نتجت عن الانتخابات البرلمانية الفرنسية ثلاث كتل نيابية متقاربة في الحجم، متباعدة في الأفكار والطروحات، ليست لأيّ منها قدرة على تشكيل أغلبية تخوّلها الحكم، وهو ما يضع مستقبل الحكم في فرنسا على المحكّ.
العنوان الأشدّ صواباً للانتخابات التشريعية الفرنسية التي أجريت دورتها الثانية يوم الأحد الماضي، في السابع من تموز 2024، لن يكون غير: انقلب السحر على الساحر.
الانتخابات الأخيرة تفيد أوّلاً وأخيراً بأنّ فرنسا، الدولة الاستعمارية، صار يتحكّم في نتائج انتخاباتها أبناء المستعمرات الفرنسية سابقاً، الذين هربوا إليها نتيجة ما آلت إليه الأوضاع في بلدانهم بسبب سياسات المستعمِر السابق فيها، من نهب ثرواتها مروراً بتمكين فاسدين من حكمها وانتهاءً بسياسة “فرّق تسُد” والعزف على الأوتار الإثنية والعرقية وحنى المذهبية، التي لا تزال نتائجها تتوالى تباعاً حتى يومنا هذا من أدنى الشرق إلى مجاهل إفريقيا.
أكثر من ذلك، أظهرت نتائج الانتخابات الأخيرة تلك وصول أمراض المستعمرات السابقة إلى جسد الدولة المستعمِرة الأمّ. طابخ السّم آكله، يقول العرب، وقد انطبق قولهم هذا على “الفرنجة”، وهم هنا الفرنسيون.
مثالثة
بُعيد كلّ انتخابات في شتّى دول العالم، تشريعيةً كانت أو رئاسيةً أو غير ذلك، السؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن هو: من المنتصر؟ أمّا السؤال الثاني فهو: ما الخطوة التالية؟
الإجابة عن السؤال الأخير لا تكون إلا بعد الإجابة عن السؤال الأوّل. فمن الذي انتصر في الانتخابات الفرنسية الأخيرة؟
قراءة معمّقة في نتائج الانتخابات تفيد بأنّ أحداً لم يُهزم. الكلّ انتصر، ويبدو أنّ فرنسا وحدها من خسرت. ففي الانتخابات الأخيرة فاز اليمين واليسار والكامخ بينهما، أي الوسط المناصر للرئيس أو الأقرب إليه. الأرقام لا التحليلات تقول ذلك:
أراد الرئيس الفرنسي من حلّ البرلمان توضيح الأمور، عبر انتخابات مبكرة، فكانت النتيجة ضبابيةً، و”ضاعت الطاسة”
– أوّلاً، فاز تحالف “الجبهة الشعبية الجديدة” المكوّن من أحزاب شيوعية ويسارية وبيئية، في طليعتها حزب “فرنسا الأبيّة” بزعامة جان ماري ميلونشون، بـ178 مقعداً، محرزاً تقدّماً يعكس انتشاره بين أبناء المستعمرات السابقة، اللاجئين في فرنسا والمهاجرين إليها هاربين من نتائج سياساتها الاستعمارية السابقة في بلدانهم.
– ثانياً، صحيح أنّ حزب “التجمّع الوطني” اليميني المتطرّف لم يكتسح الانتخابات، ولم يحصل على الأغلبية التي تخوّله الحكم، لكنّه ضاعف عدد مقاعده في البرلمان. كان في حوزته 88 مقعداً في الجمعية الوطنية السابقة، فصار لديه 142 مقعداً في البرلمان الحالي. مارين لوبان زعيمة التجمّع قالت إنّ ما جرى تأجيل للفوز أو تأخير له، وليس أبداً هزيمةً.
– ثالثاً، نال تكتّل “معاً”، المؤيّد للرئيس إيمانويل ماكرون، 168 مقعداً، على عكس استطلاعات الرأي التي تحدّثت عن أسوأ من هذه النتيجة بكثير. هذه النتيجة غير متوقّعة بعد ولايتين رئاسيّتين، ولا يحلم بها إلا قلّة من الرؤساء في ولايتهم الثانية.
أراد الرئيس الفرنسي من حلّ البرلمان توضيح الأمور، عبر انتخابات مبكرة، فكانت النتيجة ضبابيةً، و”ضاعت الطاسة”. اتّسعت الهوّة بين اليسار واليمين، وصار صعباً على الوسطيّين ردمها. اليمينيون المتطرّفون ازدادوا عدداً وتطرّفاً، واليسار ارتمى في أحضان المهاجرين وأبنائهم وأحفادهم، وما عاد بإمكان الوسط إمساك العصا من وسطها. لكنّ أيّاً منهم لا يستطيع الحكم. حالهم جميعاً من حال من نال حكماً قضائياً لمصلحته لكن مع وقف التنفيذ!
قراءة معمّقة في نتائج الانتخابات تفيد بأنّ أحداً لم يُهزم. الكلّ انتصر، ويبدو أنّ فرنسا وحدها من خسرت
لبننة فرنسا؟
بناءً على ما سبق، يبدو البرلمان الفرنسي مقسوماً بين ثلاثة أطراف لا يجمع بينها جامع، ولا يستطيع أيّ منها تشكيل حكومة بمفرده. قضت العادة أو العرف بتكليف الرئيس الكتلة الكبرى في البرلمان تشكيل الحكومة، على الرغم من أنّ الدستور يجيز له اختيار رئيس حكومة دون العودة إليها، لكنّ الرئيس ليس قادراً على تكليف أيّ من اليساريين لرئاسة الحكومة، فبرنامجهم عمليّاً يتناقض مع سياساته، وقد أعلنوا شروطهم قبل صدور النتائج، ولا هو قادراً على تكليف شخص من تكتّله السياسي أو مناصريه ومؤيّديه، فالبرلمان لم يعد ملك يمينه وصار أشبه بحقل ألغام، ولا اليمينيون قادرين بعنصريّتهم وسياساتهم على التقارب مع أيّ من الأطراف الأخرى التي تشكّل مجتمعة الغالبية الغالبة في البرلمان الفرنسي.
مشهد يمكن الجزم بـ”لبنانيّته” دون جدال. وعليه، العدوى اللبنانية وصلت أخيراً إلى فرنسا، وبدلاً من “فرنسة” لبنان والمستعمرات الفرنسية السابقة، تمّت “لبننة” فرنسا، أو هي على وشك أن تتمّ.
مستعمَرون يحكمون مستعمِرين
تفيد نتائج الانتخابات البرلمانية الفرنسية أيضاً بأنّ أبناء المستعمرات الفرنسية سابقاً يرسمون المشهد السياسي الفرنسي:
– تقدّم اليسار ما كان ليتمّ لولا خطابه الذي يلقى صدى واسعاً وتأييداً في أوساطهم، خاصةً الشبابية، إذ يناهض العنصرية والتمييز في حقّهم، ويرفض الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزّة ويدعم حقوق الفلسطينيين.
الانتخابات الأخيرة تفيد أوّلاً وأخيراً بأنّ فرنسا، الدولة الاستعمارية، صار يتحكّم في نتائج انتخاباتها أبناء المستعمرات الفرنسية سابقاً
– تقدّم اليمين أيضاً ما كان ليكون بهذا الحجم لولا الحيّزان الجغرافي والديمغرافي اللذان يشغلهما هؤلاء في طول فرنسا وعرضها، خاصةً في ضواحي باريس.
– تراجع التكتّل المؤيّد للرئيس ماكرون ما كان ليكون لولا سياسات الأخير تجاه هؤلاء وتجاه بلدانهم وقضاياهم، خاصةً القضية الفلسطينية.
إقرأ أيضاً: رياح الانتخابات الفرنسيّة لن تلفح لبنان
عام 1789، اجتمع السياسيون الفرنسيون مشكّلين جمعيةً وطنيةً لحسم وضع الملك وصلاحيّاته، في قاعة في حديقة “تويليري” في باريس، فوقف داعمو الملك ومؤيّدو أن تكون له صلاحيّات واسعة على يمين المنبر، بينما وقف المطالبون بتقليص صلاحياته على يسار المنبر. ثمّ صوّتوا ليحسموا الأمر، فكانت النتيجة لمصلحة اليسار بـ673 صوتاً مقابل 325 صوتاً لليمين. من يومها بدأت تتشكّل فرنسا الحديثة. اليوم ينقسم الفرنسيون مجدّداً، وتميل الدفّة لليسار لكن بفارق ضئيل، فأيّ فرنسا ستكون بعد اليوم؟
لمتابعة الماتب على X: