“لا تطمئنّوا إلى تصريحات رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بأنّ “الاتحاد صامد” عند إعلان نتائج 27 انتخابات وطنية مختلفة للبرلمان الأوروبي حقّقت فيها الأحزاب اليمينية المتشدّدة نجاحات تراوحت بين المهمّة والصادمة في الدول الأعضاء الأساسية.
لا تدعوا أحداً يقُل “الأمر ليس سيّئاً للغاية. إنّه أمر سيّئ، ويمكن أن يصبح أسوأ. فأوروبا التي احتفلت للتوّ على شواطئ نورماندي بذكرى مرور ثمانين عاماً على بداية تحرّرها من الحرب والقومية والفاشية، تواجه الآن مرّة أخرى الفاشية والقومية والحرب”.
البروفسور آش يرفع الصوت
هذا التحذير أطلقه مؤرّخ بريطاني مخضرم بارز هو البروفسور تيموثي غارتون آش، أستاذ الدراسات الأوروبية في جامعة أوكسفورد، في مقاله الأسبوعي في جريدة الغارديان البريطانية.
غارتون آش يعرف جيّداً ما يقوله، فهو مؤلّف أحد عشر كتاباً عن الكتابة السياسية أو “تاريخ الحاضر” رسمت تحوُّل أوروبا خلال نصف القرن الماضي. كتب عن الثورة البولندية وثورة 89 التي شهدتها وارسو وبودابست وبرلين وبراغ. كما كتب عن المقاومة الألمانية لهتلر وعن ألمانيا حيث عاش في النصفين الغربي والشرقي من مدينة برلين المقسّمة لعدّة سنوات. ومن هناك بدأ بالسفر خلف الستار الحديدي. وقام طوال فترة الثمانينيات بتغطية وتحليل أحداث تحرير أوروبا الوسطى من الشيوعية في مساهمات في مجلّة نيويورك ريفيو أوف بوكس، الإندبندنت، التايمز، السبيكتيتور وغيرها.
في إيطاليا احتلّ حزب “أصدقاء إيطاليا” الذي تتزعّمه رئيسة وزراء ما بعد الفاشية الجديدة جيورجيا ميلوني المركز الأوّل
يدرك تيموثي غارتون آش الذي ظهر في عام 2005 في قائمة تضمّ أفضل 100 مثقّف عالمي اختارتهم مجلّتا Prospect وForeign Policy، وفي قائمة مجلّة تايم لأكثر 100 شخص تأثيراً في العالم، وحصل في عام 2006 على جائزة جورج أورويل للكتابة السياسية، وفي عام 2017 على جائزة شارلمان، أنّ “الاتحاد الأوروبي يدار من قبل حكومات وطنية أكثر ممّا يديره برلمانه المنتخب بشكل مباشر”، ولذا يتوقّع أن يسحبه التصويت اليميني المتشدّد بالكامل إلى اليمين. فالأحزاب اليمينية المتشكّكة في أوروبا لن تكون على درجة من الغباء بحيث تدعو إلى اتّباع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بل بدلاً من ذلك ستستمرّ في سحب الاتحاد الأوروبي إلى اليمين من الداخل، مع اتّخاذ موقف أكثر تشدّداً بشأن الهجرة، ومعارضة حازمة للتدابير الخضراء اللازمة لمعالجة أزمة المناخ، وخفض الدعم لأوكرانيا، واستعادة السيطرة الوطنية من بروكسل.
فرنسا الأكثر دراماتيكيّة
في رأي المؤرّخ البريطاني أنّ الحالة الأكثر دراماتيكية هي في فرنسا، حيث حقّق حزب التجمّع الوطني بزعامة مارين لوبان انتصاراً مذهلاً بعدما فاز بأكثر من 30% من الأصوات، وذلك في يوم الاحتفال الدولي في النورماندي بذكرى التحرير الذي مهّد الطريق للاتحاد الأوروبي. وقد هزم حركة النهضة الوسطية الليبرالية التي يتزعّمها ماكرون، ثمّ جاءت القنبلة مع إعلان ماكرون، الذي تحوّلت ثقته غير العادية بنفسه إلى غطرسة، حلّ البرلمان الفرنسي والدعوة إلى انتخابات جديدة في الثلاثين من حزيران، مع جولة ثانية في السابع من تموز. ورحّبت لوبان بالقرار.
وهي مقامرة ضخمة، حيث يعتمد النظام الانتخابي الفرنسي على جولتين، وهو ما يسمح للناخبين بتفضيل مرشّح آخر على مرشّح حزب التجمّع الوطني في الجولة الثانية الحاسمة. ولكن نظراً لعمق الغضب الشعبي، هناك خطر جدّي من أن تحصل فرنسا على حكومة يمينية متشدّدة متشكّكة في الاتحاد الأوروبيّ تربط أيدي ماكرون، المدافع الرئيسي في القارّة عن أوروبا أقوى. إذا حصل ذلك فسيكون بمنزلة لحظة “بريكست” لفرنسا على الرغم من عدم الخروج الناتج عن ذلك.
الأمر الأكثر إثارة للقلق، بالنسبة للمؤرّخ البريطاني، هو استقطاب العديد من هذه الأحزاب للناخبين الشباب
أمّا ألمانيا أقلّ إثارة للقلق قليلاً. فقد فاز فيها كلّ من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي من يمين الوسط بشكل واضح، بينما جاء حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرّف للغاية في المرتبة الثانية، بنسبة تقلّ قليلاً عن 16% من الأصوات، وهو ما يزيد على ما حصل عليه أيّ من الأحزاب الثلاثة في الائتلاف الحاكم في البلاد، بما في ذلك الديمقراطيون الاشتراكيون بزعامة المستشار أولاف شولتز. بينما في إيطاليا احتلّ حزب “أصدقاء إيطاليا” الذي تتزعّمه رئيسة وزراء ما بعد الفاشية الجديدة جيورجيا ميلوني المركز الأوّل، كما فعل حزب الحرّية اليميني المتطرّف في النمسا. وفي هولندا كان أداء حزب “من أجل الحرّية” للمعادي للإسلام خيرت فيلدرز أقلّ بقليل من أداء يسار الوسط.
الشباب هم القلق الكبير
غير أنّ الأمر الأكثر إثارة للقلق، بالنسبة للمؤرّخ البريطاني، هو استقطاب العديد من هذه الأحزاب للناخبين الشباب. ووفقاً لاستطلاع للرأي قبل الانتخابات، أيّد حوالي 36% من الشباب بين 18 و24 عاماً في فرنسا حزب التجمّع الوطني. ويعتبر أنه “على الرغم من وجود نتائج مشجّعة أكثر في بولندا والمجر، وكون الدرس المستفاد من تلك البلدان (كما هو الحال في بريطانيا) هو أنّه لا بدّ من إبقاء القوميين الشعبويين في السلطة لعدّة سنوات قبل أن يبدأ رفضهم، فإنّ هذا لا يشكّل عزاء كبيراً”.
العواقب القارّية والعالمية المترتّبة على انتصار روسيا الفاشية بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين ستجعل أوروبا أقرب إلى العودة إلى أيامها القديمة
في رأي الكاتب أنّه “حتى لو لم يشكّل اليمين المتشدّد الحكومة الفرنسية المقبلة هذا الصيف، فإنّ هذه النتائج ستعقّد بشكل كبير إجراءات الاتحاد الأوروبي الموحّدة والحاسمة بشأن قضايا مثل الانتقال الأخضر. لكنّ الأكثر إلحاحاً أنّه سيصبح من الصعب زيادة الدعم العسكري لأوكرانيا، في وقت أصبح فيه هذا البلد في خطر جدّي يتمثّل في خسارة أكبر حرب في أوروبا منذ عام 1945. فعلى الرغم من أنّ أحزاب اليمين المتشدّد منقسمة بشأن أوكرانيا فإنّ تأثير هذه النتائج سيكون سلبياً. ففي ألمانيا، ذهب ما يقرب من ربع الأصوات إلى الأحزاب التي تدعو إلى نسخة من “السلام” تعني فعليّاً استسلام أوكرانيا”.
يحذّر المؤرّخ البريطاني من أنّ “العواقب القارّية والعالمية المترتّبة على انتصار روسيا الفاشية بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين ستجعل أوروبا أقرب إلى العودة إلى أيامها القديمة السيّئة”. كما يحذّر من “احتمال أن تسفر الانتخابات الأكثر أهمية لأوروبا هذا العام، التي لن تجري في أوروبا، أي الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني، عن فوز دونالد ترامب الذي من شأنه إضعاف أوروبا وربّما زيادة انقسامها، إذ سيصطفّ القوميون الشعبويون اليمينيون المتشدّدون، الذين من المرجّح أن تكون ميلوني جزءاً منهم، لتشكيل حزب ترامب الأوروبي”.
إقرأ أيضاً: زعماء ثلاثة من العالم تحت الحصار
يتساءل أخيراً: “هل حان الوقت لليأس والهجرة إلى نيوزيلندا؟”، فيجيب: “بالتأكيد لا. إذ لا تزال هناك أغلبية كبيرة من الأوروبيين لا يريدون خسارة أفضل أوروبا عرفناها على الإطلاق. ولكن لا بدّ من حشدهم وتحفيزهم وإقناعهم بأنّ الاتحاد يواجه بالفعل تهديدات وجودية”. ويخلص إلى القول: “إنّ ما نحتاج إليه هو مزيج من الحكومات الوطنية والمؤسّسات الأوروبية التي تعمل فيما بينها على توفير السكن للشباب، والوظائف، وفرص الحياة، والأمن، والتحوّل الأخضر، والدعم لأوكرانيا. فهل تستيقظ أوروبا قبل فوات الأوان؟”.
لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا