بعد ساعة على بدء صدور نتائج الانتخابات الأوروبيّة أعلن إيمانويل ماكرون حلّ الجمعيّة الوطنيّة (البرلمان). نزل هذا القرار كالصاعقة على الفرنسيين سياسيين ومراقبين ومواطنين عاديّين. وُصف بالزلزال السياسيّ. أدخل فرنسا في المجهول. من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، على ماكرون وحلفائه الحصول على الأغلبية في البرلمان الجديد. وهو ما يهدّد بدخول فرنسا في أزمة حكم في وقت تواجه فيه البلاد أزمات داخليّة اقتصاديّة واجتماعيّة، واستحقاقات أوروبيّة أبرزها مواجهة الخطر الروسي المتعاظم، وتداعيات حرب غزّة على مصالحها في الشرق الأوسط، والقلق ممّا ستُفضي إليه الانتخابات الأميركيّة المقبلة.
السّلاح النّوويّ الدّستوريّ
“صعود الوطنيين والديماغوجيين يشكّل خطراً على الأمّة، وأيضاً على أوروبا”. بهذه الكلمات توجّه ماكرون إلى الفرنسيين. وأضاف: “لهذا السبب، وبعدما عدت إلى الاستشارات المتعلّقة بالمادة 12 من الدستور، قرّرت أن أعطيكم اختيار مستقبلنا البرلمانيّ من خلال التصويت”. وتابع يقول: “إذاً سأقوم بحلّ الجمعيّة الوطنيّة”. إنّه “السلاح النوويّ الدستوريّ”، كما قال أحد كتّاب صحيفة “لوفيغارو”. يُستعمل للمرّة السادسة في الجمهوريّة الخامسة.
المرّة الأولى جرى استعماله في 1962 حين حلّ شارل ديغول الجمعيّة الوطنيّة لفرض انتخابات الرئيس مباشرة من الشعب، ونجح. في 1968 حلّ ديغول البرلمان مرّة ثانية إثر التظاهرات الطلابية الشهيرة، ونجح في استعادة شرعيّته الشعبيّة. المرّة الثالثة قام بها فرانسوا ميتران إثر انتخابه في 1981 بهدف قلب الأغلبية من اليمين إلى اليسار، ونجح. وكرّر الشيء ذاته في 1988 إثر انتخابه لولاية ثانية. ونجح أيضاً. المرّة الخامسة كانت بقرار من جاك شيراك الذي أراد انتخابات تشريعيّة مبكرة في 1997 خشية فوز الحزب الاشتراكي بها في 1998. لم يحالفه الحظّ. ربح الاشتراكيون الانتخابات. وقضى الرئيس اليمينيّ ولايته الثانية في “مساكنة” سياسيّة مع رئيس حكومة اشتراكيّ. لهذا السبب غالبية المراقبين يقارنون بين قرار ماكرون وقرار شيراك، إذ ما من مؤشّرات إلى إمكانية فوزه بالغالبيّة.
بحسب المصادر التي تناقلتها الصحف الفرنسيّة، القرار لم يكن ارتجالياً منذ أكثر من شهر أطلق الرئيس نقاشاً داخل دائرة مصغّرة من المستشارين
الفرنسيّون يرفضون ماكرون
بحسب المصادر التي تناقلتها الصحف الفرنسيّة، قرار ماكرون لم يكن ارتجالياً. منذ أكثر من شهر أطلق الرئيس نقاشاً داخل دائرة مصغّرة من المستشارين حول الخطوات التالية للانتخابات الأوروبيّة. فقبل أسابيع كانت كلّ الإحصاءات تشير إلى تقدّم واضح لـ “التجمّع الوطنيّ” بفارق كبير عن “النهضة”. أقيمت مناظرة تلفزيونيّة مباشرة بين غبريال أتال وجوردان بارديللا بهدف تقليص الفارق. تفوّق أتال في الملفّات. وتقدّم بارديللا في الاستطلاعات! بعدها حاول ماكرون استدراج مارين لوبان إلى مناظرة، علّه ينجح. لم تسقط لوبان في “الفخّ”. عِلماً أنّ بعض المراقبين توقّعوا تقدّما أكبر لـ “التجمّع الوطنيّ” لو جرت المناظرة. “يكفي أن يظهر ماكرون على الشاشة حتى يتقدّم حزب لوبان في استطلاعات الرأي”، قال أحد المحلّلين!
تصويت عقابيّ
لا شكّ أنّ عدداً كبيراً من الأصوات الذي حصل عليه “التجمّع الوطنيّ” أراد معاقبة ماكرون على سياساته، ونذكّر بأبرزها:
1- تراجع القوّة الشرائيّة لدى الفرنسيين وتضاعف فاتورة الكهرباء والمحروقات. علماً أنّ سياسات ماكرون ليست وحدها المسؤولة. إنّما أيضاً الحرب في أوكرانيا والركود الاقتصاديّ خلال وبعد جائحة كورونا.
2- تعديل قانون سنّ التقاعد. وهو إصلاح بدأ الكلام عنه منذ تسعينيات القرن الماضي. بيد أنّ أحداً من الرؤساء السابقين لم يجرؤ عليه خشية تراجع شعبيّته وخسارة حزبه الانتخابات.
3- نزول المزارعين قبل أشهر إلى الشارع مندّدين بـ “السياسات الزراعيّة المشتركة” في الاتحاد الأوروبيّ والانتقال إلى الزراعة البيئيّة. فهم يعتبرون أنّ هذه السياسات أرهقتهم وجعلتهم يرزحون تحت أعباء ديون كبيرة.
4- عدم رضى الفرنسيين على قانون الهجرة الذي أعدّه وزير الداخليّة جيرار دارمانين وأقرّته الجمعيّة الوطنيّة في بداية 2024.
بعد ساعة على بدء صدور نتائج الانتخابات الأوروبيّة أعلن إيمانويل ماكرون حلّ الجمعيّة الوطنيّة (البرلمان). نزل هذا القرار كالصاعقة على الفرنسيين
السؤال ماذا بعد؟
الزلزال الذي أحدثه قرار ماكرون أدى الى تفجير حزبين.
لقد تفجّر الحزب الجمهوريّ، وريث الديغوليّة. فقد أدى إعلان إيريك سيوتي التحالف مع “التجمّع الوطنيّ” الى صراع داخل الحزب. بعد مطالبة قياداته سيوتي بالاستقالة، اجتمع المكتب السياسيّ واتّخذ قرار إقالته وطرده من الحزب. بيد أن القضاء علّق القرار وأبقى سيوتي في منصبه. ما شجّع هذا الأخير على الاستمرار في تحالفه مع لوبان ومعه بعض النواب. بينما الباقون سيخوضون الانتخابات منفردين للحفاظ على “استقلالية” اليمين، كما قالوا.
حزب “Reconquête” اليمينيّ المتطرّف هو أيضاً تفجّر من الداخل. فقد طرد رئيسه إيريك زِمور ماريون مارشال، التي قادت الانتخابات الأوروبيّة، متّهماً إياها بالعودة الى حزب العائلة (فهي ابنة شقيقة مارين لوبان).
ماكرون بين جبهتين
“حساب الحقل غير حساب البيدر”، قول ينطبق على مغامرة ماكرون بحل الجمعيّة الوطنيّة.
فهو اعتقد أن بإمكانه عقد تحالف مع اليمين خاصّة وأن صقور في حكومته (دارمانين ولومير) آتون من الحزب الجمهوريّ. كما عوّل على التعاون مع اليسار المعتدل (الحزب الاشتراكي – الساحة العامّة والحزب الاشتراكي) معوّلاً على خوفهم من حزب لوبان وعبثيّة جان لوك ميلانشون. بيد أن ما حدث كان العكس. فقد قامت جبهتين واحدة الى اليمين والأخرى الى اليسار وهو الأضعف بينهما.
على اليمين قامت جبهة تضمّ “التجمّع الوطنيّ” والحزب الجمهوريّ “تيار إيريك سيوتي”. وربّما ستنضم إليها ماريون مارشال ومن معها من حزب “Reconquête”.وهي متقدّمة بـ 32% من الأصوات.
على اليسار تشكّلت “الجبهة الشعبيّة الجديدة” وتضمّ “فرنسا الابيّة” والحزب الاشتراكيّ والحزب الشيوعيّ وحزب الخضر. وتعطيها استطلاعات الرأي 25% من الأصوات.
إقرأ أيضاً: لوبان تتقدّم في انتخابات أوروبا: هل تهزم ماكرون؟
أما تحالف حزب “النهضة” الذي يضمّ حزبي الوسط “موديم” بزعامة فرانسوا بايرو و”آفاق” برئاسة إدوار فيليب. وتعطيه استطلاعات الرأي 19% من الأصوات.
ربّما سيتبدّل مزاج الفرنسيين بسبب حملة التخويف التي يقودها حزب النهضة من التيارين المتطرّفين وتتبدّل معه استطلاعات الرأي. ولكن المؤكّد أن تحالف “النهضة” لن يحصل على الأغلبية التي تخوّله تشكيل الحكومة العتيدة. هل سيضطر ماكرون بعد 7 تموز مشاركة السلطة مع جوردان بارديللا؟ الاحتمال كبير. ما يطرح السؤال الأكبر: هل سيسلّم مفاتيح قصر الاليزيه في 2027 الى مارين لوبان؟ الاحتمال أصبح كبيراً جداً.
لمتابعة الكاتب على X: