ما تسعى إليه المملكة العربية السعودية على مستوى الشرق الأوسط، هو إعادة تركيب نظام إقليمي جديد، وليس كما يختصره أو يختزله البعض ويضعه في خانة إمّا “التطبيع” أو العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة الأميركية وتعزيزها عسكرياً وأمنيّاً. ولا بدّ لهذا النظام الإقليمي الجديد أن يرتكز على مقوّمات سياسية، دفاعية، اقتصادية، واجتماعية. وذلك لا يتحقّق إلا من خلال تكامل إقليمي في الرؤى والسياسات، ويقوم على مبدأ تكافؤ الشراكات مع الغرب ومع الشرق ومع دول المنطقة أيضاً. يفترض بهذا المسار أن يكون متدرّجاً من تعزيز الوضع الداخلي، إلى تصفير المشاكل وتحسين العلاقات مع الدول المحيطة، وصولاً إلى لعب أدوار مؤثّرة على الساحة العالمية.
الحدث الأهم غزة
في ظلال هذا المشروع ضمن الرؤية السعودية، تمرّ منطقة الشرق الأوسط في مخاض كبير يشهد حروباً وصراعات يمكنها أن تسهم في تغيير كيانات أو توجّهات. الحدث الأهمّ والأضخم هو الحرب على غزة، وسط إرادة إسرائيلية لإستغلال عملية طوفان الأقصى في سبيل إنهاء القضية الفلسطينية وسحقها بمشاريع التهجير. في المقابل يوجد تمسّك عربي وسعودي بالتحديد بمبدأ حلّ الدولتين والاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، على قاعدة أنّ المدخل إلى السلام والهدوء في المنطقة هو منح الشعب الفلسطيني حقوقه التاريخية المشروعة بالبقاء في دولة ذات سيادة، وهذا المسار هو الذي تسلكه السعودية مع الولايات المتحدة الأميركية ومع أوروبا.
سياسياً، هناك ثلاث محطّات أساسية لا بدّ من تتبّع مساراتها ونتائجها:
– أولاها، المعركة السياسية والدبلوماسية التي تخوضها السداسية العربية لوقف الحرب على غزة وتحصيل الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية.
– ثانيتها، الانتخابات الإيرانية وما سينجم عنها من اتّجاهات سياسية في إيران.
– ثالثتها، الانتخابات الأميركية ربطاً بسعي الإدارة الحالية إلى تحقيق إنجاز على مستوى اتفاق مع السعودية وإسرائيل، والعودة إلى الاتّفاق مع إيران.
ما تسعى إليه المملكة العربية السعودية على مستوى الشرق الأوسط، هو إعادة تركيب نظام إقليمي جديد
بالنسبة إلى المسار الأوّل، هناك خريطة طريق أصبحت واضحة المعالم في ضرورة إحداث تغيير إسرائيلي جدّي وحقيقي على المستوى السياسي يكون قادراً على نسج تفاهمات مع الدول المحيطة ويعترف بحقوق الفلسطينيين ويوقف الحرب على غزة، لأنّه من دون ذلك ستستمرّ الحروب وستكون قابلة للتطوّر والاتّساع ولن تكون إسرائيل قادرة على البقاء في أمان في هذه المنطقة، ولن تنجح كلّ محاولات دمجها فيها. يفترض بالمسار أن يستكمل بإعادة تشكيل القيادة الفلسطينية أيضاً لمواكبة مسار إعلان “الدولة الوليدة”.
إيران تجاوزت القطوع
بالنسبة إلى المسار الثاني، تجاوزت إيران قطوعاً خطراً إثر سقوط طائرة الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان. بالمعنى السياسي نجحت إيران بقوّة النظام والدولة العميقة في تجاوز ما جرى، وتتحضّر لانتخابات رئاسية. لكن ممّا لا شكّ فيه أنّ تلك الحادثة أنتجت الكثير من النقاشات حول الوضع داخل إيران، على مستويات مختلفة، وهذه ستكون لها تداعيات كثيرة على المرحلة المقبلة، لأنّ الاستحقاق الأساسي الذي تتحضّر له إيران ليس انتخابات الرئاسة، إنّما من سيخلف مرشد الجمهورية علي خامنئي، لا سيما أنّه تكاثر الكلام إثر مقتل الرئيس الإيراني عن صراع على خلافة كرسي المرشديّة واعتبر كثر أنّ رئيسي كان أحد أبرز المرشّحين له.
في هذا السياق، ستكون إيران أمام تحدّيات كبرى تتّصل بالوضع السياسي على مستوى الدولة ومؤسّساتها، والاتّجاه الذي ستسلكه بما يتعلّق بالعلاقة مع الدول العربية ومع المجتمع الدولي، وخصوصاً الأميركيين والأوروبيين. أمّا التحدّيات الأخرى فهي تحدّيات اجتماعية تتّصل بالداخل الإيراني ليس من خلفية اقتصادية أو مسألة حرّيات هذه المرّة، إنّما من جانب معنوي يتّصل بحجم الأزمة التي جعلت مسؤولين إيرانيين يحيلون سبب سقوط طائرة الرئيس إلى العقوبات التي تبقي إيران في حالة متأخّرة جداً عن مواكبة العصر. وهذا سيشكّل عناصر ضاغطة على القيادة الجديدة رئاسة وخلافة لاحقاً.
تتجاوز السعودية أيّ مشكلة لها علاقة بقيادة الدولة على المستوى الداخلي فلا صراعات ولا خلافات ولا حسابات
تأثير سعودي دون تخطيط
يفتح السجال داخل إيران حول الرئيس المقبل والمرشد المقبل، على الجانب العمري، فرئيسي وغالبية متصدّري المشهد في طهران اليوم هم من جيل الثورة الإسلامية الذي أصبح كلّه متقدّماً في السنّ، بينما ستكون إيران بحاجة إلى نوع من تجديد سياسي يتماهى مع التجديد الاجتماعي الذي يحتاج إلى عنصر شبابيّ لا بدّ أن تكون تطلّعاته أكثر مواكبة للعصر. هنا سيكون للسعودية تأثير كبير من دون تخطيط.
– أوّلاً كلّ الجوّ الدولي يتعاطى مع المملكة العربية السعودية كمملكة شابّة بعد 300 عام على نشوئها، ويعود ذلك إلى مركزية وقوّة وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان.
– ثانياً، تتجاوز السعودية أيّ مشكلة لها علاقة بقيادة الدولة على المستوى الداخلي، فلا صراعات ولا خلافات ولا حسابات، خصوصاً أنّ بن سلمان نجح في تثبيت العصمة.
– ثالثاً، كلّ التقارير الدولية ومواقف المسؤولين الغربيين تتعاطى مع بن سلمان باعتباره القائد الفعليّ والمستقبلي للمملكة، وبعض التقارير تتحدّث عن رؤيويّة الملك سلمان بن عبد العزيز في منح صلاحيات واسعة لنجله في إطار تجديد وتطوير وتحديث المملكة وترشيقها بمؤسّساتها وقطاعاتها ضمن سياق إعادة تجديد شبابها وحيويّتها. وذلك بخلاف إيران حيث السلطة المركزية بيد مرشد الجمهورية الإسلامية والصراع مفتوح على من سيخلفه، وهذا يؤسّس لمصاعب ويسهم في إلحاق الضعف، بسبب كهولة النظام فيما عمر الثورة لم يصل إلى 50 سنة بعد.
– رابعاً، المشاريع الاقتصادية، والذكاء الاصطناعي، والطموحات الاقتصادية الكبرى ستشكّل عنصراً محفّزاً للإيرانيين للمطالبة بالمثل.
– خامساً، نسج السعودية علاقات جيّدة مع الغرب والشرق في آن معاً، والتكامل الاقتصادي والعسكري مع طرفَي الكرة الأرضية سيجعلان الإيرانيين متحفّزين للانفتاح على الغرب وعدم البقاء في خانة الشرق.
– سادساً، المشاريع الترفيهية التي تشهدها السعودية على مستويات وفي مجالات مختلفة، لا بدّ للإيرانيين أن يتأثّروا بها ويطمحوا إلى المزيد منها داخل إيران مع ما يعنيه ذلك من حاجة إلى الانفتاح أكثر وتخفيف القبضة “المرشديّة أو الحوزويّة” والقبضة العسكرية.
كلّ التقارير الدولية ومواقف المسؤولين الغربيين تتعاطى مع بن سلمان باعتباره القائد الفعليّ والمستقبلي للمملكة
أمّا بالنسبة إلى المسار الثالث المتّصل بالانتخابات الأميركية، وبالمسار الأميركي لإنتاج تسويات واتفاقات على مستوى المنطقة أهمّها للأميركيين اتفاقات التطبيع والسلام مع إسرائيل، فالتفاوض الأميركي السعودي مفتوح في سبيل تحقيق ذلك، والشروط السعودية أصبحت معروفة، وترتبط بالاعتراف بالدولة الفلسطينية. في المقابل، فإنّ التفاوض الإيراني الأميركي أيضاً مفتوح في سبيل العودة إلى الاتفاق النووي. ضمنياً يبدو هناك تنافس أو تسابق بين مسارَي التفاوض مع واشنطن، وهذا مباح في السياسة وفي حسابات كلّ دولة ومصالحها. ويمكن للطرفين أن يصلا إلى اتفاقات مع الأميركيين، بينما سيكون اتجاههما لتلبية مصالحهما على صعيد المنطقة.
عمليّاً، فإنّ طهران تريد من أيّ اتفاق مع الولايات المتحدة، تحصيل اعتراف بنفوذها من البحر الأحمر إلى البحر الأبيض المتوسط، وأن تحتفظ بمناطق النفوذ التي عملت على تعزيزها على مدى عقود في العراق، سوريا، اليمن ولبنان. لكنّ طهران لن تكون قادرة على توفير وتلبية احتياجات هذه الدول والمجتمعات ما دام النفوذ الإيراني فيها أسّس لانهيارات متوالية اجتماعياً، اقتصادياً، سياسياً، وماليّاً، فأصبحت دولاً منهارة. وهذا لا بدّ له أن ينعكس سلباً على هذه الدول وعلى إيران ومشروعها ككلّ أيضاً، خصوصاً أنّ إيران لم تطرح رؤية أو مشروعاً اقتصادياً على مستوى الداخل الإيراني أو على مستوى الدول التي تسيطر عليها أو على مستوى أوسع في المنطقة.
في المقابل، تطرح السعودية رؤيتها ومشروعها، على قاعدة التكامل مع الشرق والغرب، في سعيها إلى استقطاب كبريات الشركات العالمية وبناء مدن للاستثمار في الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى التكامل في مشاريع اقتصادية على صلة بالجغرافيا، أو بما يتجاوز “الجوار الجغرافي” من طريق الهند إلى البحر الأحمر، بالإضافة إلى مشاريع الاستثمار والتكامل مع دول مختلفة. هذا المشروع سيجعل إيران أيضاً بحاجة إلى اللحاق به، بدفع من المجتمع الإيراني الذي سيكون توّاقاً للخروج إلى العالم مجدّداً وللاستفادة من تجربة دولة جارة.
طهران تريد من أيّ اتفاق مع الولايات المتحدة تحصيل اعتراف بنفوذها من البحر الأحمر إلى البحر الأبيض المتوسط
التقارب السعودي الإيراني
ما هو قابل لتعزيز المشروع السعودي هو التقارب بين السعودية وإيران، وسط إصرار الطرفين على استكماله، وصولاً إلى الدعوة التي وجّهها القائم بأعمال الرئاسة الإيرانية إلى الأمير محمد بن سلمان الذي قبلها. وهي لدى حصولها ستعني ما تعنيه وتحمل ما تحمله من مؤشّرات ومتغيّرات. يندرج المشروع في سياق اعتماد السعودية لسياسة تصفير المشاكل، واعتماد سياسة رمزية في رسم معالم الاتّجاه السياسي، وهنا لا يمكن إغفال عودة الأمير محمد بن سلمان من القمّة العربية في البحرين برّاً، وزيارته للمنطقة الشرقية، ولقائه برئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد، بالإضافة إلى لقائه هناك أيضاً بمستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، علاوة على لقائه مجاميع الناس ووجهاء تلك المنطقة.
ضمن الفلسفة الرمزية فإنّ بن سلمان أراد من زيارته إلى المنطقة الشرقية إيصال أكثر من مؤشّر أبرزها الوحدة والتلاحم بين كلّ أطياف الشعب السعودي ومكوّناته، بالإضافة إلى المشاريع الكبرى التي تمّ وضعها لتلك المنطقة، ناهيك عن تعزيز الوضع الشيعي في المملكة العربية السعودية، وهي تعزيزات وتحسينات وتطويرات شهدتها تلك المناطق بناء على توجيهات بن سلمان وحرصه، وهو ما دفع بأحد كبار قادة المحور الإيراني إلى القول أمام شخصية لبنانية وازنة: “لماذا تكون لدينا مشكلة مع بن سلمان، فالرجل منفتح ويقوم بخطوات كبيرة في السعودية، واتّخذ مواقف عديدة في مواجهة الأميركيين، وعمل على تحسين وضع الشيعة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً داخل المملكة، فهل نكون بعد اليوم ملكيين أكثر من الملك؟ ما يقوم به بن سلمان في السعودية ومع شيعة السعودية بالتحديد هو محلّ تقدير، والمواطنون السعوديون الشيعة يرفعون صوره في منازلهم”.
ضمن الفلسفة الرمزية فإنّ بن سلمان أراد من زيارته إلى المنطقة الشرقية إيصال أكثر من مؤشّر أبرزها الوحدة والتلاحم بين كلّ أطياف الشعب
قبل تلك الزيارة للمنطقة الشرقية كان بن سلمان قد التقى بالرئيس السوري بشار الأسد أيضاً، الذي طلب العديد من المساعدات السعودية، وتمّ إقرارها، إلى جانب تعيين سفير سعودي في دمشق كإشارة إلى تطوّر مسار العلاقات. بالتزامن أيضاً، لا يمكن إغفال زيارة السفير السعودي في العراق لكربلاء وما تحمله من رمزيات الانفتاح والتسامح.
إقرأ أيضاً: أميركا والعرب يخطّطون لإسقاط نتانياهو
لا بدّ لهذه الرمزيات، ربطاً بسياسة الانفتاح، وبالتكامل الإقليمي والاقتصادي، أن تكون مرتكزة على مشروع سياسي لتحصين المشروع الاقتصادي والرؤية. ذلك لا يمكن أن يتحقّق بدون فلسطين ولبنان. ففي فلسطين العنوان هو حلّ الدولتين. وفي لبنان هو خيار عودة سعودية لعودة الدولة كمساحة تقاطع إقليمية ودولية، إسلامية ومسيحية، على طريق ولادة نظام إقليمي جديد يتوّج بزيارة للقدس كعاصمة لفلسطين.