بين 6 و9 حزيران يختار الأوروبيون نوّابهم. إنّها الانتخابات الأكثر إشكاليّة في تاريخ الاتحاد الأوروبيّ منذ تأسيسه، بسبب تقدّم الأحزاب اليمينيّة المتطرّفة في أكبر دوله. وهي تيّارات “شوفينيّة” تراوح طروحاتها بين تعديل في بنية الاتحاد الأوروبيّ ورفضه كلّياً. وهو ما يدفع البعض إلى الشعور بالخطر على مستقبل الاتّحاد الذي تأسّس عقب الحرب العالميّة الثانية بهدف تفادي حرب ثالثة. يتزامن هذا الخطر مع الحرب الأوكرانية التي تهدّد فعليّاً باندلاع حرب عالميّة ثالثة!
400 مليون ناخب و720 نائباً
في 6 حزيران بدأ الناخبون الأوروبيون الـ400 مليون التوجّه إلى صناديق الاقتراع لانتخاب أعضاء البرلمان الأوروبيّ الـ 720 لولاية تستمرّ 5 سنوات. وهي انتخابات تعتمد النسبيّة الفعليّة، وليست على الطريقة اللبنانيّة. يتوزّع النواب على دول الاتّحاد الـ27 بحسب عدد السكان. ألمانيا وفرنسا لهما الحصّة الكبرى. الأولى تنتخب 96 نائباً، والثانية 81. ولا يقلّ عدد النواب في أصغر الدول مثل جزيرتَي قبرص ومالطا عن 6 نوّاب. ويتّخذ البرلمان الأوروبيّ مقرّاً له مدينة استراسبورغ الفرنسيّة الواقعة على حدود ألمانيا والمحمّلة بالثقافة الألمانيّة.
انتخابات وذكرى
تتزامن الانتخابات الأوروبيّة العاشرة مع الذكرى الثمانين لإنزال النورماندي. وهو الإنزال العسكري للحلفاء الذي كان بداية تحرير فرنسا وبداية الخسارة الفعليّة لألمانيا النازيّة للحرب العالميّة. وهي احتفاليّة أرادها ماكرون كبيرة لإيصال رسالتين:
– الأولى للخارج، وتحديداً إلى روسيا التي كانت حليفاً في الحرب العالميّة الثانية، بينما هي اليوم العدوّ الذي يهدّد أوروبا وأمنها واستقرارها. لذلك لم توجّه دعوة إلى بوتين للمشاركة في الاحتفال. في المقابل حلّ الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي ضيفاً مميّزاً في الاحتفاليّة التاريخية.
– الرسالة الثانيّة موجّهة للأوروبيين والفرنسيين لتذكيرهم بأهميّة الاتحاد الأوروبيّ لأمن أوروبا ودوله.
في 6 حزيران بدأ الناخبون الأوروبيون الـ400 مليون التوجّه إلى صناديق الاقتراع لانتخاب أعضاء البرلمان الأوروبيّ
انتخابات تهدّد الاتّحاد؟!
إذا كان سبب الرسالة الأولى واضحاً وطبيعيّاً فلماذا الرسالة الثانية؟
السبب بكلّ بساطة هو تقدّم التيارات اليمينيّة المتطرّفة التي تطرح شعارات “شوفينيّة” تهدّد صيغة الاتّحاد الأوروبيّ الحاليّة وحتى وجوده. بحسب استطلاعات الرأي سيفوز حزب “البديل لألمانيا” اليمينيّ المتطرّف بـ 14% من الأصوات. وفي إيطاليا سيحرز حزب “الأخوّة الإيطاليّة” الحاكم 27% من الأصوات. وفي إسبانيا سيحصل حزب “فوكس” على 10%، وكذلك “حزب من أجل الحرّيّة” الهولندي. تجدر الإشارة إلى أنّ التكتّلات في البرلمان الأوروبيّ تكون في إطار أحزاب أوروبيّة لا وطنيّة.
حزب لوبان في الطليعة
التقدّم الأبرز لليمين المتطرّف هو في فرنسا. فمنذ بدء الحملة الانتخابيّة كان تيّار لوبان يتقدّم بحوالي عشر نقاط على حزب “النهضة” الحاكم. وراح هذا الفارق يزداد حتى بلغ 18 نقطة عشيّة الانتخابات. فبحسب استطلاع أجرته شركة IFOP ونشرته صحيفة “لوفيغارو”، يتقدّم “التجمّع الوطنيّ” بـ33.5%. وكان قد وصل إلى 34.5% بعد المناظرة التلفزيونيّة التي جمعت رئيس الوزراء غبريال أتال ورئيس “التجمّع الوطنيّ” جوردان بارديللا. في المقابل تراجع “النهضة” من 21% في شهر آذار إلى 15.5%. كما سيحصل الحزب الاشتراكي بحسب الاستطلاع على 14% وحزب اليمين التقليديّ على 7%.
للمرّة الأولى حزب لوبان في الطليعة. لماذا؟
1- تراجع شعبيّة ماكرون بسبب إخفاقه في إدارة العديد من الملفّات الاقتصاديّة الاجتماعيّة وتراجع القوّة الشرائية لدى الفرنسيين، على الرغم من أنّ جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا تتحمّلان جزءاً من المسؤوليّة عن تردّي الأوضاع الاقتصاديّة.
تتزامن الانتخابات الأوروبيّة العاشرة مع الذكرى الثمانين لإنزال النورماندي
2- تراجع الأحزاب التقليديّة اليمينيّة واليساريّة في فرنسا وتراجع الأفكار الليبراليّة والاشتراكيّة، كما يقول الباحث وأستاذ الجيوبوليتيك جوزيف مايْلا. لم تعد هذه الأحزاب والأفكار تجذب الشباب ولا تجسّد طموحاتهم. في 2017 استفاد ماكرون من هذا الوضع ليدخل قصر الإليزيه ليكون أصغر رئيس في تاريخ الجمهوريّة الخامسة. اليوم هناك شاب أصغر منه يستفيد من هذا الواقع. إنّه جوردان بارديللا الذي اختارته مارين لوبان لقيادة حزبها ولمنافسة حزب ماكرون الشابّ، ونجحت. فالشابّ البالغ من العمر 28 عاماً صاحب “كاريزما تقنيّة” كما يصفها مايْلا.
بارديللا… يهزم ماكرون؟
3- نجاح بارديللا في تحويل الانتخابات الأوروبيّة إلى استفتاء وتصويت على سياسات ماكرون الفرنسيّة. وهو ما جعل منها تصويتاً عقابياً لهذا الأخير. وهي ليست المرّة الأولى. ففي 2003 صوّت الفرنسيون ضدّ الدستور الأوروبيّ لمعاقبة جاك شيراك على سياساته الداخليّة في ولايته الثانية. لذلك طالب بارديللا، في حال فوز حزبه في الانتخابات، بحلّ الجمعيّة الوطنيّة والذهاب إلى انتخابات مبكّرة.
4- نجاح “التجمّع الوطني” في تبديل طروحاته الأوروبيّة خلال العشر سنوات الأخيرة. فهو غيّر اسمه (كان “الجبهة الوطنيّة”). كما تبدّل شعاره للانتخابات الأوروبيّة من “لا لبروكسيل، نعم لفرنسا” في 2014، إلى “فرنسا تعود، أوروبا تحيا من جديد” في 2024.
5- طرح “التجمّع الوطنيّ” شعارات حول الهويّة الفرنسيّة وقيم الجمهوريّة يلقى صدى لدى الفرنسيين الذين أصبحوا “يلاحظون” تزايد الوجود الإسلامي في المجتمع الفرنسيّ، ويخشون استمرار تدفّق المهاجرين، وغالبيّتهم مسلمون من إفريقيا. وهذه هي الحال في دول أوروبيّة أخرى مثل ألمانيا وبريطانيا، كما يقول مايْلا. فمع صعود الإسلام السياسيّ منذ نهاية القرن الماضي، نشأ نوع من الإسلاموفوبيا لدى الفرنسيين (وفي أوروبا عموماً). وتحوّلت سياسة الأحزاب الفرنسيّة من محاولة استمالة المسلمين انتخابياً، إلى اتّخاذ تدابير بحقّهم لاستمالة الناخب الفرنسيّ الأصل والأصول. وآخر هذه التدابير منع ارتداء العباءة في المدارس ومنع الحجاب في الألعاب الأولمبيّة المقبلة.
التقدّم الأبرز لليمين المتطرّف هو في فرنسا فمنذ بدء الحملة الانتخابيّة كان تيّار لوبان يتقدّم بحوالي عشر نقاط على حزب “النهضة” الحاكم
فهل الانتخابات الأوروبيّة اليوم تمهيديّة للانتخابات الرئاسيّة في 2027؟
إقرأ أيضاً: كاليدونيا: مستعمرة فرنسيّة تريد الاستقلال
البعض يعتبر ذلك. وقد تكرّر السؤال على بارديللا: هل ستكون رئيس وزراء فرنسا المقبل بعد فوز مارين لوبان في الانتخابات؟ ولكن من المبكر الجزم. حزب ماكرون شابّ، قادر على مواكبة التبدّلات في المزاج الفرنسيّ. وحسابات الفرنسيين في اختيار رئيسهم تختلف عن حساباتهم في اختيار ممثّليهم في الاتحاد الأوروبيّ.
لمتابعة الكاتب على X: