العراق الضائع بين هويّات زائفة

مدة القراءة 4 د

 لا ينتمي عراق اليوم إلى نفسه ولا إلى تاريخه. ولو عدنا إلى المرحلة التي تبعت الاحتلال مباشرة لرأينا مجاميع من المثقّفين العراقيين القادمين من أوروبا وهي تدعو إلى إحياء الهويّة العراقية. وهو مصطلح أريد له أن يحلّ محلّ الهويّة العربية. هي هويّة تمثّل مزيجاً من المأثورات والمرويّات التي يغلب عليها الطابع الشعبوي.

 

كانت “الهويّة العراقية” كذبة فولكلورية تمّت إزاحتها بيسر وبسرعة. لا لأنّ هناك هويّة أخرى جاهزة قد تمّ التخطيط لتحلّ محلّها. فمشروع الاحتلال الأميركي الذي ساهمت فيه إيران منذ البدء كان قائماً على أساس إفراغ العراق من محتوى هويّته العربية. أن لا يكون العراق دولة عربية. ذلك واحد من أهمّ أهداف الغزو الأميركي وما تلاه من غزو إيراني.

جوهرياً كانت مصر دائماً قلب العالم العربي، وكان العراق هو ضمانة أمنه الإقليمي. فلا دولة مثل إيران تهدّد استقرار العالم العربي وأمنه. كان العراق قد وقف سدّاً أمام الأطماع الإيرانية، وليست حرب الثماني سنوات سوى دليل صارخ على ذلك. وليس نوعاً من الدعاية الإعلامية القول إنّ العراق هو البوّابة الشرقية للعالم لعربي. حين سقطت تلك البوّابة اُستبيح العالم العربي.

رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط

من المؤكّد أنّ انتزاع الهويّة العربية من العراق هو الجزء الأكثر أهميّة بالنسبة للأميركيين وهم يعيدون رسم الخريطة السياسية للشرق الأوسط باعتبارها (أي الخريطة) قاعدة لصنع ميزان قوى جديد، يتمّ استبعاد العرب منه. فالعرب من غير العراق يفقدون واحداً من أهمّ صمامات أمنهم القومي، وبالأخصّ إذا كان واقعاً تحت الهيمنة الإيرانية.

عزل العراق عن محيطه العربي يحقّق غايتين مثّلتا جوهر المشروع الأميركي

في كلّ الأحوال فإنّ عزل العراق عن محيطه العربي يحقّق غايتين مثّلتا جوهر المشروع الأميركي. الأولى دفع العراق ثمنها حين فقد الجدار العربي الذي يستند إليه وجوداً ومصيراً، والثانية تمثّلت في ما فقده العرب حين سقطت بوّابتهم الشرقية التي كانت تقف بينهم وبين فارس.

العراق

أمّا حين استولت الميليشيات الإيرانية على القرار السياسي في بغداد فإنّ العراق تحوّل إلى جبهة أمامية إيرانية في مواجهة العرب. وهو ما لم يعترض عليه الأميركيون الذين صنعوا كلّ شيء ولا يزال في أيديهم كلّ شيء. وكلّ ما يُقال عن المقاومة الإسلامية التي تتصدّى للعدوّ الصهيوني هو محض افتراء يُراد منه التغطية على المهمّة الحقيقية لتلك الميليشيات التي صارت تُعرف بـ”المقاومة الإسلامية”.

في حقيقة ما تقوم به تكمن مهمّة الميليشيات التابعة للحرس الثوري في الاستمرار في اختطاف العراق وتحويله إلى جبهة إيرانية في مواجهة العرب. أمّا الدور الذي تقوم به في إزعاج القوات الأميركية في قواعدها داخل الأراضي العراقية بين حين وآخر فهو دور ثانوي يرتبط بحاجات إيرانية مؤقّتة.

من المؤكّد أنّ انتزاع الهويّة العربية هو الجزء الأكثر أهميّة بالنسبة للأميركيين

إذا كانت الولايات المتحدة قد سحبت قوّاتها وأنهت صوريّاً احتلالها فلأنّها كانت مطمئنّة إلى أنّه لن يعود عربياً. فالأحزاب التي كُلّفت من قبل سلطة الاحتلال الأميركي بتصريف شؤون الدولة الهشّة في العراق كانت وستظلّ في حاجة إلى حماية أجنبية من أجل استمرار النظام الذي هو عبارة عن غطاء لعمليات فساد نُظّمت لسرقة ثروة العراقيين. ولأنّها في حاجة إلى تلك الحماية فإنّها ستنفّذ ما هو مطلوب منها بسرعة وإتقان شديدين.

عراق منزوع الهويّة

كان العرب دائماً راغبين في استعادة العراق وإعادته إلى الحاضنة العربية. غير أنّهم كانوا محقّين في عدم ثقتهم بكلّ المبادرات الشخصية التي قام بها هذا الزعيم الحزبيّ العراقي أو ذاك. فالمسألة هي أكبر من تلك المبادرات ومن حامليها ومن نواياهم إذا كانت صادقة. فالعراق الذي ضاع عن أهله كان قد ضاع في الوقت نفسه عن محيطه العربي. كان المطلوب أميركياً أن يكون العراق منزوع الهويّة، وهو في حقيقته بلد من غير إرادة وطنية، وليس لدولته معنى سوى ذلك المعنى “السكونيّ” الذي يتمّ من خلاله تصريف شؤون الناس في أدنى مستوياتها.

إقرأ أيضاً: آن الأوان للتخلّص من نوري المالكي

علينا هنا أن نعترف على مضض أنّ العراق الذي فقدَ هويّته لم يعد موجوداً إلا باعتباره مساحة جغرافية لا سيادة سياسية فيها، وكتلة بشرية مضطربة تنتظر مصيرها من غير أن تملك متراً واحداً يتيح لها الحركة.

 

*كاتب عراقي

مواضيع ذات صلة

مشروع إيران التّوسّعيّ: ما بُنيَ على متغيِّر.. سيتغيَّر

لا خلاف في أنّ لدى إيران مشروعها التوسّعي في المنطقة. وكلمة “توسّعي” ليست استنتاجاً، إنّما حقيقةٌ تعكسها التصريحات الغزيرة والصادرة عن الكثير من القيادات الإيرانية…

جنبلاط يقبض على اللّحظة الإقليميّة

كان الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في طليعة من قاربوا بالتعليقات الرمزية وبالمواقف، وبالخطوات العملية، مفاعيل الزلزال السوري على لبنان.   يتميّز جنبلاط…

سليمان فرنجيّة: رئاسة الحظّ العاثر

ـ عام 2004 سأل بشار الأسد سليمان فرنجية: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”. ـ مرّتين…

الشّرع وسوريا: الرّسم بالكلمات

لم نسمع من أحمد الشرع أو أيّ وزير من الحكومة المؤقّتة في سوريا أيّ رفع لشعار “الإسلام هو الحلّ” الذي درجت جماعة الإخوان المسلمين على…