أنقذ وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان موسم الحجّ من محاولات إيرانية لتحويله إلى فوضى سياسية، ومنصّة لزعزعة أمن المملكة العربية السعودية بحجّة التضامن مع غزّة. كيف تمّ ذلك؟
بأمان وسلام مرّ موسم الحج في المملكة العربية السعودية، وبإشراف وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان الذي عزف عن المشاركة في قمّة الدول السبع الكبار في إيطاليا للإشراف على الحجيج وضمان سلامتهم، خصوصاً بعد محاولات تحريضية بذلت من جهات متعدّدة كانت تهدف إلى جعل مكّة والمدينة منصّة لتظاهرات سياسية ظاهر بعضها التضامن مع غزة، ومضمونها محاولات لافتعال مشاكل أو للتعبير عن مسارات اعتراضية من داخل الحرمين. كانت إيران أو مرشد الجمهورية الإسلامية أحد أهمّ الداعين إلى جانب من هذه التحرّكات من خلال دعوته إلى ما سُمّي “خطبة البراءة” وتوجيهها باسمه. وهو الأمر الذي لم يحصل بعد تحذير سعوديّ شديد اللهجة.
إخراج الحجّ من السّياسة
رفضت السعودية تحويل شعائر الحجّ إلى شعارات سياسية كان الهدف منها التأثير السلبي على الحجيج. لذا رفعت المملكة مستوى التأهّب على قاعدة أنّ هناك مليوناً و800 ألف حاجّ في هذه المنطقة والمساحة المحدّدة، وأمن جميعهم وسلامتهم في عهدتها.
أنقذ وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان موسم الحجّ من محاولات إيرانية لتحويله إلى فوضى سياسية، ومنصّة لزعزعة أمن المملكة
إثر دعوة خامنئي، حصل تواصل مباشر بين المسؤولين السعوديين والإيرانيين، وقد حمل التواصل رسالة حازمة برفض أيّ محاولة للاستثمار السياسي وأنّ المملكة ستتصدّى لأيّ فعل أو افتعال وأنّ أيّ مسّ بأمن الحجّ أو الحجيج يرقى إلى مستوى “الحرب”. عندها صدرت توجيهات إيرانية بضرورة الالتزام بالإجراءات المفروضة، وجرى التراجع عمّا سُمّي “خطبة البراءة”. وصدر موقف واضح عن السفير الإيراني في الرياض، الذي أكّد أنّ الحجّاج الإيرانيين سيكونون منضبطين ولن يكونوا مصدر إزعاج، وأنّ وصيّة طهران للحجّاج كانت اغتنام الفرصة للدعاء وقراءة القرآن، وأنّهم تمكّنوا من أداء أعمالهم بيسر وطمأنينة. ووجّه شكراً للجهات السعودية المختصّة على الجهود المضنية التي بُذلت لتيسير شؤون الحجّ.
باقري يحاصر مواقف خامنئي؟
يشير ذلك إلى الحرص الإيراني السعودي على استمرار مسار التقارب بينهما، على الرغم من بروز مواقف متباينة بين فترة وأخرى. لكن في كلّ مرّة يكون لأحد المسؤولين الإيرانيين موقف يتناول السعودية، تفعّل الدبلوماسية الإيرانية تحرّكاتها لإظهار مواقف مختلفة. وهذا حصل أكثر من مرّة من قبل وزير الخارجية بالوكالة علي باقري كني، أو سلفه الراحل حسين أمير عبد اللهيان. ومن آخر هذه المواقف كان تصريح خامنئي الذي قال فيه إنّ عمليّة طوفان الأقصى كان هدفها قطع الطريق على الدول التي تسعى إلى التطبيع. وقد فُهم من الموقف أنّه هجوم غير مباشر على المملكة. إثر ذلك تحرّك باقري كني باتجاه الرياض مطلقاً مواقف شدّد فيها على إيجابية العلاقة والحرص على الحفاظ عليها وأنّها ماضية نحو المزيد من التقارب والتقدّم.
