عنوان الغلاف في عدد مجلة “الإيكونومست” الأخير: “لا طريقة لإدارة الدولة”. وهمُّ كُتّاب العدد “إدارة الدولة الأميركية”. لكنّهم يُعنَون أيضاً بإدارة الدولة الفرنسية، ويُعنَون بإدارات الدول في أوروبا شرقاً وغرباً بعد صعود اليمين إلى الحكومات. ومع أنّ المشكلات في إدارات الدول داخلية، لكنّهم يتطلّعون بقلق إلى روسيا وبوتين والمستقبل القريب. وهي إشكالية على مستوى العالم وليست مرتبطة بأميركا وفرنسا وأوروبا وروسيا فقط.
قضية أميركا وموضع “إدارة الدولة”، وهي داخلية أيضاً، مختلفة بعض الشيء. فطوال السنوات الماضية كان لدى الأميركيين وبعض الأوروبيين انشغالٌ واحدٌ أعطوه عنوان: “ما بعد عالم أميركا”. (أو “عالم ما بعد أميركا”).
كان القرن العشرون في نظرهم قرناً أميركياً. لكنّ العالم يتفلّت من أيدي أميركا في الاقتصاد وفي العلاقات الدولية. هناك في الاقتصاد التحدّي الصيني الكبير الذي تحاول أميركا مواجهته بإجراءات تتعلّق بعقوبات في الاستيراد والتصدير وفي التقدّم التقني والعلمي.
ما بعد عالم أميركا، وإن لم يتبلور، يشكّل صعوبات سياسية واستراتيجية. وصارت تُسمَّى “أزمة العلاقات الدولية”
وإذا عدنا إلى عنوان العدد الماضي من “الإيكونومست” سنجد أنّه: “صعود العلم الصيني”.
تحاول الولايات المتحدة منذ عقدين اجتذاب الهند إليها استناداً إلى علاقاتها المعقّدة مع الصين. لكنّ رئيس وزراء الهند قام أخيراً بزيارة رسمية لروسيا بوتين. وجاء ذلك بعد اجتماع دول البريكس في بطرسبورغ. (دول البريكس باتت تضمّ مصر وإيران والإمارات العربية المتحدة والسعودية وإثيوبيا، بالإضافة إلى روسيا والبرازيل والهند والصين وجنوب إفريقيا).
روسيا تحتضن 30 في المئة من ثروات الكرة الأرضية من الموادّ الأوّلية. وكلتا الصين والهند محتاجتان إلى تلك الثروات لمتابعة التقدّم المتسارع. وكما تتحسّن علاقات الهند مع روسيا فيمكن أن تتحسّن مع الصين. وكلّ ذلك يثير قلقاً أميركياً عميقاً. الهنديّ عرض على الروسيّ التوسّط في حرب أوكرانيا (!)، والروسيّ شكا من عدوان الحلف الأطلسي عليه.
لدى الولايات المتحدة إذن همُّ الصعود الاقتصادي للصين وانتشار منتجاتها الرخيصة، التي صارت متقنةً، في سائر أنحاء العالم، وبخاصّةٍ في شرق آسيا وغربها وفي إفريقيا وأميركا اللاتينية. لكنّ علاقات الصين والهند بالاقتصاد الأميركي كثيفة أيضاً. فلدى الدولتين/ القارّتين استثمارات هائلة بأميركا، ولأميركا لديهم أو لديهما استثمارات مماثلة. ولهذا الانفصال عن الولايات المتحدة يظلّ صعباً جدّاً حتى على الصين التي تلاحقها أميركا بالعقوبات.
تحاول الولايات المتحدة منذ عقدين اجتذاب الهند إليها استناداً إلى علاقاتها المعقّدة مع الصين
عالم ما بعد أميركا
بيد أنّ ما بعد عالم أميركا، وإن لم يتبلور، يشكّل صعوبات سياسية واستراتيجية. وصارت تُسمَّى “أزمة العلاقات الدولية”.
ما استسلمت الولايات المتحدة لانحسار النفوذ، وتجاوزت قدرات قوّتها الناعمة فراحت تشنّ حروباً على المتمرّدين ونشرت أساطيلها وقواعدها في سائر أنحاء العالم. وإذا كان العالم لا ينسى الحربين الأميركيّتين على أفغانستان والعراق، فإنّ الولايات المتحدة تنشر أذرُعها العسكرية، علاوة على البحار والمحيطات، في اثنتين وعشرين دولة وتحت عناوين مختلفة مثل مكافحة الإرهاب. ومن مكافحة الإرهاب محاربتها للحوثيين في البحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الهندي.
إنّ المشكلة هنا، على الرغم من التفوّق العسكري الأميركي الساحق، أنّ أحداً لا يريد الخضوع. والأميركيون عاجزون عن “الانتصار” في كلّ الجبهات على الرغم من الجهود الكبيرة. وفي البداية والنهاية لا تعرف أميركا ماذا تفعل لكبح روسيا أو للتحكّم في مسارات أزمات الشرق الأوسط، ومنها الحرب في غزة وفي جنوب لبنان. كلّ يوم تحاول أميركا وقف الحرب الإباديّة، لكنّ الإسرائيليين لا يريدون وقف الحرب. إنّها ثلاث جبهات على الأقلّ حيث تشعر الولايات المتحدة أنّها تخوض صراعاتٍ لا نهاية لها: مع روسيا في أوكرانيا ومع الصين في تايوان وفي الشرق الأوسط. وهكذا ليست علاقات أميركا الدولية بخير ولا تعكس قوّتها الاستراتيجية الهائلة في كلّ النواحي.
إذا أهمل ترامب أوكرانيا والأطلسي أو قوّى إسرائيل ستحدث انهياراتٌ كبرى، سواء في أوروبا أو في الشرق الأوسط
أزمة الحكم في أميركا
لقد أضيفت إلى مشكلات أميركا أخيراً مشكلة جديدة داخلية. فالرئاسة الأميركية وانتخاباتها في تشرين الثاني المقبل يخوضها عجوزان أحدهما يوشك أن يسيطر عليه الخَرَف، والآخر متفلّتٌ من كلّ معقوليةٍ أو قيد عقلاني أو سياسي. فالداخل الأميركي ليس بخير، بدليل انعدام البدائل لدى الحزبين الديمقراطي والجمهوري. فهل هو صَدَأ الحديد أو التعبُ بحيث ما عاد النظام الأميركي، الحيّ والمرن عادةً، قادراً على الحراك وإنتاج الجديد السياسي والاستراتيجي بل والقانوني. والدولة الأميركية مشهورة بأنّها دولة حكم القانون؟!
المحكمة العليا أصدرت بالأغلبية قراراً يقول إنّ من حقّ الرئيس (وهو ترامب في هذه الحالة)، أثناء ممارسته لسلطته، أن يخالف القانون ولا تجوز محاسبته (!). وقيل إنّ هذا التوجّه الغريب سببه أنّ أغلبيّةً محافظةً بين قضاة المحكمة ممّن عيّنهم الرئيس ترامب تنتصر له وتحاول منع محاكمته لصون “الريزون ديتا”، وهو المصطلح الغامض الذي ابتدعه الفرنسيون لكنّهم عاجزون عن إحقاقه، ويعني “هيبة الدولة” أو شرفها أو حرمتها.
إنّ المسألة تقع في ما وراء القانون. تكمن في عدم قدرة النظام حالياً على التجدّد. كان توكفيل السياسي الفرنسي صاحب كتاب: “الديمقراطية في أميركا” (1843) قد زعم أنّ النظام الفدرالي الأميركي قادر على مواجهة كلّ المشكلات وحلّها! لكن ها هو الآن يعجز عن إيصال مرشّح ذي كفاية إلى حلبة المنافسة. والسبب ليس عراقيل النظام الاتحادي، بل إفلاس الحزبين السياسيَّين الرئيسيَّين وعجزهما عن الإنتاج. هناك انقسام رأسيّ في المؤسّسات يعكس انقساماً عميقاً في المجتمع ولا يكادان يتّفقان على شيء.
حظوظ ترامب تتقدّم بعد محاولة اغتياله. فكيف سيتصرّف الرئيس المقبل في المشكلات الداخلية والعلاقات الدولية التي تواجه فيها أميركا استعصاءات في شتّى النواحي
ترامب الذي سيفاقم الأزمة
هذه هي مشكلة النظام الأميركي. وحظوظ ترامب تتقدّم بعد محاولة اغتياله. فكيف سيتصرّف الرئيس المقبل في المشكلات الداخلية والعلاقات الدولية التي تواجه فيها أميركا استعصاءات في شتّى النواحي.
الأمر نفسه يحدث في فرنسا. فالانقسام مستحكم بين أقصى اليمين وأقصى اليسار بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة. ولا يُعرف كيف يمكن تشكيل حكومة وسط الانقسام المستعصي! بيد أنّ هذا الشلل يوشك أن ينعكس أيضاً على الاتحاد الأوروبي لأنّ ألمانيا وفرنسا هما القوّتان الرئيسيّتان فيه، والتحدّي العسكري الروسي يخيّم على القارّة العجوز، وقد صار اتخاذ القرارات صعباً إن لم يكن مستحيلاً.
إقرأ أيضاً: الاغتيالات الرّئاسيّة الأميركيّة.. نجاة 6 ووفاة 4
إذا أهمل ترامب أوكرانيا والأطلسي أو قوّى إسرائيل ستحدث انهياراتٌ كبرى، سواء في أوروبا أو في الشرق الأوسط. ولا أحد يعلم كيف ستتصرّف الصين إذا تعاظم تفوّقها وسط التصدّع الغربي الأميركي/الأوروبي.
سيقول الذين يقرأون هذا المقال: وماذا يعنينا ذلك وكأنّ أمورنا أفضل.
هي ليست أفضل. لكنّ الغرب المتصدّع داخلٌ في كلّ المشكلات وسيطاً أو مقدّماً للمساعدات أو منحازاً لطرف. وليس في فلسطين فقط، بل وفي سورية (جنود أميركيون) والعراق (وجود عسكري) والسودان (وساطة مع السعوديين) وليبيا (وساطة). فنحن العرب أسرى مشكلات كبيرة، لكن كيف سيتصرّف الإسرائيليون والإيرانيون والأتراك إذا توقّف الغرب عن التأثير بسبب انعكافه على مشكلاته الخاصة؟
لمتابعة الكاتب على X: