في وقت قياسي أعلنت دول كثيرة اعترافها بدولة فلسطين. هناك دول أخرى في طريقها إلى القيام بذلك. لكنّ ذلك الاعتراف على أهميّته يظلّ حبراً على ورق ما لم تقُم تلك الدولة على الأرض. لن تسمح إسرائيل بوقوع تحوّل إيجابي من ذلك النوع في مسار علاقتها بالشعب الفلسطيني. ذلك ما سيزيد من أزمتها. فبعد قرار المدّعي العامّ في المحكمة الجنائية الدولية الذي طالب فيه بمحاكمة رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو باعتباره مجرم حرب حُصرت إسرائيل في الزاوية المميتة كما يُقال. حتى الدول الأوروبية التي وقفت معها في حربها على أهالي غزة لم تعد قادرة على الاستمرار في دعم حربها التي انتقلت من الردّ على ما جرى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) إلى الإبادة الجماعية.
أطراف دولية كثيرة باتت تتفهّم ضرورة قيام الدولة الفلسطينية بناء على حلّ الدولتين الذي كانت إسرائيل ترفضه باستمرار من غير أن تُجابَه بموقف دولي رادع. ولأنّ ذلك الحلّ يستند إلى قرارات دولية كان مجلس الأمن قد أصدرها في مناسبات مختلفة وكان جزءاً من حزمة المبادئ التي تضمّنها اتفاق أوسلو فإنّ إسرائيل قد خالفت القانون الدولي بموقفها الرافض بشدّة لتنفيذه. ليس غريباً على إسرائيل ذلك الموقف. فهي ترى في قيام تلك الدولة خطراً على وجودها. الغريب حقّاً أنّ القيادات الفلسطينية أهملت ولا تزال تهمل ذلك الحلّ باعتباره شرط حياة، من غيره سيطول الزمن بالسلطة الفلسطينية في رام الله إلى أن تتحلّل وتتعفّن وتغرق في مشكلاتها ثمّ تسقط تلقائياً.
أطراف دولية كثيرة باتت تتفهّم ضرورة قيام الدولة الفلسطينية بناء على حلّ الدولتين الذي كانت إسرائيل ترفضه باستمرار
إهمال عربيّ فلسطينيّ مزدوج
لا أحد في إمكانه أن يجرؤ فيصرّح بحقيقة أنّ الطبقة السياسية الفلسطينية عاجزة عن إدارة دولة وطنية على أراضي ما قبل 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. تحرجها بيانات القمم العربية التي لم تخرج بعيداً عن نطاق الجملة التقليدية المكرورة. تلك الجملة لم يسعَ أحد إلى تفعيلها دوليّاً على أسس قانونية أو على الأقلّ التشاور مع السلطة الفلسطينية في شأنها.
كما أنّ الفلسطينيين الذين دأبوا على حضور القمم العربية لم يُعرف عنهم أنّهم ضغطوا في اتجاه البحث عن مخرج من المضيق الذي وقعوا فيه. كان هناك دائماً نوع من ذرّ الرماد في العيون تمويهاً وتضليلاً وسرقةً للوقت.
لكن مَن يسرق مَن؟
تلك متاهة تُضاف إلى سلسلة المتاهات الفلسطينية التي حاولت حماس وفق أجندتها تفكيك جزء من ألغازها من خلال مغامرة السابع من أكتوبر التي كان واضحاً أنّها لن تمرّ من غير ردّ مجنون. لجأت حماس إلى تنفيذ خطة بديلة مستغلّة الفراغ العربي الفلسطيني الذي كان نتيجة طبيعية لعقود من الإهمال المزدوج للقوانين الدولية.
لا أحد في إمكانه أن يجرؤ فيصرّح بحقيقة أنّ الطبقة السياسية الفلسطينية غير راغبة في قيام دولة وطنية على أراضي ما قبل 1967 وعاصمتها القدس الشرقية
انقسام فلسطينيّ أضرّ بالقضيّة
ما لن يكون مقبولاً بالنسبة للدول التي اعترفت بدولة فلسطين أن يرتبك الفلسطينيون في مواجهة حلّ الدولتين كما لو أنّهم فوجئوا به. غير أنّ أوضاعهم الداخلية لا تؤهّلهم لاتّخاذ موقف موحّد. ذلك لأنّ انقسامهم الداخلي وضع قضيّتهم المصيرية على الرفّ في ظلّ توزّعهم عقائدياً، وهو ما حوّل نضالهم الوطني إلى مجموعة من المصالح المتضاربة.
وإذا ما كانت ظاهرة “حركة حماس” من وجهة نظر الآخرين أحد تجلّيات الكفاح الوطني الفلسطيني من أجل تقرير المصير، فإنّ الواقع السياسي الفلسطيني يقول غير ذلك. لقد احتكرت حماس الحكم في غزة بعدما فصلتها عن فلسطين. فكانت غزة في مكان وفلسطين في مكان آخر. وهو ما صنع كيانين سياسيَّين متعارضين ومختلفين على كلّ شيء. وما كانت تفكّر فيه قيادة حماس حين فاجأت العالم بمغامرتها لم يكن محطّ إجماع فلسطيني. ذلك لأنّ قيادة حماس كانت تسعى دائماً إلى أن يكون لها موقع في المفاوضات مع إسرائيل دون الانخراط في منظمة التحرير، وهو ما يكون بمنزلة اعتراف إسرائيلي ثمّ أميركي بها.
الولاء للعقيدة أم الولاء لفلسطين؟
من المؤكّد أنّ إسرائيل لن تشعر بالانزعاج في مواجهة المواقف الدولية الداعمة لقيام الدولة الفلسطينية. على الأقلّ إعلامياً. هناك خبرة لدى الإسرائيليين لا يستهان بها في التعامل مع ردود الفعل على الجرائم التي هي جزء من سياستهم في التعامل مع الفلسطينيين. غير أنّ الوضع الفلسطيني الممزّق يمكن أن يقوّي الموقف الإسرائيلي ويحرج الكثير من الدول الراغبة في أن يخرج الفلسطينيون من متاهاتهم.
ما لن يكون مقبولاً بالنسبة للدول التي اعترفت بدولة فلسطين أن يرتبك الفلسطينيون في مواجهة حلّ الدولتين كما لو أنّهم فوجئوا به
فإذا كان الفلسطينيون راغبين في إقامة دولتهم الوطنية المستقلّة فهل في إمكانهم أن يقدّموا تصوّراً عن نوع دولتهم المستقبلية؟ وهل هي دولة مدنية أم عبارة عن ولاية تابعة للوليّ الفقيه في إيران، كما صار واضحاً من علاقة حركة حماس المتينة بإيران؟
ذلك ما يقرّره الشعب الفلسطيني الذي كان يوماً ما قادراً على رؤية مصيره بعيون مناضليه الكبار الذين كانت فلسطين حاضرة في عقولهم وقلوبهم بكلّ نقاء ونزاهة. كانت فلسطين عنواناً لوجودهم، وهي عقيدتهم. وهو ما نفتقده اليوم في الواقع الفلسطيني حيث صارت العقائد أكبر من فلسطين. ذلك صراع تسعى إيران من خلاله إلى إقناع العالم بكفاءتها في مجال إدارة ملفّات شرق أوسطية كثيرة.
إقرأ أيضاً: مأزق العداء لإسرائيل