رفعت المملكة مستوى التأهّب على قاعدة أنّ هناك مليوناً و800 ألف حاجّ في هذه المنطقة والمساحة المحدّدة، وأمن جميعهم وسلامتهم في عهدتها
يعيد موقف خامنئي هذا إلى الواجهة النقاش في أهداف عملية طوفان الأقصى لقلب موازين القوى في المنطقة، ويعيد فتح النقاش أيضاً في الاتّفاق السعودي الإيراني، الذي لم يقتصر على حدود بكين سياسياً، إنّما أصبحت الولايات المتحدة الأميركية شريكاً مباشراً وغير مباشر فيه. ففي خضمّ الحرب على غزة، ومع استمرار البحث الأميركي في أفق الوصول إلى اتفاق مع المملكة العربية السعودية، لم تكن طهران مغيّبة عن هذه المحادثات. وبحسب ما تشير المعلومات فإنّ علي باقري كني نفسه أحد أبرز المتحمسين لتحسين العلاقات مع السعودية، وجانب من المفاوضات، يتركز حول التطلعات التي تسير نحوها السعودية بما يخص الاتفاقات الاستراتيجية وعدم تحويل أيّ اتّفاق استراتيجي إلى منصّة للهجوم على أيّ طرف، مقابل عدم السماح لأيّ طرف بالهجوم عليها.
مشروع إيران… نقيض مشروع السّعوديّة
تجدر هنا العودة إلى الرؤية السعودية من وراء الاتفاق مع إيران، على الرغم من أنّ طهران لديها مشروع طموح وتوسّعي على مستوى الشرق الأوسط والمنطقة العربية بالتحديد. وهي التي دخلت دولاً عديدة وسعت على مدى سنوات إلى تطويق السعودية والخليج العربي. وليس من السهل التراجع عن مثل هذا المشروع، الذي قدّم نماذج واضحة عن مآثره في العراق، سوريا، لبنان، فلسطين واليمن. فكلّ ما نتج عنه هو انهيارات متوالية في منظومة الدول الوطنية وسقوط مؤسّساتها وذوبان الحدود فيها مع انهيارات اقتصادية وماليّة واجتماعية إلى جانب الأزمات السياسية التي لا تنتهي.
قرار وليّ العهد السعودي واضحاً لجهة الانقلاب في المسارات السياسية الخارجية بمعناها الاستراتيجي، وما ينطبق على العالم ينطبق على الإقليم والعلاقة مع إيران بالتحديد.
يشكّل هذا المشروع النقيض الأكبر للمشروع السعودي، الذي يقوم على مفهوم تعزيز الوضع الداخلي سياسياً، واقتصادياً، واستثمارياً واجتماعياً، بخلاف إيران التي تشهد صراعات داخلية كبيرة على المستوى السياسي إلى جانب الأزمات الاقتصادية المتوالية. وبعدها يرتكز المشروع السعودي على التكامل مع دول المنطقة، عربية كانت أم غير عربية، بشكل يمكن لأيّ طرف أن يكون مستفيداً على مستويات متعدّدة شريطة توفير الاستقرار بناء على مشاريع وشراكات يفترض أن يتوافر فيها الحدّ الأدنى من احترام سيادة الدول ومؤسّساتها، لا سيّما أنّ السعودية ليست كإيران ولا تتعاطى مع “كيانات موازية”.
إقرأ أيضاً: السّعوديّة 2030 – الكويت 2035: الصّعود المشترك
بكين: أجنحة إيرانيّة… ومركزيّة سعوديّة
كان قرار وليّ العهد السعودي واضحاً لجهة الانقلاب في المسارات السياسية الخارجية بمعناها الاستراتيجي، وما ينطبق على العالم ينطبق على الإقليم والعلاقة مع إيران بالتحديد. فكان انتهاج سياسة التقارب، التي جرى العمل عليها بالتكامل بين وزارة الخارجية والأمن القومي، في إطار وضع رؤية استراتيجية تتضمّن تطلّعات إلى المستقبل. لذلك اختيرت الصين كطرف ضامن للاتفاق. وقدّمت السعودية رؤية موحّدة ومشتركة بين مختلف مؤسّساتها ومراكز القرار فيها، بخلاف إيران التي تبرز فيها تناقضات عديدة بين الحرس الثوري من جهة، ووزارة الخارجية من جهة أخرى، وبينهما المرشد أو مراكز قوى أخرى.
*”البراءة من المشركين” هو مصطلح مطاط أفتى به الإمام الخميني وألزم الحجاج الإيرانيين برفعه وترداده خلال مسيرات أثناء تأدية فريضة الحج، والذي كان يرى وجوب تحويله الى “فريضة سياسية”. وبعد اتصالات دبلوماسية سعودية حذرت من مغبة استغلال الحج، انحصرت مراسم البراءة في إحدى الخيام بـ”منى”.
*غداً وقائع من مفاوضات بكين