كما لم يتوقّع أحد خطابه الأوّل بعد أدائه اليمين أميراً للكويت في نهاية كانون الأول 2023، أو خطابه التاريخي في 10 أيار 2024 الذي أعلن فيه وقف العمل ببعض موادّ الدستور وحلّ مجلس الأمّة، فاجأ أمير الكويت الشيخ مشعل الأحمد الجميع باختياره الشيخ صباح خالد الحمد المبارك الصباح وليّاً للعهد.
من خارج التوقّعات تماماً جاء خيار الأمير، ليكون غير تقليدي ومُكرّساً لأعراف جديدة، مع تجاوز 3 أعراف كانت قائمة إلى ما قبل السبت الماضي: أوّلها أن يكون الحاكم (المستقبلي) ابن حاكم سابق، وثانيها أن يكون من أحد فرعَي السالم أو الجابر من أسرة الصباح، وثالثها أن يكون الأكبر سنّاً.
وفيما اعتقد كثيرون أنّ الخالد فقد ظلّه السياسي بعد استقالة حكومته في 2022 نتيجة خلافات مع مجلس الأمّة، وتردّد أنّه رفض مرّات عدّة رئاسة الحكومة مجدّداً، اتّضح أنّ الرجل تمدّد ظلّه لأنّ المرحلة تحتاج فعلاً إلى صفات مشابهة لما يتمتّع به.
يُمكن القول إنّ قرار الأمير هو جُرعة جديدة من سياسة “العلاج بالصدمات” التي بدأها مع تولّيه الحكم، وكرّسها في الأشهر الأولى من عهده الذي بات (يقيناً لا توقّعاً) مختلفاً جذرياً عن العهود السابقة. (راجع مقال “أساس” بعنوان: “الكويت: العلاج بالصدمات الأميرية” المنشور بتاريخ 21/12/2023)
نظريّاً كانت الأسماء المرشّحة لمنصب وليّ العهد متداولة على نطاق ضيّق من دون قدرة لأحد على حسم أرجحية أيّ منها، إلّا استناداً إلى الأعراف المعمول بها على مدى عقود وسنوات: ابن حاكم، من فرع السالم أو الجابر، الأكبر سنّاً.
يُمكن القول إنّ قرار الأمير هو جُرعة جديدة من سياسة “العلاج بالصدمات” التي بدأها مع تولّيه الحكم، وكرّسها في الأشهر الأولى من عهده
صحيح أنّ الشيخ صباح الخالد الحمد الصباح كان أحد الأسماء المرشّحة، لكنّه لم يكن صاحب الحظوظ العليا لأنّ الأعراف الثلاثة لا تنطبق عليه، وإنّما يستند إلى تجربة مميّزة تجمع بين الخبرة الدبلوماسية والقيادة في الأزمات، والعلاقات الممتازة مع الجميع في الداخل والخارج.
الإداريّ الصبور
على مدى 44 عاماً منذ بداية عمله في وزارة الخارجية عام 1978 حتى نهاية ولاية حكومته الرابعة في عام 2022، بنى الشيخ صباح الخالد إرثاً صلباً من العمل السياسي والإداري، سواء ذلك المرتبط بالدبلوماسية وما تتطلّبه من علاقات جيّدة مع دول الإقليم والعالم، أو بالسياسات الداخلية وتحديد الرؤى والخطط والعمل على تنفيذها.
يُعرف وليّ العهد الجديد بأنّه هادئ جداً، ويتمتّع بعقلية إدارية دقيقة، ويعمل على الالتزام بالجداول الزمنية للإنجاز. كما أنّه من القلائل القادرين على إلقاء الكلمات والخطب لفترات طويلة من دون القراءة عن ورقة، بالنظر إلى ما يتمتّع به من طلاقة في الحديث وقدرة على الصياغة واختيار المفردات.
يُجمع أهل الكويت على نظافة كفّه وعدم دخوله في لعبة الولاءات على الرغم من تولّيه رئاسة الحكومة في فترات دقيقة، ربّما تكون الأكثر صعوبة في تاريخ الكويت الحديث، عندما كانت الحكومة ترسم سياسات للتعامل مع وباء “كورونا”، قد تضطرّ إلى تغييرها يومياً بالنظر إلى دقّة المرحلة، في حين كان كثير من النواب يُسهبون في انتقاد الحكومة بسبب أو بدونه، لدرجة أنّ بعضهم كان يهاجمها ويهدّد بالاستجواب بسبب تأخير حظر التجوّل أو تقديمه لساعة واحدة.
