فرنسا: دجل اليسار واليمين وبعض “الممانعين”!

مدة القراءة 7 د

وقف المسؤول السوري مشدوهاً.

كانت الحرب على سوريا في بدايات عسْكرتها المتوحّشة من كلّ الأطراف، بعد عام ونيّف من اندلاع ثورتها الموءودة. وكان خطاب النظام وحلفائه أنّها شبه حرب كونية على “قلب العروبة وقلعة الصمود”. يقودها الغرب وأوروبا. وفي مقدَّمهما فرنسا آنذاك.

في المقابل كان المسؤول نفسه يقف مذهولاً أمام ما يراه في بهو الفندق الدمشقيّ الكبير: رهطٌ كبير من الناس محمّلون بكاميرات وميكروفونات وحقائب يرطنون بالفرنسية والإيطالية والفلمنكية وسواها من لغات القارّة العجوز.

لم يفهم ما يحصل. هل سقطت دمشق مجدّداً بأيدي المستعمِر ليلة أمس وهو نائم؟ أم انقلب الغرب على نفسه بغتةً، وقرّر دعمَ بشّار ذات فجرٍ من صيف 2012؟

حتى أطلّت إحدى السيّدات بلباسٍ ديني. يعرفُها جيّداً. ويعرفُ قربها اللصيق من النظام ومن القصر تحديداً. فظهرت له الحقيقة سريعاً:

إنّهم وفد من أحزاب أوروبا اليمينية. جاؤوا من كلّ عواصم غرب المتوسط، في “رحلة حكومية” غير معلنة، وبتنظيم دقيقٍ مباشر وناجح من المستشارة الراحلة لونا الشبل، لزيارة مواقع الحرب في سوريا، وخصوصاً أماكن وجود المسيحيين فيها، والعودة إلى بلادهم للترويج لإنجازات النظام في الدفاع عن المسيحيين وعن التعدّدية وعن الحداثة، تماماً كما تراها أحزاب أوروبا اليمينيّة.

*******************

هي واقعةٌ سوريّة تستعيدُها تطوّراتُ باريس الراهنة. إذ غداً الخميس تلتئم الجمعية الوطنية (البرلمان) الجديدة، المنبثقة من انتخابات تشريعية كانت الأكثر سجالاً ومفارقاتٍ ربّما في تاريخ فرنسا المعاصر.

منذ البداية اتُّهم اليمين الأوروبي والفرنسي خصوصاً بأنّه حصان طروادة لقيصر موسكو الجديد لضرب فرنسا وأوروبا والغرب

هي انتخاباتٌ أطرفُ ما فيها أنّ بعض “الممانعين” اعتبر نتائجها هزيمة لإسرائيل في بلاد نابوليون، وانتصاراً مبيناً لمحور “مقاومة الاستعمار والإمبريالية”.

فيما الصورةُ على ضفاف نهر السين مختلفة بعض الشيء، لا بل مناقضة. ذلك أنّه منذ انطلاق سباق الانتخابات الأوروبية، التي سبقت انتخابات فرنسا وسبّبتها، لم يتأخّر الإعلام “الصهيوني”، بحسب تصنيفات “الممانعة” نفسها، في شنّ حرب شعواء ضدّ اليمين الأوروبي، وتحديداً الفرنسي منه.

وقد تركّزت تلك الحملة على عدّة محاور، أبرزها التالي:

1- “عملاء بوتين”!

منذ البداية اتُّهم اليمين الأوروبي والفرنسي خصوصاً بأنّه حصان طروادة لقيصر موسكو الجديد لضرب فرنسا وأوروبا والغرب.

بدأت واشنطن بوست (صحيفة ممانعة؟!) الحملةَ باكراً في 30 كانون الأول 2023، مستخدمة كلّ أسلحتها الثقيلة، فأعلنت التالي:

– مارين لوبن ورَجلُها جوردان بارديلا ليسا غير بيدقين في استراتيجية بوتين لزعزعة أوروبا.

راح هذا الإعلام “الممانع” ينبشُ الوقائع والأخبار والجملَ المفكّكة والكلمات المتقاطعة، ثمّ يربطها لينسج منها روايات وأحكاماً مبرمة

أمّا وسائل مؤامرتهما فشاملة: إعلامٌ ومالٌ وتقنيّاتُ سوشيل ميديا. وحتى تجسّسٌ وأَمنيات… كلّ ذلك بحسب صحيفة واشنطن بوست، المفترض أنّها غير ممانعة، ومعادية أبداً للخطاب الصهيوني.

ثمّ كرّت السبحة على النوتة الأميركية نفسها: مئات المقالات والتحقيقات “المهنيّة”، وترندات المؤثّرين وصولاً حتى الفنّانين والرياضيين. و”التعليمة” واحدة:

– اليمين هو حصان طروادة للسوفيات الجدد لضرب الغرب وقيم الغرب وحضارة الغرب.

ولم يتركوا ستراً مغطىً. أعادوا نبش القرض المعطى لحزب لوبن من مصرف روسي – تشيكي، بعد 6 أشهر من ضمّ بوتين لشبه جزيرة القرم بالقوّة، مع ربطه من قبل “الإعلام الحرّ” بمواقف لوبن المعتدلة حيال خطوة موسكو العدوانية تلك. طبعاً لم تذكر الحملة أنّ القرض المذكور سُدّد كاملاً مع فوائده في أيلول 2023!

القرضُ نفسه فاوضَ على إبرامه أحدُ نواب لوبن، جان لوك شافهاوسر. وهو على علاقة مشبوهة مع “ممثّل الكرملين” في فرنسا. حتى إنّه أجّر منزله في ستراسبورغ للرقم 2 في السفارة الروسية في فرنسا، إيليا سوبوتين.

لم تتوقّف حملة الأبلسة البوتينيّة عند الفرنسيين. بل شملت اليمين الإيطالي طبعاً والهولندي وكلَّ يمين أوروبي

يمين إيطاليا وهولندا وكلّ أوروبا

بعضُ “الإعلام الحرّ” نفسه ذهب أبعد في الحملة على حزب لوبن. قبل أيام فقط من موعد الانتخابات الأوروبية، قال إنّ القرض المصرفي السابق ذكره كان دفعة مالية بقيمة 255 ألف يورو، مقابل مواقف سياسية من اليمين الفرنسي لمصلحة بوتين، وإنّ هذا المبلغ هو حلقة في سلسلة من مئات آلافٍ أخرى حُوّلت عبر شافهاوسر نفسِه.

بدل إظهار الوثائق، رفعوا صورة كافيةً كقرينة على الجرم المشهود: بارديلا شخصياً تقبّله شابّة اسمها تامارا فولوخوفا. جريمتها المبرمة أنّها مزدوجة الجنسية!!

لم تتوقّف حملة الأبلسة البوتينيّة عند الفرنسيين. بل شملت اليمين الإيطالي طبعاً والهولندي وكلَّ يمين أوروبي: إنّهم عملاء بوتين. هكذا حكم “الإعلام الحرّ” هناك. حتى دبّجت صحيفة فرنسية كبرى مانشيتاً بطول إسرائيليّتها التاريخية تقول فيه: “بوتين عرّاب اليمين الأوروبيّ المتطرّف”!

تكرّ جرائم لوبن التي تؤكّد “صهيونيّتها”: جرؤت على التأكيد علناً أنّ بشار الأسد يشكّل “سدّاً بمواجهة العنف المتطرّف”!

2- حلفاء بشّار الأسد:

وفق المحاكمة “البوتينيّة” نفسها، وقبل أسابيع من الانتخابات الأوروبية ثمّ الفرنسية، خرج “الإعلام الحرّ” في فرنسا وأوروبا، بحملة عنوانها: اليمين الأوروبي حليفُ الديكتاتوريين العرب. ومارين لوبن شخصياً حليفة بشار الأسد الأولى في باريس.

راح هذا الإعلام “الممانع” ينبشُ الوقائع والأخبار والجملَ المفكّكة والكلمات المتقاطعة، ثمّ يربطها لينسج منها روايات وأحكاماً مبرمة، نذكر منها الآتي:

– سنة 2013، ندّدت لوبن بالتدخّل الأجنبي (إقرأ فرنسي وأوروبي!) ضدّ بشّار في سوريا. هي جريمة أولى لم تسمع بها “الممانعة” عندنا!

– 2014، لوبن تدلي بمقابلة مع محطة تلفزيونية قريبة من الأسد، والطامة الكبرى أنّها تتّهم خلالها بعض الدول الأوروبية والعربية بزعزعة الأوضاع في سوريا! وهي جريمة أخرى، نسي تسجيلها “ممانعونا”!

– سنة 2022، في برنامجها الانتخابي، ذكرت لوبن أنّ سوريا دولة صديقة! جريمة ثالثة.

أكثر من ذلك، في البرنامج نفسه، دعت إلى إعادة العلاقات مع دمشق. جريمة رابعة كشفها ونسيها “الممانعون”!

تكرّ جرائم لوبن التي تؤكّد “صهيونيّتها”: جرؤت على التأكيد علناً أنّ بشار الأسد يشكّل “سدّاً بمواجهة العنف المتطرّف”!

أعلنت جهراً أنّ الأسد هو الحلّ الوحيد القابل للحياة في سوريا، للحؤول دون قيام “دولة إسلامية” هناك”!

سنة 2013، ندّدت لوبن بالتدخّل الأجنبي ضدّ بشّار في سوريا. هي جريمة أولى لم تسمع بها “الممانعة” عندنا

3- الذهاب مباشرة إلى الهدف:

قلّة من الإعلام “الحرّ” هناك ذهبوا مباشرة بلا التواءات وتمويهات وتضليلات إلى الهدف الأوّل، فنبش هؤلاء ما سمّوه “ماضي لوبن الأب، المعادي للسامية”. فبدا أنّ المطلوب هو الاستمرار في محاكمة الأب، عبر ابنته، وربّما حفيدته ماريون أيضاً، وحزبَيهما، عن سقطته التاريخية ذات يوم حول أفران الغاز والهولوكوست.

بدا كلّ هذا لدى بعض “الممانعين” عندنا هزيمة لإسرائيل في باريس، وانتصاراً ربّما لمحور “الملالي – الإخوان”، في عقر دار فولتير الولائيّ المستجدّ!

تبقى ثلاث مفارقات حيال هذه البهلوانية السياسية الانتخابية والإعلامية:

– أوّلاً، إنّ اليسار عامّة هو الأبعد عن التيارات الدينية، لا اليمين.

– ثانياً، إنّ اليسار الفرنسي فعليّاً لم يحصل على أكثرية نيابية، وخصوصاً شعبية.

– ثالثاً، إنّ للزعيم الفرنسي اليساري الصاعد، جان لوك مولونشون، صديقاً واحداً جدّياً في بيروت، هو شربل نحّاس الذي كفّرته “الممانعة” ذات مساء من دردشات 17 تشرين. وهُدرَ دمُه… حتى إشعار آخر.

إقرأ أيضاً: “الدّولة” تتصدّع: من أميركا وفرنسا.. إلى شرقنا الأوسط

لمتابعة الكاتب على X:

@JeanAziz1

مواضيع ذات صلة

مشروع إيران التّوسّعيّ: ما بُنيَ على متغيِّر.. سيتغيَّر

لا خلاف في أنّ لدى إيران مشروعها التوسّعي في المنطقة. وكلمة “توسّعي” ليست استنتاجاً، إنّما حقيقةٌ تعكسها التصريحات الغزيرة والصادرة عن الكثير من القيادات الإيرانية…

جنبلاط يقبض على اللّحظة الإقليميّة

كان الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في طليعة من قاربوا بالتعليقات الرمزية وبالمواقف، وبالخطوات العملية، مفاعيل الزلزال السوري على لبنان.   يتميّز جنبلاط…

سليمان فرنجيّة: رئاسة الحظّ العاثر

ـ عام 2004 سأل بشار الأسد سليمان فرنجية: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”. ـ مرّتين…

الشّرع وسوريا: الرّسم بالكلمات

لم نسمع من أحمد الشرع أو أيّ وزير من الحكومة المؤقّتة في سوريا أيّ رفع لشعار “الإسلام هو الحلّ” الذي درجت جماعة الإخوان المسلمين على…