الآخرين.
النتائج النهائية للانتخابات النيابيّة أظهرت بشكل واضح أنّ أيّاً من الكتل الثلاث الكبرى لم تحصل على الغالبيّة
القوى الجمهوريّة
أمّا تشكيل أغلبيّة في الجمعيّة الوطنيّة من “القوى الجمهوريّة”، أي قوى الوسط والحزب الجمهوريّ وحلفائه والحزب الاشتراكي، فدونه عقبات.
1- إنّ هذه الغالبيّة إذا ما تشكّلت فسيكون عمودها الفقري الكتلة الرئاسيّة المؤلّفة من 163 نائباً. بينما كتلة اليمين الجمهوريّ تضمّ 66 نائباً وكتلة الحزب الاشتراكي فازت بـ 64 نائباً. وبالتالي من شأن هذه الغالبيّة إعادة تعويم ماكرون. وهذا ما ترفضه كلّ القوى السياسيّة.
2- تخشى قوى اليمين الجمهوريّ واليسار الاشتراكيّ أن يبقى قرار السلطة التنفيذيّة في قصر الإليزيه وأن يهيمن ماكرون على الحكومة التي ستنبثق عن تحالف “القوى الجمهوريّة” الذي يدعو إليه. كما تخشى أن تكون سياسة الحكومة العتيدة استكمالاً لسياسات ماكرون السابقة في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والإصلاح. ربّما يلتقي اليمين الجمهوريّ مع بعض هذه السياسات، بَيد أنّ الحزب الاشتراكيّ لديه سياسات مناقضة أحياناً.
3- إنّ الحزب الاشتراكيّ ركن أساسيّ في الجبهة الشعبيّة الجديدة. وحتى الساعة لم يعطِ إشارة إلى إمكانية الخروج منها. المعسكر الرئاسي، وماكرون شخصياً، يراهن على الخلاف بين الحزب الاشتراكي وحزب فرنسا الأبيّة، ويعمل عليها. فرانسوا بايرو قال علناً في إحدى مقابلاته التلفزيونيّة إنّه يحاور رئيس الحزب أوليفييه فور، والتقى النائب المنتخب فرانسوا هولاند، الرئيس السابق للجمهوريّة وللحزب الاشتراكيّ. ولكن لا اتّفاق حتى الساعة.
4- يبدو الحزب الجمهوريّ، المنفصل عن إيريك سيوتي، أقرب إلى التحالف مع الكتلة الرئاسيّة، لكن على قاعدة أن يحصل على رئاسة الحكومة. تقول معلومات إنّ إدوار فيليب يخوض مفاوضات عن الكتلة الرئاسيّة في هذا الاتّجاه. وقد خرجت أصوات من وجوه اليمين القديمة، مثل رئيس الحكومة السابق جان بيار رافاران، تدعو الجمهوريين إلى أن لا يبقوا على هامش الحياة السياسيّة وأن يدخلوا الحكومة. ولكن في كلّ الأحوال، لا تكفي كتلة الحزب وحدها، كما أسلفنا، لتشكيل أقليّة ولو نسبيّة مع الكتلة الرئاسيّة.
حتى الساعة يبدو أنّ رسالة ماكرون عقّدت الأزمة السياسيّة التي نتجت عن الانتخابات التشريعيّة. وفرنسا مرشّحة أن تدخل أزمة حُكم طويلة
أنا الزّعيم
ربّما الرسالة السياسيّة الأقوى التي أراد ماكرون إيصالها إلى كلّ القوى السياسيّة هي أنّه هو من “يقرّر تسمية الوزير الأوّل” (وهي الترجمة الحرفيّة لمنصب رئيس الوزراء في نظام الجمهوريّة الخامسة). اختيار شخصيّة من الأغلبيّة التي تفرزها الانتخابات النيابيّة يندرج في إطار العُرف والتقليد السياسيَّين، وتفرضه الواقعيّة السياسيّة لأنّه لا يمكن لحكومة أن تحكم دون أغلبيّة في الجمعيّة الوطنيّة. أمّا الدستور فواضح في هذا المجال. بحسب المادّة 8 من الدستور الفرنسيّ “رئيس الجمهوريّة يسمّي الوزير الأوّل”، و”بناء على اقتراح الوزير الأوّل يسمّي (الرئيس) الوزراء الآخرين في الحكومة”. كما تنصّ المادّة 9 على أنّ “رئيس الجمهوريّة يرأس مجلس الوزراء”.
إقرأ أيضاً: فرنسا: الكلمة لأبناء المستعمرات
حتى الساعة يبدو أنّ رسالة ماكرون عقّدت الأزمة السياسيّة التي نتجت عن الانتخابات التشريعيّة. وفرنسا مرشّحة أن تدخل أزمة حُكم طويلة. تقول مصادر إنّ ماكرون سيقبل استقالة حكومة غبريال أتال قبل الثامن عشر من الشهر الجاري موعد انتخاب رئيس الجمعيّة الوطنيّة الجديد. حينها ستصبح حكومة تصريف أعمال. وثمّة شعور لدى الفرنسيين بأنّ فترة تصريف الأعمال ربّما تطول سنة. وهي المدّة التي حدّدها الدستور ليتمكّن رئيس الجمهوريّة من حلّ الجمعيّة الوطنيّة من جديد (المادة 12 من الدستور). فهل يفعلها ماكرون؟
لمتابعة الكاتب على X: