حقّقت الصين في العقود الثلاثة الأخيرة نموّاً جعل منها صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية. مشكلة أميركا ليست فقط أرقام النموّ الصيني واختراق بكين أكثر من بقعة جغرافية استراتيجية كانت تحت السيطرة الأميركية، بل تراجع النفوذ والهيمنة الاقتصادية الأميركية في جنوب شرق آسيا والمحيط الهادىء والعديد من القلاع الأميركية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، بما ينبىء باختلالات كبيرة في معادلات التوازن التجاري لمصلحة الصين ستكون لها حتماً ارتداداتها السياسية والأمنيّة.
قراءة هذه التحوّلات هي التي تدفع تركيا وغيرها من الدول الإقليمية لمراجعة سياساتها وخططها وربّما تحالفاتها وشكل علاقاتها مع الصين.
تقول الأرقام التي تسجّلها الصين في حراكها التجاري إنّه سيتعيّن على واشنطن أن تتعامل مع بكين القويّة والغنيّة في العقدين المقبلين، وإنّه لن يكفيها تحريك الورقة الهندية أو إعادة برمجة وتفعيل الورقة الأوروبية. فالصين تريد أن تقلّد أميركا في تمدّدها من خلال بناء منظومة علاقات وبرامج تعاون وتنسيق تجعلها أقوى بالآخرين أيضاً. فلماذا تفرّط تركيا بفرص تعاون استراتيجي مع قوّة صاعدة تعطيها ما تريد بدلاً من مواصلة الرهان على الوعود الغربية؟
الرحلة من الغرب إلى الشرق
أنهى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في منتصف أيار عام 2017 زيارة تاريخية للصين قاصداً من هناك واشنطن في إشارة إلى وجود رغبة لدى تركيا بتحريك الورقة الصينية لأخذ ما تريده من أميركا. لم تعبأ إدارة دونالد ترامب كثيراً بالرسالة التركية وقتها، وعوّلت أكثر على التباعد التركي الصيني واستحالة تحسّن العلاقات بعد أزمة إقليم شينغيانغ والأقليّة التركية المسلمة في الصين عام 2009، متجاهلة توقيع اتفاقية التعاون الاستراتيجي بينهما عام 2010، ثمّ تحرّك تركيا لتسمية عام 2012 العام الصيني ومدى الرغبة المشتركة لرفع أرقام التبادل التجاري بين البلدين وإيصالها إلى 45 مليار دولار في عام 2024.
لم تعد أنقرة تعبأ كثيراً بتعريض علاقاتها مع الغرب لخطر الانفتاح على الصين بعد نجاح تجربة التقارب مع روسيا
هل قرّرت أنقرة التخلّي عن استراتيجية تبنّي الغرب لعقود طويلة ومقايضته بالشرق الآسيوي الصيني الذي انتقدته وابتعدت عنه لأسباب أيديولوجية وقومية وسياسية يتقدّمها ملفّ الأقلّية الإيغوريّة في إقليم سنجان؟
ما الذي ستفعله واشنطن والعواصم الأوروبية أمام تفعيل سيناريو تقارب تركي صيني استراتيجي في ملفّات اقتصادية وسياسية إقليمية تشمل جبهات ومناطق تقع داخل النفوذ الغربي مثل الشرق الأوسط والقوقاز والبلقان وجنوب شرق أوروبا؟ ما الذي ستفعله أميركا إذا ما قرّرت أنقرة الانفتاح أكثر على منظمة شنغهاي وتكتّل البريكس في إطار خطط تقارب ثلاثي تركي روسيّ صينيّ؟
قرّرت تركيا أخيراً الجمع بين سيادة أوكرانيا على أراضيها وانتقاد الغزو الروسي للقرم، وبين سيادة الصين على أراضيها مع الإشارة إلى دور الأقليّة الإيغورية في إقليم سنجان في تشكيل جسر التقريب بين أنقرة وبكين. تقول المعادلة التركية الجديدة إنّ المصالح التجارية مع الصين “إن” (in)، وإنّ شيوعية الصين “أوت” (out). هي تبحث عن مصالحها الاقتصادية في هذه الظروف المالية الصعبة التي تمرّ بها.
المؤكّد أنّ خطوة تفعيل الممرّ التجاري الهندي الذي سيربط الهند بالشرق الأوسط ويقرّبها من أوروبا، ويجمع بين مصالح واشنطن ونيودلهي وتل أبيب وبعض العواصم الأوروبية والإقليمية، والتحضير لطبخة أميركية تطال مباشرة مصالح تركيا الاقتصادية، هما اللذان أقلقا قيادة حزب العدالة والتنمية ودفعاها للبحث عن وسائل الردّ الذي لن يتوقّف عند التقارب والتنسيق مع روسيا أو يكتفي بالمشاريع التي نفّذت مع الصين، بل يهدف لرفع مستوى التعاون على أكثر من جبهة تلتقي فيها مصالح هذا الثلاثي .
طبعاً كان لافتاً توقيت زيارة وزير الخارجية التركي هاقان فيدان لبكين وتزامنها مع التصعيد في أكثر من ملفّ إقليمي ودولي، ومن بينها التوتّر الأميركي الصيني على جبهة تايوان. وكأنّ أنقرة تقول إنّ ما يعنيها هو حماية مصالحها أوّلاً، حتى لو كان ذلك يعرّض تحالفاتها الغربية للخطر، وإنّها لن تتوقّف كثيراً عند الصعود الصيني العالمي على حساب القوى الاستعمارية الكبرى في القرن الماضي ودخول بكين حلبة المنافسة.
يقلق أنقرة توقيع الصين وإيران على وثيقة تعاون متعدّدة الأهداف لمدّة 25 عاماً بقيمة 400 مليار دولار
الصين وتركيا: تطوير الشراكة
تركيا الشريك الأوّل للصين في آسيا والثالث في العالم. لكنّها تتطلّع إلى المزيد من الاستثمارات الصينية عندها، وإلى شراكة جديدة في الممرّات التجارية الإقليمية.
العقبة الأهمّ اليوم هي الخلل الحاصل في الميزان التجاري بفارق أضعاف كبيرة لمصلحة بكين، وكانت الصين تعهّدت قبل 3 أعوام بسدّ هذه الفجوة في إطار صفقة تسهيل عبور حاملة الطائرات الأوكرانية العملاقة “فوجيان” التي اشترتها الصين عبر المضائق التركية، مقابل تسهيل زيارة مليون سائح صيني لتركيا في العام دون أن يتمّ الالتزام بذلك.
زيارة فيدان لتركستان الشرقية والمواقف التي أطلقها من هناك حول وحدة الأراضي الصينية وسيادتها، يعني الاستعداد التركي لمزيد من التنسيق في موضوع الأقلّية التركية في الصين. “فأتراك الصين هم جسر تواصل بين أنقرة وبكين”، كما يردّد فيدان، وهو عكس ما كان يقال قبل سنوات عن سياسة القمع والتذويب المعتمدة ضدّ الأقلّية التركية هناك. خصوصية المرحلة في العلاقات البراغماتية التركية الصينية اليوم هي الشراكة في مكان والمنافسة في مكان آخر، والفصل بين المصالح وبين الملفّات الخلافية التي تباعد بين البلدين.
قد تشكّل زيارة فيدان لبكين أهمّ مؤشّر إلى التحوّل في سياسة تركيا الخارجية للعام الحالي .فالصين اليوم بين الكبار في تفعيل خطط وبرامج الادّخار والاستثمارات العملاقة وتجهيز البنى التحتية وإبراز مهارات لوجستية يقودها جيل الشباب الأكثر حركة وديناميكية بين العديد من الدول المتقدّمة في العالم، وهو ما تبحث عنه تركيا لمواصلة أهدافها الإقليمية.
بكين هي اليوم الكتلة الزاحفة بالتنسيق مع روسيا باتجاه الأورو – آسيوية من خلال منافسة ناجحة مع الغرب. فلِمَ تفرّط أنقرة بعلاقة استراتيجية معهما عندما يتردّد الغرب حيالها وترى إيران تستقوي وتصعّد إقليمياً على حسابها؟
زيارة فيدان لتركستان الشرقية والمواقف التي أطلقها من هناك حول وحدة الأراضي الصينية وسيادتها يعني الاستعداد التركي لمزيد من التنسيق
بين أهداف الانفتاح التركي الأخير على بغداد وتحريك عجلة خطّ التنمية العراقي العابر للقارّات، تسهيل التقائه مع خطّ الحرير الصيني في إطار مبادرة الحزام والطريق بدعم وتشجيع روسيَّين. هدف أنقرة هنا هو شراكة إقليمية جديدة في مواجهة الرهان على المشروع الأميركي الهندي الذي يتركها أمام ورطة الخيارات الصعبة.
تتطلّع بكين صوب المزيد من التمدّد والانتشار الاستراتيجي في المنطقة على حساب تراجع النفوذ الأميركي، وبمقدور تركيا أن تسهّل لها ذلك إذا ما حصلت على ما تريده من بكين. وهذا من بين ما قاد هاقان فيدان إلى العاصمة الصينية اليوم.
ترغب أنقرة في توسيع رقعة علاقاتها التجارية مع الصين، لكنّها تريد أيضاً موازنة الميزان التجاري الذي يميل بنسبة كبيرة إلى بكين.
يقلق أنقرة توقيع الصين وإيران على وثيقة تعاون متعدّدة الأهداف لمدّة 25 عاماً بقيمة 400 مليار دولار، وارتدادات ذلك على مصالحها الإقليمية التي تستدعي الردّ السريع لموازنة خطوة استراتيجية من هذا النوع. وصلت أنقرة لقناعة بأنّ أفضل خطط الردّ هي الانفتاح على الصين نفسها. تدرك بكين أيضاً التي تحتاج إلى فرص استراتيجية جديدة لتوسيع رقعة انتشارها، أنّ تركيا فرصة إقليمية لا تعوّض، خصوصاً أنّ تحالفها مع إيران يجلس فوق فوهة بركان ثائر.
تحتاج الصين إلى التنسيق مع اللاعب التركي لأكثر من سبب، مثل الدور التركي الإقليمي الصاعد وموقع تركيا الجيوسياسي ووجود أنقرة أمام أكثر من طاولة اقتصادية وأمنيّة وسياسية للصين مصالح فيها، وهو ما يكفي لإقلاق إيران وإغضاب واشنطن.
قد تشكّل زيارة فيدان لبكين أهمّ مؤشّر إلى التحوّل في سياسة تركيا الخارجية للعام الحالي
خيبة الأمل التركية حيال السياسات الغربية التي تحوّلت مع الوقت إلى عبء استراتيجي نتيجة عدم حصول تركيا إلا على الوعود بالاستجابة في ملفّات سياسية واقتصادية وأمنيّة تعنيها، ازدادت عندما تضاربت المصالح في سوريا والعراق والملفّ الفلسطيني وخطط الممرّات التجارية الإقليمية.
إقرأ أيضاً: تركيا: أصابع المافيا في المطبخ السّياسيّ؟
لم تعد أنقرة تعبأ كثيراً بتعريض علاقاتها مع الغرب لخطر الانفتاح على الصين بعد نجاح تجربة التقارب مع روسيا. لا تريد أيضاً التفريط بالعروض الصينية وسط الظروف الصعبة التي تعيشها. نحن نتحدّث عن الاقتصاد الثاني في العالم الذي يغري تركيا بالمساهمة في تجاوز أزماتها الاقتصادية وبزيادة الاستثمار فيها وبناء شراكة ممتازة. فهل يترجم ذلك إلى تعاون سياسي وأمنيّ كما حدث مع موسكو؟
لمتابعة الكاتب على X: