لم تقبل الصين رعاية اتفاق بين السعودية وإيران تمّ الاحتفال به في 10 آذار 2023 إلّا بعدما أنهى “طرفا النزاع” حواراً صعباً استضافته بغداد على مدى سنوات. لكنّ الأرجح أيضاً أنّ الصين لم تصنع هذا الاتفاق بل استجابت لرغبة طهران والرياض في الاحتكام إلى دولة كبرى وأساسيّة في المشهد الدولي يشتركان في صداقتها ويعقدان معها اتفاقات في الاقتصاد والأمن والدفاع ترقى إلى مستوى استراتيجي. غير أنّ هذا السياق وهذه الظروف لا تنطبق على حالة النزاع بين حركتي “فتح” و”حماس”. فما هي ظروف توجّه وفدي الحركتين إلى الصين لبدء حوار على منبر دوليّ كبير منتصف حزيران الجاري؟
جال التنظيمان الفلسطينيان الكبيران، “فتح” و”حماس”، على عواصم عدّة منذ انقسام الجسم السياسي عام 2007. في ذلك العام تحدّثت “حماس” عن عملية “حسم” في قطاع غزّة وكالت لـ”فتح” لائحة من الاتّهامات تبرّر الدموية التي تمّ فيها هذا “الحسم”.
في المقابل، تتحدّث “فتح” عن الحدث بصفته “انقلاباً” دمويّاً على الشرعية الفلسطينية نفّذته الذراع الفلسطينية لجماعة “الإخوان المسلمين”. واعتبرته جزءاً من أجندات غير فلسطينية آتية من خارج الفضاء الفلسطيني. ومذّاك بدا أنّ ذلك الانقسام لم يعد حادثاً عرضيّاً استثنائياً في التاريخ الحديث للمشهد السياسي الفلسطيني، بل بات عضوياً نهائياً في تركيبة السلطات الحاكمة في قطاع غزّة والضفة الغربية.
لم تقبل الصين رعاية اتفاق بين السعودية وإيران تمّ الاحتفال به في 10 آذار 2023 إلّا بعدما أنهى “طرفا النزاع” حواراً صعباً
فشل التنظيمان في إعادة الحدود الدنيا للّحمة بينهما. استضافت القاهرة وأنقرة والجزائر وموسكو وجدّة.. إلخ، مؤتمرات التفاوض للاتّفاق على “المصالحة” و”الوحدة”. جرى كثير من تلك “المناسبات” برعاية الدول المضيفة التي مارست النفوذ والمونة والتمنّي والدعاء لعلّ “معجزة” ترأب الصدوع وترمّم ما انكسر داخل الجدار الفلسطيني الكبير. غير أنّ الهمم المزعومة والمواقف الأخلاقية المُعبّر عنها ضاعت في ديباجات معقّدة كاذبة انتهت إلى فشل بعد فشل.
“السلطة” تشلّ “المنظّمة”
تمثّل السلطة الفلسطينية، المفترض أنّها جسم تابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، الفلسطينيين أمام العالم. جرى أن تجاوزت هذه السلطة “منظّمتها” فطوّعتها وحوّلتها إلى واجهة مشلولة يجري إخراجها من الخزائن والتزيّن بها في الأعياد والمناسبات الضرورية. أمّا الشرعيّات الأساسية لتلك السلطة فباتت وهنة مشكوكاً في شرعيّتها بسبب غياب الانتخابات التشريعية والرئاسية. وبالتالي فقدت المؤسّستان وما يفترض أن ينتج عنهما من حكومات مصداقية مقنعة أمام المجتمع الدولي إن لم يكن أمام سكّان الضفة والقطاع.
في المقابل، تمثّل “حماس” الصورة الشاذّة والنموذج النقيض لشرعية يعترف بها العالمان العربي والإسلامي كما المجتمع الدولي برمّته ممثّلاً (بسقف “منظمة التحرير”) شرعيّاً ووحيداً للشعب الفلسطيني. وتكمن مشكلة “حماس” مع هذه الشرعية التي لا تعترف بها حتى الآن ممثّلاً للفلسطينيين، في عدم اعترافها باتفاقات أوسلو تارة، وفي اعتراضها الكامل على برنامج “منظمة التحرير” وتحوّلاتها منذ “أوسلو” عام 1993 تارة أخرى. تكمن مشكلة “حماس” أيضاً في أنّها (كما حركة الجهاد) لا تعترف بحصرية المنظمة لتمثيل الفلسطينيين وتنخرط في ديباجات ضبابية تطوّع بعضها للإيحاء بنفسها بديلاً.
في “لحظة غزّة” يتأمّل الفصيلان خيارَيهما الاستراتيجيَّين اللذين تقوم عليهما نظريّاً قصة الانقسام ومأساته
في “لحظة غزّة” يتأمّل الفصيلان خيارَيهما الاستراتيجيَّين اللذين تقوم عليهما نظريّاً قصة الانقسام ومأساته. “حماس” نادت بالكفاح المسلّح أداة حصرية للمقاومة. و”فتح” أسقطت من “أوسلو” تلك الحصرية وجعلتها خياراً إلى جانب خيارات تغلب عليها السلميّة والمدنية والتفاوض. وفي “لحظة بايدن” التي توحي بسبيل محتمل للخروج من نفق الحرب، يفرض الأمر على الفلسطينيين الخروج من نفق الانقسام.
الصين والشرق الأوسط.. بين العرب وإسرائيل
للصين مصالح كبرى في هذا العالم. وللصين سياسات واعدة طموحة في الشرق. توفّر المنطقة خزّاناً أساسياً لحاجاتها من الطاقة. وبالتالي فإنّ نفوذاً لبكين في الشرق الأوسط هو من أبجديّات أمان سلاسل التوريد الآتية من المنطقة لضخّها داخل أوردة الهياكل الجبّارة للصناعة الصينية.
على الرغم من تاريخية ما يمتلكه الغرب بقيادة الولايات المتحدة من نفوذ في الشرق الأوسط، فإنّ الصين تمكّنت بهدوء من خلال القوة الناعمة من امتلاك علاقات، تتوق إليها دول المنطقة، على الرغم ممّا قد يعتري طبيعة هذه العلاقات من تناقض وانتهازية ولعب على حبال الجميع.
للصين مصالح كبرى في هذا العالم. وللصين سياسات واعدة طموحة في الشرق. توفّر المنطقة خزّاناً أساسياً لحاجاتها من الطاقة
للصين علاقات تاريخية مع فلسطين. هي من الدول الداعمة لـ”القضية” وقدّمت الدعم العسكري والتدريبيّ واللوجستي والتسليحيّ لفصائل منظمة التحرير طوال عهد ماو تسي تونغ. وحتى بعد رحيل “الزعيم التاريخي”، فإنّ الصين، التي غيّرت كثيراً من عقائدها، ظلّت متّسقة مع تاريخها في تقديم الدعم السياسي والدبلوماسي المؤيّد للحقّ الفلسطيني في إقامة دولته المستقلّة. لكنّ تحوّل تلك “العقائد” أظهر بالمقابل انفتاحاً على علاقات مع إسرائيل إلى مستويات متقدّمة إلى درجة استفزّت الولايات المتحدة. ولم يخفّف من غلواء بكين في الاندفاع بعيداً في تلك العلاقات إلا تدخّل واشنطن لدى إسرائيل لعقلنة “خيارها الصيني” ووضع محرّمات له.
قبلت دول المنطقة “الحقيقة الصينيّة” في المنطقة على الرغم من بنيوية العلاقة مع الولايات المتحدة. قبلت الطابع “المركنتيلي” البراغماتي لاتّفاقات الصين مع الشرق الأوسط الذي جعل من بكين شريكة ممتازة مع السعودية وإيران وإسرائيل. ولئن بنت الصين استراتيجيّتها في العالم على أساس الاقتصاد، فإنّ الظروف تغيّرت وباتت الصين تتحرّى في العالم، وفي الشرق الأوسط خصوصاً، حضوراً سياسياً قد يستلزم لاحقاً حضوراً أمنيّاً عسكرياً. وطالما أنّ فلسطين قضية المنطقة وباتت قضية هذا العالم منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، فإنّ الصين تودّ لعب دور محوري يكون متّسقاً مع تجربة “اتفاق بكين” مع السعودية وإيران ومتوافقاً مع تطوّر طموحاتها في الشرق الأوسط.
إقرأ أيضاً: كيف حمّل بايدن “الحركة” مفتاح السلم في غزّة؟
وفق هذا الواقع وجب على “فتح” و”حماس” اللتين سيتوجّه وفداهما منتصف هذا الشهر إلى بكين أن تقاربا تجربة مفاوضات الصلح بأبجديّات تفرضها غزّة وواقع الصين في العالم. الصينيون أهل مصالح وحساب لا يفقهون علم الديباجات والفصاحة التي تظهر في بيانات المصالحة ونوايا الوحدة الوطنية. ولئن يقدّمون للفصيلين منصّة حوار على منبر دوليّ كبير، فإنّ الصين بدورها تحتاج إلى اختراق جديد في الشرق يكون الفلسطينيون به عوناً وحليفاً.
في المقابل فإنّ العالم غامض، والأرجح أنّه خبيث، في مآلات حرب غزّة ويومها التالي، بما لا يمنح الفلسطينيين ترف لغة باتت متقادمة لصناعة وحدة فلسطينية. والأحرى أنّ صلحاً يُصنع في الصين قد يعيد توازناً فلسطينياً مفقوداً تحتاج إليه بكين وتحتاج إليه فلسطين في لحظتها التاريخية الحرجة.
لمتابعة الكاتب على X: