استراتيجية القرن. بهذه الخلاصة يمكن أن يخرج المرء لدى اطّلاعه على أفكار وطموحات واستراتيجيات تضعها المملكة العربية السعودية سياسياً واقتصادياً للمستقبل. تتجاوز الرؤية السياسية في المملكة رؤية 2030 التي أخذت طابعاً اقتصادياً، هدفها نقل السعودية من حقبة إلى حقبة وجعلها ساحة استقطاب عالمية لكبريات شركات الاستثمار وتكريس نفسها قطباً اقتصادياً عالمياً. ترتكز السعودية في استراتيجيتها السياسية على مجموعة نقاط هدفها الأساسي استعادة دورها التاريخي المستمدّ من موقعها الجغرافي على تقاطعات بين الشرق والغرب. هو حلم كبير يكاد يكون مغامرة ستكون هناك تساؤلات كثيرة مطروحة حول مدى نجاحها وكيفية انعكاسها على الموقع والدور.
قبل سبر أغوار تلك الاستراتيجية، التي يعمل عليها رجل يشكّل استثناءً في السياسة السعودية، إذ ليس من السهل على أحد أن يجلس على كرسي “سعود الفيصل” أمير وزراء الخارجية العرب لعشرات السنوات. الوزير المعنيّ هنا هو وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، وهو سليل مؤسّس الدولة السعودية الأولى. فبحسب عارفيه هو من الدائرة الصغيرة المقرّبة من وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. يوصف في السعودية بأنّه “سياسي الظروف الصعبة”. فالرجل لا يهدأ على رأس الدبلوماسية السعودية، وأحد أبرز المساهمين في صناعة الاستراتيجية السياسية. فهو الآتي من تمثيل بلاده في ألمانيا، ولديه خبرة طويلة في مجالات الاستثمارات العسكرية، ومن الكوادر الشابّة والتجديدية في المملكة.
يعمل بن فرحان في زمن عصيب يشهد فيه العالم تحوّلات كثيرة. يريد أن تكون الرياض أحد صنّاع هذا التغيير، ليس على قاعدة الاصطفاف أو المواجهة، بل على قاعدة التوازن في العلاقات، التي أصبحت تختصر بعبارة “تصفير المشاكل” والتركيز على الإيجابيات بدلاً من السلبيات. ففي إحدى رحلاته الخارجية بعد توقيع الاتفاق الإيراني، وجّه له مجالسوه سؤالاً حول أهمية الاتفاق وأهدافه، فأجاب بهدوء: “يمكن للصراع مع إيران أن يستمرّ لعشرات السنوات، ويدفع البلَدان إلى جانب الدول التي تشهد انعكاساً لهذا الصراع خسائر هائلة تستنزف كلّ هذه المجتمعات، بينما الاتفاق من شأنه أن يوجّه تلك الأكلاف إلى الاستثمار في الشراكة وبناء وصناعة المجتمع والسعي نحو الارتقاء.”
يقول أحد المطّلعين على بنود الاتفاق إنّه أصبح منجزاً، وهو شبه منتهٍ بين الرياض وواشنطن، وينتظر توافر ظروف توقيعه
من يعرف بن فرحان، يستنتج منه أنّ الاستراتيجية السعودية تقوم على مبدأ التقارب مع الشرق والغرب. يأتي هذا الكلام في ظلّ الحديث عن اقتراب الوصول إلى اتفاق استراتيجي أميركي سعودي حول الوضع في منطقة الشرق الأوسط ككلّ. إذ تتكاثر التسريبات حول اقتراب توقيع اتفاق استراتيجي بين السعودية والولايات المتحدة الأميركية من شأنه أن يجدّد صورة اللقاء الشهير بين الملك المؤسّس عبد العزيز والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت. ولأنّ الشيء بالشيء يذكر، فإنّ أشهر ما يعرف عن لقاء الرجلين في عام 1945 كان تشديد الملك عبد العزيز على الحصول على موقف واضح من الرئيس الأميركي برفض الموافقة على المشروع البريطاني بالاعتراف بدولة يهودية في فلسطين، وقال الملك عبد العزيز يومها إنّ على الألمان أن يدفعوا الثمن وليس العرب. مضى روزفلت في تعهّده إلى أن توفّي وخلفه الرئيس هاري ترومان الذي نكث بالوعد.
يشكّل اليوم عنوان “الدولة الفلسطينية” والاعتراف الأميركي بها والعمل على توفير مقوّمات نشوئها وبنائها، مدخلاً أساسياً لتجديد التحالف مع الولايات المتحدة الأميركية. وهو ما يفتح الطريق أمام الاتفاق الاستراتيجي بين البلدين، وأصبحت عناوينه الثلاثة معروفة: البرنامج النووي السلميّ، الاتفاق الدفاعي الاستراتيجي، والاعتراف بالدولة الفلسطينية ومنح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة.
في هذا السياق، تقول مصادر مواكبة لهذا المسار إنّ المملكة تحاول أن تتجاوز نقطتين أساسيّتين في غاية الأهمية، الأولى أنّها تؤسّس لمثل هذا الاتفاق مع الولايات المتحدة الأميركية كدولة، وليس كإدارة، وبالتالي لن تتغيّر الوجهة بحال تغيّر الرئيس وإدارته وحزبه. وحصل التفاوض على الاتفاق مع الحزب الديمقراطي، وبالتالي مع الحزب الجمهوري سيكون أمر استكماله أسهل. وبذلك تتجاوز المملكة ما حصل مع روزفلت وترومان. أمّا النقطة الثانية فهي تشديد السعودية على الاحتفاظ بالعلاقة بالشرق والصين وروسيا، لا سيما أنّ المملكة لدى انتهاجها سياسة التقارب من القطبين المتناقضين شرقاً وغرباً، كانت تسلك نهجاً خاصاً بها في الموازنة بين الطرفين، والأهمّ أنّها لا تريد أن تعود إلى موقع يتمّ وصفها فيه من قبل روسيا والصين باعتبارها “مضمونة أميركياً”.
تتجاوز الرؤية السياسية في المملكة رؤية 2030 التي أخذت طابعاً اقتصادياً، هدفها نقل السعودية من حقبة إلى حقبة
يقول أحد المطّلعين على بنود الاتفاق إنّه أصبح منجزاً، وهو شبه منتهٍ بين الرياض وواشنطن، وينتظر توافر ظروف توقيعه ويرتبط بالوصول إلى حلّ للقضية الفلسطينية ووقف الحرب في غزة والاعتراف بالدولة الفلسطينية. ويضيف: “اقترح الأميركيون البدء بالمسار حالياً في موازاة اقتراحهم لمبادرة وقف إطلاق النار في غزة على ثلاث مراحل والبدء بإعادة الإعمار، لكنّ الجواب السعودي كان واضحاً بأنّه لا يمكن وضع برنامج إعادة إعمار قبل وضع برنامج سياسي واضح ومكتمل المعالم، وهذا يتجلّى في إنشاء الدولة الفلسطينية والاعتراف بها”. أمّا لدى سؤاله عن إمكانية توقيع الاتفاق مع أميركا ثنائياً وبدون إسرائيل، فيجيب المصدر المطّلع أنّ ذلك سيكون صعب التمرير بدون اتفاق مع إسرائيل لأنّه لن يكون من السهل المصادقة عليه في الكونغرس. يرفض المصدر الاستخفاف بهذا الاتفاق إلى حدّ حصره بعبارة “اتفاق تطبيع”. فهو ليس كذلك، بل اتفاق يهدف إلى إعادة خلق نظام إقليمي جديد هدفه إرساء الاستقرار وتماهي الدول مع طموحاتها.
يؤكّد المصدر أنّ الاتفاق منجز، لكن لا يمكن أن يمرّ في ظلّ الوضع الإسرائيلي القائم، واستمرار الحرب على غزة، وتنامي قوى اليمين والتطرّف اليهودية، ولا بدّ من انتظار حصول تغيير كبير في إسرائيل يتيح الانتقال إلى مرحلة جديدة على قاعدة تطويق القوى المتطرّفة، فيما لا موعد محدّداً لتوقيعه، مع ترجيحات بإمكانية ترحيله إلى ما بعد الانتخابات الأميركية. ففي حال عاد بايدن، يكون الاتفاق منجزاً، وبحال فاز الجمهوريون، يكون التفاوض معهم للانجاز أسرع، لا سيما أنّ المرحلة الأصعب قد مرّرت. أمّا لناحية الاتفاق الدفاعي الاستراتيجي مع المملكة، فبحسب المصدر سيكون مشابهاً للاتفاق الموقّع بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية مثلاً.
مع الإشارة إلى أنّ واشنطن تحاول فرض شروط تتعلّق بعدم استمرار الاستثمار السعودي في الشراكة الاستراتيجية مع الصين، ولا سيما عسكرياً وفي مجالات الذكاء الاصطناعي. وهذا أمر يحتاج إلى دوزنة سعودية، بالإضافة إلى مواجهة استحقاق قمّة بريكس التي كانت السعودية قد أجّلت خطوة الانضمام إلى منظّمتها بانتظار الحسم مع الأميركيين، فالتزمت الحضور بدون التوقيع على الانضمام.
من يعرف بن فرحان، يستنتج منه أنّ الاستراتيجية السعودية تقوم على مبدأ التقارب مع الشرق والغرب
انطلاقاً من كلّ ما ذكر، تجدر العودة إلى استراتيجية بن فرحان المستقاة من ولي العهد، أو مجموعة النقاط والمحدّدات للاستراتيجية السعودية للسنوات المقبلة، التي تقوم على اهتمامات وعناوين عديدة، من بينها:
1- الاحتفاظ بعلاقة استراتيجية مع الولايات المتحدة الأميركية، وتعزيزها وتنميتها، على قاعدة التكافل لا الاستتباع. وقد ظهرت التجربة في قرارات “أوبك بلاس”، وفي العلاقة مع الصين وروسيا.
2- الاستمرار في العلاقة الجيّدة مع الصين وروسيا، انطلاقاً من موازنة العلاقة مع الشرق والغرب.
3- تعزيز العلاقة مع أوروبا، وهو ما تجلّى في الانفتاح وتجديد وتطوير العلاقات مع ألمانيا، ومع فرنسا بعد الزيارة التي أجراها وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لباريس صيف عام 2023.
4- الاستمرار في العمل على مساعي التهدئة والبحث عن وقف للحرب الروسية الأوكرانية بالارتكاز على العلاقة مع البلدين، ومن خلال عقد مؤتمر جدّة للسلام والتحضير لعقد مؤتمر جديد.
5- العمل على تكريس التقارب الإقليمي، من خلال تعزيز العلاقة مع إيران، تركيا، وحتى إسرائيل، لكن بشرط الموافقة على حلّ الدولتين الذي أيّدته طهران وأنقرة في اجتماع القمّة الإسلامية في جدّة.
6- امتلاك كلّ هذه العلاقات الجيّدة لتجعل السعودية من نفسها قوّة مركزية، تحتاج إليها كلّ القوى الأخرى في أيّ مساعٍ للبحث عن حلول للأزمات بين الدول أو الأقطاب أو القوى الإقليمية، وبالتالي لتلعب دور الوسيط لاحقاً بين واشنطن وطهران مثلاً.
7- استعادة الدور على مستوى المنطقة ككلّ والدول العربية خصوصاً، من خلال التكامل الإقليمي، كي تكون المملكة صاحبة دور أساسيّ وفعّال في حلّ أزمات دول المنطقة، لا سيما لبنان، العراق، اليمن، سوريا، والسودان.
يعمل بن فرحان في زمن عصيب يشهد فيه العالم تحوّلات كثيرة. يريد أن تكون الرياض أحد صنّاع هذا التغيير، ليس على قاعدة الاصطفاف أو المواجهة
8- الارتكاز على هذه السياسة لتعزيز الدور الاقتصادي القائم على العلاقات المشتركة والبحث عن حاجات السوق والمجتمع.
9- التمهيد من خلال الاستقرار لاستعادة الموقع الجغرافي التاريخي كصلة وصل بين الشرق والغرب، وكأحد الممرّات الاستراتيجية للتجارة العالمية، وذلك لا بدّ من تحصينه برؤية سياسية جامعة.
إقرأ أيضاً: الرؤية السعودية: نظام إقليمي جديد في الطريق إلى القدس
10- مزج التحوّلات السياسية الخارجية بالتحوّلات الاجتماعية والثقافية الداخلية من خلال إعادة استنهاض كلّ تاريخ وإرث المملكة بمعانيه “الأركيولوجية” بما يتواءم مع العصرنة، وجعلها بيئة استقطاب واحتضان لمشاريع واستثمارات في الإرث الصناعي، التكنولوجي، التجاري، والتسلّحي من خلال امتلاك مميّزات صناعة الأسلحة وتطويرها.