العراق “القَلِق”: لماذا يتوسّط بين تركيا وسوريا؟

مدة القراءة 8 د

كثيرةٌ هي العوامل التي دفَعَت الرّئيس التّركيّ رجب طيّب إردوغان ليُغيِّرَ موقفه من التّطبيع مع سوريا. ليسَ الأكراد أوّل همومهِ، ولا الحالة الاعتراضيّة المُتنامية ضدّ اللجوء السّوريّ في الدّاخل التّركيّ. وليسَت نتائج الانتخابات البلديّة الأخيرة التي خسرَ فيها الحزب الحاكم في تركيا بلديّات كبرى. وما بينَ هذه وتلك، المصالح الاستراتيجيّة لتركيا في العِراق الذي يلعبُ دوراً محوريّاً في تقريب وجهات النّظر بين دمشقَ وأنقرة. بالإضافة إلى دور العِراق، تبرزُ في الكواليس أدوارٌ عربيّة وروسيّة تعملُ جاهدة على الخطّ عينه فما هي أسباب الوساطة العراقية؟

أظهَرَ رئيس تركيا رجب طيب إردوغان في السّنوات الماضية “ليونةً” في تعديل مواقفه ونقلها من ضفّة إلى أخرى. آخر فصول هذه “الليونة” كانَ حديث إردوغان عن عدم مُمانعته تطبيع العلاقات السّوريّة – التّركيّة.

ماذا في التّفاصيل؟

يكشفُ مصدران إقليميّان لـ”أساس” أنّ الاندفاعة الجديدة في إطار دفعِ العلاقات بين سوريا وتركيا قُدماً بدأت فصولها أثناء زيارة الرّئيس التّركيّ الأخيرة للعاصمة العراقيّة بغداد.

أظهَرَ رئيس تركيا رجب طيب إردوغان في السّنوات الماضية “ليونةً” في تعديل مواقفه ونقلها من ضفّة إلى أخرى

لماذا قرّرَ رئيس الوزراء العراقيّ محمّد شيّاع السّوداني التّوسّطَ بين الرّئيسيْن التّركيّ والسّوري؟ النظر إلى خريطة السّيطرة على امتداد الجغرافيا السّوريّة. يظهر سيطرة ميليشيات “قوّات سوريا الدّيمقراطيّة” على مساحة واسعة شرقَ سوريا، وهي مناطق مُجاورة للعراق وتركيا.

بين منطقة “قسد” والمنطقة التي يُسيطرُ عليها الجيش السّوريّ تظهر من حينٍ إلى آخر جيوبٌ لتنظيم “داعش”، الذي يخشى المسؤولون في بغداد عودته في حال استطاعت هذه الجيوب التّواصل مع مئات المُقاتلين المُعتقلين في مُخيّم “الهول” الذي يقع تحت سيطرة قوّات “قسد”.

كذلكَ فإنّ المنطقة التي يُسيطرُ عليها المُسلّحون الأكراد في سوريا تُعتبرُ ملاذاً لحزبِ العُمّال الكردستانيّ المُصنّف إرهابيّاً في تُركيا، والمحظور في العراق. وقد وصلَت معلومات استخباريّة إلى أنقرة ودمشق تُفيدُ أنّ جهاز الموساد الإسرائيليّ ينشطُ في الآونة الأخيرة في نقل السّلاح من أوكرانيا إلى المُسلّحين الأكراد في شرق سوريا، وذلكَ بهدف “القصاص” من موقف تركيا من الحرب على غزّة، ودعم دمشق للحزبِ في لبنان عبر تدفّق السّلاح إليه عبر أراضيها.

مصدران إقليميّان لـ”أساس”: الاندفاعة الجديدة في إطار دفعِ العلاقات بين سوريا وتركيا قُدماً بدأت فصولها أثناء زيارة الرّئيس التّركيّ الأخيرة للعاصمة العراقيّة بغداد

قلق أمنيّ عراقيّ

هكذا باتَ من الممكن القول إنّ قرار السّوداني التّوسّطَ بين إردوغان والأسد يُعبّر عن قلقٍ أمنيّ عراقيّ له أبعاد سوريّة وتُركيّة. وصارَ لدى المسؤولين في بغداد قناعةٌ راسخة أنّ عدم بسط السّيطرة السّوريّة على هذه المناطق ستُبقيها في دائرة “القلق الدّائم”، وهذا يُحتّم تسوية الخِلافات بين أنقرة ودِمشق. كما أنّ هذا الأمر، بالنّسبة لبغداد، فيه مصلحة ثُلاثيّة.

في المعلومات أنّ مُستشار الأمن الوطنيّ في العراق قاسم الأعرجي تواصلَ بعد زيارة رجب طيب إردوغان بغداد مع رئيس هيئة الاستخبارات العامّة السّوريّة حُسام لوقا، ورئيس جهاز الاستخبارات التّركيّة إبراهيم قالن، وتقرّرَ عقد لقاءٍ ثُنائيّ على المستوى الأمنيّ بين الجانبيْن في بغداد، من دون حضور طرفٍ ثالثٍ.

كما تُؤكّد معلومات “أساس” أنّ لقاءً عُقِدَ على المستوى الأمنيّ بين الجانبيْن في معبر “كسب” الحدوديّ بين تركيا وسوريا قبل أيّام، بحثَ مسائلَ أمنيّة وتقنيّة، من دون أن يتطرّق اللقاء للجانب السّياسيّ المتروك للقاء بغداد.

الشّروط والشّروط المضادّة

تمضي العجلة بين سوريا وتركيا قدماً، لكن ببطء. فالجانبان مُثقلان بالخلافات المُتراكمة منذ أن أعلَنَ الرّئيس التركيّ دعمه للثّورة السّوريّة، ونيّته “الصّلاة في المسجد الأمويّ الكبير في دمشق”. ووصلَت الخلافات إلى حدّ الصّدام العسكريّ المباشر، ولو بشكلٍ محدود، في مناطق الشّمال السّوريّ.

تُؤكّد معلومات “أساس” أنّ لقاءً عُقِدَ على المستوى الأمنيّ بين الجانبيْن في معبر “كسب” الحدوديّ بين تركيا وسوريا قبل أيّام

فهل يكون لقاء الأسد – إردوغان بهذه السّهولة؟

لا شيءَ مُستحيلٌ في السّياسة. لكنّ دمشق وأنقرة تتبادلان الشّروط والشّروط المُضادّة لرفع سقفِ أيّ عمليّة تفاوضٍ مُحتملة.

تعتبرُ دمشق أنّ الوجود العسكريّ التّركيّ فوقَ أراضيها ينبغي أن ينتهي أو أن يُعلَن جدولٌ زمنيّ واضح لنهايته. وهذا رأس جبل الجليد في الملفّ المُعقّد الذي سيطرحه السّوريّون على أيّ طاولة تفاوض مع الأتراك.

دويلة تركيّة في سوريا

يبقى أنّ هناك معطيات كثيرة تغيّرت في الشمال “السوري – التركي – العراقي” خلال السنوات الأخيرة. نذكر منها الآتي:

1- تخلصُ التّقديرات في سوريا إلى أنّ الشّمال السّوريّ، الذي خرجَ عن سيطرة الجيش منذ 2012، باتَ أرضيّة سياسيّة – أمنيّة – اجتماعيّة مُعقّدة. ذلكَ أنّ تُركيا كانَت الأساس في تشييد مُجتمعٍ مُعارضٍ للنّظام، يتعامل بالعملة التّركيّة، وتنتشر فيه المدارس التّركيّة، ويتداول البضائع التي تعبر الحدود، وصارَ كأنّه “دويلة تركيّة” قائمة بحدّ ذاتها، مع شرطة وجيش وبنى تحتيّة.

تُريدُ دمشق من أنقرة التزامات واضحة بتفكيك هذه البنية المُعقّدة. تدخل في هذا الإطار أحداث الشّمال السّوريّ قبل يوميْن، والصدامات بين المواطنين السّوريين والجنود الأتراك، التي وصلَت إلى حدّ إحراق العلم التّركيّ.

2- تابَع المعنيّون في دمشق باهتمام مشاهد التّظاهرات الأخيرة التي اندلعت في الشّمال ضدّ “هيئة تحرير الشّام” (جبهة النّصرة سابقاً) وزعيمها أبي محمّد الجولاني. لكنّهم في الوقت عينه كانوا يُراقبون ما يحمله المُتظاهرون من أعلامٍ وراياتٍ تدلّ على أنّهم لا يزالون في المقلب المُعارضِ.

تخلصُ التّقديرات في سوريا إلى أنّ الشّمال السّوريّ، الذي خرجَ عن سيطرة الجيش منذ 2012، باتَ أرضيّة سياسيّة – أمنيّة – اجتماعيّة مُعقّدة

في المُقابل، لا تبدو شروط أنقرة أكثر ليونةً من شروطِ دمشق. وذلك لسبيين أساسيَّين:

1- يُريدُ الأتراك ضمانات أمنيّة واضحة حولَ من سيتولّى الأمن في المناطق التي يتمركز فيها الجيش التّركيّ قربَ الحدود التّركيّة – السّوريّة. إذ يقلق الأتراك من تمركز ميليشيات موالية لإيران على حدودهم. ويُفضّلون أن ينتشر الجيش السّوريّ بضمانات روسيّة.

2- يطرحُ الأتراك ضرورة أن تُقدّم دمشق خطوات سياسيّة جدّية، تشملُ:

– تعديلات على الدّستور السّوريّ.

– إجراء انتخابات عادلة وشاملة في سوريا تضمّ كلّ أطياف المُجتمع.

– تشكيل حكومة جديدة تُمثّل جميع السّوريين.

– ضمان أمن اللاجئين السّوريين الذين سيعودون إلى بلادهم من تركيا.

استقرار العلاقة بين دمشق وأنقرة يُعيد خطّ التجارة التركيّ – العربيّ إلى سابقِ عهده عبر خطّ معبر نصيب بين الأردن وسوريا إلى تركيا وبالعكس

السّعوديّة والإمارات.. والأمن القوميّ العربيّ

في الكواليس تدور مُباحثات أشمل. إذ تؤكّد مصادر “أساس” الآتي:

1- إنّ المملكة العربيّة السّعوديّة ودولة الإمارات وروسيا تعملُ حثيثاً على إحداث خرقٍ في العلاقة بين الرّئيسيْن إردوغان والأسد. ذلكَ أنّ الدّول العربيّة تسعى إلى أن تبقى سوريا مستقرّة بالدّرجة الأولى، لما لذلك من تأثير مباشر على الأمن القوميّ العربيّ.

2- تسعى الدّول العربيّة وروسيا إلى منع أيّ تقسيم لسوريا، وإبقاء أراضيها موحّدة. كما أنّ انسحاب الجيش التّركيّ من سوريا من شأنه أن يفتحَ الباب لمُناقشة وجود دولٍ أخرى، في مُقدّمها إيران، على الأراضي السّوريّة.

إقرأ أيضاً: من أشعل فتنة سوريّة تركيّة.. على مشارف لقاء الأسد – إردوغان؟

3- هذا من شأنه أن يُعطي دفعاً للعمليّة السّياسيّة السّوريّة. إذ لا تستبعدُ المصادر أن تشهدَ سوريا تعديلاتٍ حكوميّة تُشاركُ فيها شخصيّات من المعارضة. ويبرز في هذا الإطار اسم رئيس الوزراء الأسبق رياض حجاب، والرّئيس الأسبق للائتلاف السّوريّ المعارض الشّيخ معاذ الخطيب.

4- كما أنّ استقرار العلاقة بين دمشق وأنقرة يُعيد خطّ التجارة التركيّ – العربيّ إلى سابقِ عهده عبر خطّ معبر نصيب بين الأردن وسوريا إلى تركيا وبالعكس.

هكذا صارَ أعداء الأمس أقربَ للّقاء غداً. فإردوغان الذي صرّحَ قبل أيّامٍ قليلة أنّه لا يُمانع لقاء نظيره السّوريّ وأنّ “له علاقات تاريخيّة تجمعه بالأسد وسوريا”، يُريدُ بحسب المصادر أن يلتقي الأسد قبل نهاية ولايته الحاليّة. فهو مُثقَلٌ بالعبءِ السّياسيّ للنزوح السّوريّ، ويُريدُ أن يتخلّص من كابوس الأكراد الذي يُلاحقه من القامشليّ إلى تخوم حلب… والعراق والعرب والروس يلتقون على مصالح متشابكة في عقد هذا اللقاء.

لمتابعة الكاتب على X:

@IbrahimRihan2

مواضيع ذات صلة

الشّيعة وقّعوا الاتّفاق… والرّئيس المسيحيّ سينفّذه

تاريخ لبنان الحديث حافل بالاتّفاقات والانقلابات عليها، لا سيما تلك التي أبرمت في زمن الانقسام الكبير الذي انفجر في السبعينيات، واستمرّ حتى التسعينات، حين استقرّ…

هل قتل “الحاج حمزة” نصرالله وصفيّ الدّين؟

من أوقَع السّيّد حسن نصرالله والسيّد هاشم صفيّ الدّين في فخّ الاغتيال؟ هل استندَ الإسرائيليّون إلى خرقٍ بشريّ داخل “الحزب”؟ أم التقنيّة كانت هي السّبيل؟…

خمسة أيّام من “قصف” الهدنة: “الأمر” للعدوّ!

تتوالى الخروقات الإسرائيلية للترتيبات الأمنيّة المرتبطة بتطبيق القرار 1701، جنوب الليطاني وشماله وصولاً إلى صيدا وبعلبك، إلى حدّ التهديد بنسف هدنة الـ60 يوماً.  يحدث ذلك…

“الحزب” بعد الحرب: الولادة من “الخاصرة الأميركيّة”

أما وقد دخل اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ منذ صباح 27 الجاري، ليشكّل حدّاً فاصلاً بين ما قبله وما بعده، ويدشّن مرحلة جديدة كليّاً،…