جيلنا الذي يزحف به العمر من محطّة السبعينيّات إلى الثمانينيّات، شاءت أقداره أن يعيش زمناً توالت فيه الحروب وتلوّنت روزنامته بلون الدم.
ولدت في زمن النكبة وبتغيير حرف واحد عشت زمن النكسة، وها أنا ومَن هم من جيلي نعيش الزمن الثالث الذي لم نتوصّل حتى الآن لإيجاد تسمية له.
الليلة الأولى
في الرابع من حزيران 1967 سهرت الملايين العربية، والوصف المفضّل لجغرافيّتها آنذاك “من المحيط إلى الخليج”، مع الراديو، متّحدة على رغبة ودعاء: “اللهمّ يسّر لنا حرباً لننتصر”.
كانت ظاهرة الترانزيستور قد انتشرت، وهو ما وفّر لأهل العالم العربي حضوراً مباشراً في الحرب. كان الراديو قد ثبّت في وعينا يقيناً بأنّ الحرب تعني النصر، وإلّا فلماذا… “يا أهلاً بالمعارك” و”خطّتنا خلاص في إيدنا وخلاص متشمّرين”.
نامت الملايين أو من استطاع منها أن ينام في تلك الليلة لتستيقظ على حلم تحقّق.
جيلنا الذي يزحف به العمر من محطّة السبعينيّات إلى الثمانينيّات، شاءت أقداره أن يعيش زمناً توالت فيه الحروب وتلوّنت روزنامته بلون الدم
اليوم الأوّل
أعلن الراديو أنّ الحرب بدأت، وأنّ الوجبة الأولى من الطائرات المعادية التي أُسقطت كانت ثماني. فانتظمت حلقات الدبكة حيث يصل إرسال الإذاعات، وما إن اقتربت شمس الخامس من حزيران على السقوط في البحر، كانت إسرائيل قد جُرِّدت من طائراتها ودبّاباتها، وكلّ أدوات حربها الغاشمة، واستعدّ سكّانها للرحيل. كان ما يحدث بين الإذاعات مزاداً نشطاً تابعه الجمهور الكريم بحماسة وفرح.
اليوم الثاني
السادس من حزيران صار له مذاقٌ مختلف. لقد سئم الناس الفرح بعدما سئموا عدّ الطائرات التي تساقطت كذباب فتك به مبيد حشريّ. كان يوم السؤال الذي اعتمل في الصدور، دون أن تجرؤ الألسن على البوح به… كان ممنوعاً مجرّد قول كلمة تشي بأنّ النصر مشكوك فيه، إلا أنّ السؤال الممنوع فرض نفسه: “ما دامت خسائر إسرائيل بهذا القدر فلِمَ لا يُعلن النصر إذاً؟؟”.
بدأ الجمهور الحائر يبحث عن الحقيقة في مكان آخر، المنطقة غير المحظورة هي راديو “لُندُن”. ذهبت الآذان إليه. كان المذيع ينقل حرفيّاً ما تعلنه الإذاعات العربية وإذاعة إسرائيل. كان البرود والحياد الإنكليزيان محيّرين لا يشفيان الغليل، إلا أنّ الذي حدث فعلاً جرّاء ذلك أنّ جزءاً من الجمهور الكريم تسلّل إلى منطقة ثالثة… المنطقة المحظورة.
السادس من حزيران صار له مذاقٌ مختلف. لقد سئم الناس الفرح بعدما سئموا عدّ الطائرات التي تساقطت كذباب فتك به مبيد حشريّ
اليوم الثالث
ساد وجوم صامت. أُغلقت الراديوهات العربية ونُحّيت إذاعة “لُندُن” الباردة، ليذهب القوم إلى الراديو الذي كان ممنوعاً، وهذه المرّة ليس رغبة في معرفة أخبار الحرب، بل لأنّ راديو المحتلّ لا يذيع أغنيات وأخباراً، بل تعليماتٍ للجمهور الكريم كي يطبّقها تلمّساً للنجاة: “من يرفع راية بيضاء على سطح داره فقد أمن العقاب”.
اليوم السادس
جرى تحايلٌ على التاريخ، حين وُصفت الحرب بـ”حرب الأيام الستّة”. لم يدقّق الجمهور الكريم بهذا التحايل، لأنّ حدثاً جللاً حرَف الانتباه عن كلّ ما تقدّم، هو تنحّي زعيم الأمّة عن كلّ مسؤوليّاته لينضمّ إلى جمهور المواطنين العاديّين.
لم يكن التلفزيون قد وصل إلى قريتي التي تابعت منها فصول الحرب، لذا لم نرَ أضخم تظاهراتٍ اكتظّت بها شوارع القاهرة طالبة من زعيم الأمّة العدول عن التنحّي: “لقد تعوّدنا عليك ونريدك كما أنت”.
نزولاً عند رغبة الجمهور الكريم عدل الرئيس عن تنحّيه وعاد إلى قصره كما لو أنّه انتصر.
إقرأ أيضاً: المنطقة بين أكتوبر الأوّل وأكتوبر الأخير
بعد ثلاث سنوات
مات زعيم الأمّة.. كان حملٌ ثقيلٌ قد هدّ جسده العملاق. فهو المسؤول عن إعادة الثقة للجمهور وتعويض الجيش العظيم عن خسائره الفادحة، بإعادة تنظيمه وتسليحه لتطبيق شعار: “ما أُخِذ بالقوّة لا يستردّ بغير القوّة”. وفوق هذا الثِّقَل الذي تنوء الجبال عن حمله، فقد أعياه حتى الموت آخر عمل قام به، إذ أوقف حرباً بين الأشقّاء، سمّيت بـ”حرب أيلول الأسود”. لقد مات زعيم الأمّة وشاءت أقداره أن لا يرى ثمرة ما بدأ به وعنوانه أكتوبر 1973.
حزيران 2024
ما زلت أبحث عن وصف له. ربّما سأكون مضطرّاً إلى انتظار ما سيسفر عنه أكتوبر 2023 أخيراً.