ماذا حصل في الأيام الأخيرة في تركيا؟ هل حقّاً شهدت البلاد انقلاباً؟
تحمل تصريحات القيادات السياسية والحزبية التركية في الحكم والمعارضة وتسريبات إعلامية عديدة أكثر من تساؤل حول أسباب النبرة التصعيدية والتحذيرية التي أتت على لسان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وحليفه دولت بهشلي زعيم “حزب الحركة القومية” تجاه “بعض من تسوّل له نفسه تقديم مصالحه وحساباته الشخصية الضيّقة على مصالح الدولة والشعب التركي”.
ما الذي دفع الرئيس التركي للإعلان أمام الكتلة البرلمانية لحزبه أنّه “سيتمّ التصدّي لمحاولات الوصاية البيروقراطية وستتمّ محاسبة كلّ من يتجاوز القانون أو يرتكب أخطاء عمداً أمام القضاء”؟ وما الذي قاد دولت بهشلي للحديث عن وجود “مؤامرة تستهدف تحالف حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية”، وأنّهم لن يستسلموا لمحاولة انقلاب من هذا النوع عن طريق أجهزة الأمن والقضاء؟
التوصيف الأقرب والأقوى لما يجري هو عمليات مضادّة تنفَّذ من قبل جماعات المافيا التركية والمستفيدين منها نتيجة تضرّر مصالحهم في أعقاب العمليات التي شنّتها الأجهزة الأمنيّة ضدّهم. هل نعود في تركيا إلى سيناريوهات انبعاث مثلّث خطر يغادر علبة “الباندورا” التي أُغلقت بإحكام قبل 8 سنوات، ويقرّب بين المافيا والسياسة والبيروقراطية من جديد؟ هناك أزمة حتماً، وهناك حسابات سياسية ومصالح شخصية للبعض أيضاً. فهل تصل الأمور إلى درجة المؤامرة لاستهداف حزب العدالة وحكومة الرئيس إردوغان كما يرى الكاتب التركي المقرّب من الحكم بولنت أوراك؟
كيف وُلدت الحكاية؟
تفجّرت القصة مع إعلان وزير الداخلية التركي علي يرلي قايا قبل أيام تجميد عمل ثلاثة مسؤولين كبار في المديرية العامة للأمن الداخلي، في إطار تحقيق تمّ فتحه بحقّهم على خلفيّة الاتّهامات الموجّهة إليهم من قبل سردار سرتشليك، وهو زعيم شبكة إجرامية هرب إلى خارج البلاد وأعلن من هناك أنّه تعرّض لضغوطات مسؤولين أمنيّين من أجل الزجّ بأسماء قيادات سياسية وحزبية مقرّبة من العدالة والتنمية باعتبارها أطرافاً متورّطة في نشاطات غير مشروعة.
التحقيقات وإعلان النتائج ينبغي أن تكون سريعة وهناك بعض الرؤوس التي ينبغي أن تطير
خلال ساعات تمّ توقيف المسؤولين الأمنيين وتفتيش منازلهم واستجوابهم في اتّهامات رجل المافيا سرتشليك، وسط انتشار شائعات حول وجود مخطّط جديد للانقلاب ضدّ حزب العدالة مرتبطة باستهداف “تحالف الجمهور” الذي يقوده الحزب بالتنسيق مع الحركة القومية.
لماذا وُصفت هذه المحاولة الجديدة بأنّها انقلابية؟
لأنّها مشابهة لما جرى قبل عقد تقريباً عندما حاول في كانون الأول 2013 فريق قضائي وأمنيّ مقرّب من حركة فتح الله غولن المتّهمة بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية في تركيا عام 2016، تلفيق اتّهامات مرتبطة بقضايا فساد وعمليات تنصّت غير مشروعة ضدّ بعض قيادات حزب العدالة ورئيس جهاز الاستخبارات هاكان فيدان وقتها.
حرّك كلّ هذا الكمّ من الأنباء والمعلومات القيادات السياسية والأمنيّة والمؤسّسات الإعلامية التركية لرصد كلّ شاردة وواردة. وفتح الادّعاء العامّ في أنقرة تحقيقاً سريعاً للتعامل مع هذه المستجدّات، فلماذا يتمّ التعامل معها بجدّية؟ لأنّ سرتشليك هو الساعد الأيمن للمدعوّ إيهان بورا قبلان زعيم تنظيم متشعّب للمافيا التركية، وتمكّن من الفرار إلى خارج البلاد على الرغم من وجوده تحت المراقبة العدلية والإقامة الإلزامية في منزله وفي قدمه أصفاد إلكترونية. ويغرّد من خارج البلاد مدّعياً من خلال أشرطة تسجيل صوتية في حوارات بينه وبين بعض المسؤولين الأمنيّين، كما يزعم، أنّ هؤلاء أجبروه على الإدلاء بمعلومات مزيّفة يتّهم فيها بعض القيادات السياسية والحزبية المقرّبة من حزب العدالة بتورّطها في أعمال غير مشروعة.
يقول الرئيس التركي: مهما أصبح الأمر قبيحاً فلن نقع في هذا الفخّ”
السّيناريوهات العاجلة
دعا الرئيس التركي مساء الأربعاء المنصرم إلى اجتماع طارىء في القصر الرئاسي ضمّ رئيس جهاز الاستخبارات إبراهيم كالن ووزير العدل يلمز تونش، وغاب عنه وزير الداخلية يرلي قايا. تركّز النقاش حول التفاصيل المتلاحقة. لكنّ الهدف اتّخاذ القرارات السريعة للكشف عمّا يجري والحؤول دون تفاعله على مستوى الداخل التركي كي لا يتحوّل إلى أوراق سياسية رابحة بيد المعارضة. من هنا يردّد وزير الداخلية أنّه “إذا كان هناك أيّ تكتّل داخل أيّ مؤسّسة يستهدف رئيسنا وحكومتنا وسياسيّينا، فسوف نصل إليه ونكشف عن أسمائه ونحيله إلى القضاء في وقت قصير”.
بين السيناريوهات العاجلة التي تطرح نفسها حول ما يدور:
– ذهاب كلّ المؤشّرات باتّجاه أن المسألة لن تتوقّف عند ما كشف عنه سرتشليك والاتّهامات الموجّهة إلى مديري الأمن الثلاثة، بل ستتمدّد باتجاه الكشف عن الكثير من التفاصيل والأسماء التي تقف وراء هذا العمل.
– قد يكون المستهدَفُ نتائجَ الانتخابات المحلّية التي قلبت الحسابات السياسية والحزبية في تركيا رأساً على عقب، خصوصاً مع تقدّم حزب الشعب الجمهوري المعارض و”الليونة” السياسية الجديدة التي واكبت قمّة إردوغان مع أوزغور أوزال زعيم حزب الشعب، والحديث عن لقاء جديد مرتقب بينهما يُقلق الكثيرين من احتمال انفتاح حزبي وسياسي أوسع يتحوّل إلى تفاهمات وتنسيق في التعامل مع ملفّات إصلاحية كثيرة في تركيا.
– احتمال وجود أصابع خارجية تحرّك مثل هذه الأمور غير مستبعد أيضاً، خصوصاً وسط التصعيد التركي الإسرائيلي الحاصل في موضوع غزة، والكشف عن العشرات من عملاء الموساد الإسرائيلي الذين ينشطون فوق الأراضي التركية.
الانفتاح الأخير بين الحكم والمعارضة في تركيا أغضب بعض القوى في الداخل والخارج وتريد أن تردّ لأنّ مصالحها وحساباتها في خطر
يرى الكاتب التركي نديم شنر أنّ المسألة تتعلّق بمجموعة دينية متغلغلة في الأمن التركي سعت إلى تحريف تحقيق بحقّ شبكة مافيا إجرامية عن مساره وتحويله إلى مؤامرة ضدّ تحالف الجمهور في الحكم وقياداته. أمّا حنفي أفجي مدير الأمن العامّ التركي الأسبق والخبير في جماعات المافيا والإرهاب فيرى أنّها “عملية ردّ” من قبل جماعات المافيا عبر الزجّ بالسياسيين في الملفّ نتيجة الحملات الأمنيّة والضغوطات التي تتعرّض لها.
يقلق البعض في صفوف “تحالف الجمهور” من أن يكون المستهدف هنا هو هذا التحالف على الرغم من أنّ إردوغان جدّد تمسّكه به وأعلن أنّ “هناك من يريدون فتح ثغرة في أسوار تحالف الجمهور الذي سيستمرّ ويقوى”. لكنّ أكثر من مؤشّر يذهب باتجاه آخر، وهو أنّ الانفتاح الأخير بين الحكم والمعارضة في تركيا أغضب بعض القوى في الداخل والخارج، وتريد أن تردّ لأنّ مصالحها وحساباتها في خطر.
يقول الرئيس التركي: “مهما أصبح الأمر قبيحاً فلن نقع في هذا الفخّ”، لكنّ المواطن التركي ينتظر قبل ذلك الحصول على إجابات لأسئلة كثيرة بينها: كيف تمكّن سردار سرتشليك القيادي في المافيا التركية الذي تمّ توقيفه ووضعه في الإقامة الإلزامية تحت المراقبة وفي قدمه أصفاد إلكترونية من مغادرة منزله 9 مرّات والتجوّل كما يشاع في المطاعم والملاهي؟ كيف يتمّ استجوابه من قبل الأجهزة الأمنيّة مجدّداً بعد قرار إحالته على القضاء؟ وكيف تمّ إقناعه بأن يتحوّل إلى “شاهد سرّي” يدلي باعترافات غير صحيحة ويقبل بما يُملى عليه من قبل مسؤولين أمنيّين، كما قال، بهدف الزجّ بأسماء شخصيات سياسية معروفة والحديث عن علاقتها به؟ وكيف تمكّن من الفرار إلى خارج تركيا بمثل هذه السهولة والبساطة وهو ينشر أشرطة تسجيل صوتية حول حواراته مع مسؤولين أمنيين في أنقرة؟
هل نعود في تركيا إلى سيناريوهات انبعاث مثلّث خطر يغادر علبة “الباندورا” التي أُغلقت بإحكام قبل 8 سنوات؟
ستذهب الأمور أيضاً باتجاه التعامل بجدّية مع سيناريو العلاقة بين مثلّث رجال السياسة ومصالحهم وحساباتهم وبعض الجماعات الدينية التي تصرّ على التوغّل في مؤسّسات الدولة وعناصر المافيات ومحاولة الأخيرة التأثير والتدخّل عن بعد. لذلك احتمال إطلاق حملات جديدة لتطهير ما بقي من عناصر هذا المثلّث داخل مؤسّسات الدولة بلباسها الجديد وأساليبها المغايرة هو الطرح الأقوى اليوم.
إقرأ أيضاً: دستور تركيّ جديد: انتظار المعجزة
التحقيقات وإعلان النتائج ينبغي أن تكون سريعة. وهناك بعض الرؤوس التي ينبغي أن تطير، ومسؤولون عليهم تحمّل النتائج، خصوصاً أنّ إردوغان قال إنّ الدمى ومن يحرّكها باتوا معروفين لدينا.
لمتابعة الكاتب على X: