تلك اللحظات في مهرجان بنسلفانيا الانتخابيّ كانت أشبه بسيناريو هوليووديّ: دونالد ترامب يخطب بحماسة. وإذ بطلقات رصاص تُسمَع. يضع يده على أذنه وينبطح أرضاً. الحاضرون أيضاً. بعضهم على المقاعد وآخرون تحتها. يهرع عناصر الحرس، رجالاً ونساءً، نحو المنصّة وأيديهم على مسدّساتهم. يغطّون الشخصيّة لحمايتها من رصاصة أخرى. ما هي إلا ثوانٍ حتى يقف ترامب محاطاً بالحرس. يرفع قبضته ويقول: “fight, fight“. إنّه “البطل”. لا يموت.
مشهد أحدث زلزالاً سياسياً في أميركا وانتشر في كلّ العالم بسرعة الصوت والصورة. فنحن في عصر العولمة الرقميّة. ما زاد من سرعة انتشاره أنّه حدث في أميركا. أميركا التي يريد ترامب أن يجعلها عظيمة من جديد.
هل يحسم هذا المشهد السباق الانتخابيّ الأميركيّ لمصلحة ترامب – الضحيّة، خاصّة في ظلّ ارتباك حملة منافسه الديمقراطيّ؟
الشابّ الذي حاول اغتيال دونالد ترامب قُتل على الفور برصاص قنّاص من عناصر الخدمة السريّة المولجة بالحماية. هل مات معه سرّه وقُطع الطريق على اكتشاف دوافعه أو من دفعه وربّما دفع له؟
أشارت نتائج التحقيقات الأوّليّة إلى أن لا شركاء لتوماس ماثيو كروكس الذي أطلق الرصاص على ترامب. إلا أنّ التحقيقات ستُتابَع وستستغرق أسابيع وأشهراً بحسب مكتب التحقيقات الفدرالي الـ”إف.بي.آي”.
الجمهوريون يتشكّكون في التحقيقات. فهم يعتبرون جهاز الـ”إف.بي.آي” جزءاً من “الدولة العميقة” التي تخوض المعركة الرئاسيّة ضدّ ترامب. لذلك، وبحسب مصادر في الحزب الجمهوريّ، سيطالب الجمهوريون بلجان تحقيق في الكونغرس. وإذا ما استُجيب طلبهم فستكون هناك لجنتا تحقيق، واحدة في مجلس الشيوخ وأخرى في مجلس النواب للتحقيق في تقصير الأجهزة الأمنيّة وكشف الدوافع وراء محاولة الاغتيال. ولن يقبل الجمهوريون أن يكون مصير محاولة الاغتيال هذه كما كانت عليه نتائج التحقيق في اغتيال جون كينيدي في ستّينيات القرن الماضي.
الجمهوريون يتشكّكون في التحقيقات. فهم يعتبرون جهاز الـ”إف.بي.آي” جزءاً من “الدولة العميقة” التي تخوض المعركة الرئاسيّة ضدّ ترامب
“هدايا” لترامب
“كان من المفترض أن أكون ميتاً”، كتب ترامب على منصّته الخاصّة “تروث” في أوّل تعليق له بعد محاولة اغتياله.
ليست المرّة الأولى التي ينجو فيها ترامب من محاولة اغتيال. منذ سنوات يتعرّض الرجل لمحاولات “اغتيال سياسيّة” بواسطة ملفّات قضائية. بعضها أخلاقيّة وأخرى ماليّة (التهرّب الضريبيّ) وثالثة سياسيّة (التلاعب في نتائج الانتخابات). وقد أدانته هيئة محلّفين في محكمة نيويورك في شهر أيار الفائت بأكثر من 30 تهمة، بينها شراء صمت ممثّلة الأفلام الإباحية. لكنّ الإدانة لم تنَل منه. بل على العكس زادت من شعبيّته. “ففي كلّ مرّة كانت تُرفع دعوى ضدّه كانت تزيد شعبيّة ترامب بين الجمهوريين والأميركيين”، تقول مصادر في الحزب الجمهوريّ.
في الساعات الثماني والأربعين التي تلت إدانته في نيويورك جمعت حملة التبرّعات 200 مليون دولار بحسب المصادر. 70 مليوناً منها أتت من أفراد تبرّعوا بمبالغ صغيرة جداً. وهو ما يؤكّد ردّة فعل الناس الرافضة للأحكام القضائية واعتبارها مسيّسة.
محاولة الاغتيال الجسديّة ستزيد أيضاً من شعبية الرجل. الذي حاول قتله أصاب هدفه. ولكنّ ترامب نجا بأعجوبة. وفي مجتمع متديّن مثل المجتمع الأميركيّ سيعتبر البعض نجاته إشارة إلهيّة. خروج ترامب من المنصّة رافعاً قبضته جعل منه بطلاً. فهو رجل أعمال وإعلام. يقتنص الفرص. ويجيد لعب الأدوار. وهذا ما فعله في اللحظات الفاصلة بين محاولة اغتياله ونزوله عن المنصّة. لحظات قليلة سيسجّلها التاريخ وستزيد من شعبيّة ترامب.
“كان من المفترض أن أكون ميتاً”، كتب ترامب على منصّته الخاصّة “تروث” في أوّل تعليق له بعد محاولة اغتياله.
حماسة جمهوريّة
جاءت محاولة الاغتيال قبل يومين على انعقاد مؤتمر الحزب الجمهوريّ. ما من شكّ أنّ الحزب كان سيعلن ترشيح ترامب رسمياً. بيد أنّ محاولة الاغتيال زادت من حماسة الجمهوريين لتأييده. وهذا ما سيزيد من شعبيّته ومن قوّة حملته الانتخابيّة.
المؤتمر بحدّ ذاته يعطي دفعاً للحملة الانتخابيّة للمرشّح. فهو تظاهرة سياسيّة، وحزبيّة، وبحثيّة، ووطنيّة. يشارك فيه حوالي 50 ألف شخص. يتقدّمهم أعضاء الكونغرس (النواب والشيوخ) الجمهوريون. كما يشارك في أعماله أكثر من 2400 مندوب عن كلّ الولايات الأميركيّة، إضافة إلى نواب المندوبين. ويشارك في أعمال المؤتمر ممثّلون عن اللوبيات الأميركيّة (اللغويّة، والإثنيّة، والدينيّة، والقوميّة) التي تلعب دوراً كبيراً في الانتخابات الأميركيّة. كما يشارك فيه أيضاً العديد من الباحثين في مراكز أبحاث تابعة للحزب الجمهوريّ أو قريبة منه ومن طروحاته.
يناقش المؤتمرون على مدى خمسة أيام العديد من الملفّات في السياستين الداخليّة والخارجيّة وفي الاقتصاد والاجتماع وغيرها من المواضيع. أُخذت عناوين مواضيعه من شعار حملة ترامب “لنجعل أميركا عظيمة مرّة أخرى”:
– عنوان اليوم الأول “لنجعل أميركا غنيّة من جديد”.
– وعنوان اليوم الثاني “لنجعل أميركا آمنة مرّة أخرى”.
– واليوم الثالث “لنجعل أميركا قويّة مرّة أخرى”.
– ويختم ترامب اليوم الرابع والأخير للمؤتمر الحزبيّ تحت عنوان “عصر ذهبيّ جديد لأميركا”.
ما من شكّ أنّ الحزب كان سيعلن ترشيح ترامب رسمياً. بيد أنّ محاولة الاغتيال زادت من حماسة الجمهوريين لتأييده
في كلّ مرّة يختار الحزب ولاية لعقد مؤتمره. اختيار مدينة ميلووكي في ولاية ويسكونسن جاء لأسباب انتخابيّة. فبحسب مصادر جمهوريّة مشاركة في المؤتمر، ولاية ويسكونسن هي من أبرز الولايات المتأرجحة. يأمل الجمهوريون من خلال عقد المؤتمر فيها زيادة عدد المؤيّدين لهم فيها وبالتالي زيادة عدد الناخبين لترامب في الانتخابات المُقبلة.
ارتباك الديمقراطيّين
مقابل هذه الحماسة لدى الجمهوريين زادت من حالة الارتباك في المعسكر الديمقراطي محاولةُ اغتيال دونالد ترامب، خاصّة أنّ بعض الجمهوريين اعتبروا أنّ خطاب الكراهية والتحريض الذي تستعمله حملة بايدن هو وراء محاولة الاغتيال التي تعرّض لها مرشّحهم. كلام دفع بالرئيس جو بايدن إلى التراجع عن وصف ترامب بـ “بؤرة الهدف”، وهو وصف كان قد استعمله في مقابلة له على قناة “إن.بي.سي.نيوز”، وذكره في كلام له مع المانحين إذ قال: “حان الوقت لوضع ترامب في بؤرة الهدف”، وإلى القول: “لقد كان من الخطأ استخدام الكلمة.. قصدت التركيز عليه، التركيز على ما يفعله..”.
إقرأ أيضاً: هل هناك مَن سعى لقتل “الترامبيّة”؟
لكن أبعد من التراجع عن بعض التعابير وحدّة الخطاب الانتخابيّ، ستزيد نجاة ترامب من محاولة الاغتيال وخروجه منها بمشهد البطل من ارتباك الديمقراطيين في الحملة الانتخابيّة. فهل تزيد الضغوطات على بايدن للانسحاب من السباق الرئاسيّ أم تتراجع ليقوم الحزب في شهر آب المقبل بتبنّي ترشيحه رسميّاً؟
الجواب في الآتي من الأيام.
لمتابعة الكاتب على X: