“اليقين الفرنسي يختفي. وقد يكون النظام الجمهوري الخامس هو التالي”، يحذّر المؤرّخ الفرنسي جون كيغر الذي تغطّي خبرته فرنسا في القرنين التاسع عشر والعشرين، مع اهتمام خاصّ بالسياسة الخارجية والعلاقات الدولية. ويرجّح أن يؤدّي قرار الرئيس ماكرون بحلّ الجمعية الوطنية في أعقاب فوز حزب التجمّع الوطني في الانتخابات الأوروبية، إلى تحويل الأزمة السياسية إلى أزمة نظام.
وفقاً لكيغر، وهو مدير أبحاث سابق في “قسم السياسة والدراسات الدولية” بجامعة كامبريدج، فإنّ فرنسا دخلت منذ إعادة انتخاب ماكرون في عام 2022، في ظلّ عدم وجود أغلبية مطلقة، في أزمة بطيئة لا تزال تداعياتها تلوّث الحياة السياسية في البلاد. وهي اليوم، بعد احتضار الحزب الاشتراكي، تشهد انهيار الحزب الجمهوري الديغولي الذي منح البلاد المؤسّسات المستقرّة للجمهورية الخامسة، ومنحها أربعة رؤساء، والذي خرق رئيسه إريك سيوتي محرّمات عدم التواطؤ مع “اليمين المتطرّف”، وأبرم صفقة مع حزب الجبهة الوطنية، الأمر الذي أثار غضب التسلسل الهرميّ للحزب، لكن ليس قاعدته.
دخلت فرنسا منذ إعادة انتخاب ماكرون في ظلّ عدم وجود أغلبية مطلقة، في أزمة بطيئة لا تزال تداعياتها تلوّث الحياة السياسية في البلاد
يخشى كيغر أن يُدفن التأثير الداعم للاستقرار الذي خلّفه التناوب بين الحزبين الديغولي والاشتراكي التاريخي تماماً بحلول الجولة الثانية من الانتخابات المبكرة في 7 تموز، بعدما شهدت الانتخابات الأوروبية الإدلاء بأكثر من 50% من الأصوات للأحزاب غير التقليدية، التي وصفها ماكرون بـ “المتطرّفة”. ويتأسّف لأن تعود فرنسا في الذكرى الخامسة والستّين للجمهورية الخامسة، إلى حالة عدم الاستقرار السياسي والركود التي شهدتها الجمهورية الرابعة.
أغلبية مطلقة… لليمين المتطرّف
يشير كيغر إلى الاستطلاع الأخير الذي أجرته مؤسّسة هاريس إنترأكتيف (Harris Interactive) وأظهر حصول حزب الجبهة الوطنية على 34 في المئة، فيما احتلّ تحالف أحزاب اليسار (NUPES) أو “الجبهة الشعبية”، الذي أعيد إحياؤه، المركز الثاني بنسبة 22 في المئة، وحلّ تجمّع ماكرون الوسطي في المركز الثالث بنسبة 19 في المئة. ويتوقّع حسب هذا الاستطلاع أن يحصل التجمّع الوطني على غالبية مطلقة في الجمعية الوطنية في الدورة الثانية بالنظر إلى التأثير المضاعف لنظام التصويت بالأغلبية المكوّن من جولتين للفائزين. إذ احتلّ حزب الجبهة الوطنية المرتبة الأولى في 96 من أصل 101 مقاطعة فرنسية. وأظهر تحليل توزيع المقاعد أنّ حزب الجبهة الوطنية كان أكبر حزب ضمن نطاق واسع يصل إلى الأغلبية الشاملة. وذلك قبل الاتفاق مع اليمين الجمهوري المعتدل.
ما الذي قد يؤدّي إليه أيّ من السيناريوهين التاليين بالنسبة لفرنسا؟ يتساءل كيغر.
ويجيب مؤكّداً أنّ ماكرون في كلّ من الحالتين سيعيّن جوردان بارديلا رئيساً للوزراء، على الرغم من عدم نصّ الدستور على وجوب أن يتمّ التعيين من الحزب الأكبر (وهو ما يترك المجال أمام ماكرون ليكون أكثر تمرّداً على المعتقدات التقليدية):
- مع وجود أغلبية مطلقة، سيواجه حزب الجبهة الوطنية صعوبة كبيرة في تنفيذ سياساته المعلنة. ولن نشهد “التعايش” المعتدل كما في الماضي. فأوّلاً، ستتطلّب موافقةَ الرئيس السياسةُ الرئيسية للجبهة الوطنية المتمثّلة في إجراء استفتاء على الهجرة. ونظراً لمعارضة ماكرون المعلنة، فإنّ هذا الاستفتاء محكوم عليه بالفشل. كما أنّ السياسة الخارجية والدفاعية هي من الامتيازات الرئاسية، وبالتالي فإنّ سياسة الجبهة الوطنية بشأن أوكرانيا والاتحاد الأوروبي ستكون في وضع حرج. وسيتعيّن على حكومة بارديلا أن تستقرّ على السياسات الداخلية المتعلّقة بالقانون والنظام، وخاصة إعادة المهاجرين غير الشرعيين، على الرغم من أبعادها في السياسة الخارجية.
- بدون أغلبية مطلقة، فإنّ الصورة أقرب إلى حالة من الجمود والفوضى البرلمانية على غرار العامين الماضيين، لكنّها ستكون أسوأ بكثير مع وجود مجموعة تحالف أحزاب اليسار (NUPES) المتحمّسة في الجمعية الوطنية. ومن المحتمل أن يكون المشهد عبارة عن طلبات انتقاد متكرّرة، وأن تلجأ الحكومة إلى المادّة الدستورية 49.3 لتمرير التشريعات دون تصويت، وأهمّها الميزانية. يقدّر معهد مونتين (مؤسّسة بحثية تنتمي إلى يمين الوسط) كلفة الإصلاحات التي يريد حزب الجبهة الوطنية تنفيذها بنحو 100 مليار يورو، أغلبها غير مموّل حتى الآن، الأمر الذي سيؤدّي إلى ارتفاع ديون فرنسا الهائلة.
بدون أغلبية مطلقة، فإنّ الصورة أقرب إلى حالة من الجمود والفوضى البرلمانية على غرار العامين الماضيين، لكنّها ستكون أسوأ بكثير
انهيار مالي في فرنسا؟
في كلّ من السيناريوهين، يتوقّع كيغر أن تكون النتيجة حالة من الذعر في الأسواق المالية التي شهدتها في الأيام الماضية العمليات حول الديون الفرنسية. ويتوقّع اتّساع “فروق الأسعار” الفرنسية وهبوط البورصة الفرنسية. وقد اعترفت الشركات الفرنسية الكبيرة والصغيرة بالفعل بقلقها، مشيرة على الرغم من ذلك إلى أنّها تفضّل حكومة حزب الاتحاد الوطني على بديل يساري لـ “الجبهة الشعبية”.
إقرأ أيضاً: بريطانيا تحذّر: أوروبا بمواجهة الفاشية والحرب
وفقاً لكيغر، سيستخدم بعض المعارضين هذا التصريح باعتباره “مشروع خوف” فرنسيّاً. لكنّ الذعر بدأ ينتاب حتى أنصار ماكرون بشأن قراره حلّ الحكومة. وبدأ كثيرون الإشارة بصوت عالٍ إلى أنّه هو المشكلة من خلال اشتراط عدم ظهور صورته على الملصقات الانتخابية لدوائرهم الانتخابية.
يحذّر الكاتب أخيراً من أنّ فرنسا تقف على مفترق طرق سياسي ومؤسّسي وماليّ ونفسيّ، وأنّ اليقينيّات التي أبقت على تماسك المجتمع الفرنسي لأربعة أجيال بدأت تختفي، وما سيبدو عليه الأمر في السنوات المقبلة هو بمنزلة لغز غير واضحة معالمه حتّى الآن.
لقراءة النص بلغته الأصلية اضغط هنا