في تلك المرحلة، بدأت فكرة التطوير الإلكتروني للخدمات تفرض نفسها على الحكومات. ويُحسب للخالد أنّه كان قائد عملية ذلك التحوّل في الكويت، الذي استمرّ إلى الآن، ليصبح أكثر من 80 في المئة من خدمات الحكومة إلكترونية.
يُعرف وليّ العهد الجديد بأنّه هادئ جداً، ويتمتّع بعقلية إدارية دقيقة، ويعمل على الالتزام بالجداول الزمنية للإنجاز
على الرغم من الهجومات اليومية، حافظ الشيخ صباح الخالد على خطّ السير، وتميّز بصبره وسعة صدره، وبرزت البراغماتية لديه، مع قدرات على التعامل مع التحدّيات الداخلية والخارجية.
أن ينجح رئيس حكومة في العبور بدولته إلى برّ الأمان في تلك المرحلة، كان إنجازاً كبيراً، وهو ما حقّقه بالفعل وليّ العهد الجديد.
لا ولاءات ولا صراعات
في اللعبة السياسية الداخلية، كان الشيخ صباح الخالد بعيداً تماماً عن الصراعات والولاءات. لم يلجأ يوماً إلى كسب الولاءات، وهو ليس من النوع الذي يلجأ إلى المساومات، على الرغم من أنّ الفترة التي قضاها على رأس الحكومات بين عامَي 2019 و2022 كانت حافلة بالصراعات المريرة بين الحكومة ومجلس الأمّة، وتعرّض للكثير من الانتقادات، خصوصاً من “نوّاب المنصّة” (تسمية كويتية لمجموعة من النواب الذين كانوا يصعدون إلى منصّة رئاسة مجلس الأمّة لمنع انعقاد الجلسات خلال حكومات صباح الخالد).
المفارقة أنّ بعضاً من هؤلاء كانوا أوّل المسارعين إلى تهنئته بالمنصب الجديد، بعد ساعات من الإعلان عن الأمر الأميري الصادر في هذا الشأن.
لا يُحبّذ وليّ العهد أبداً التمجيد الشخصي أو بناء شعبية للاستعراض، وإنّما يحمل صفات رجل الدولة العمليّ الذي يصبو إلى الإنجاز، ويدير ملفّاته بحكمة وحنكة على قاعدة أن لا عداوات دائمة في السياسة ولا مساومات على أساس المكاسب المتبادلة.
ومع أنّ الصراع داخل الأسرة وصل في مراحل سابقة إلى مستويات عالية جداً، لم يُعرف عن صباح الخالد أنّه كان يوماً جزءاً منها، أو داعماً لطرف على آخر، أو منتمياً إلى “رَبْع” (جماعة) فلان أو فلان، وإنّما حافظ على علاقات متساوية مع الجميع، بعيداً عن حالة الاستقطاب الحادّة التي كانت قائمة.
على الرغم من الهجومات اليومية، حافظ الشيخ صباح الخالد على خطّ السير، وتميّز بصبره وسعة صدره، وبرزت البراغماتية لديه
الخبرة الخارجيّة
فضلاً عن ضلوعه بتفاصيل العمل الحكومي نتيجة تنقّله في المناصب بين وزارات الشؤون الاجتماعية والعمل والإعلام والخارجية ورئاسة جهاز الأمن الوطني، يشتهر صباح الخالد بخبرته الواسعة في العلاقات الدولية وفهمه العميق للدبلوماسية الخليجية والإقليمية، بالنظر إلى بدء حياته المهنية في وزارة الخارجية عام 1978 وعمله سفيراً للكويت لدى السعودية وفي بعثتها بالأمم المتحدة ولدى منظمة التعاون الإسلامي، قبل تولّيه وزارة الخارجية لحوالي 8 سنوات. وهو ما أتاح له مراكمة خبرات خارجية واسعة، خاصة أنّه يعتبر من مدرسة الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، المعروف بشيخ الدبلوماسية وأحد أبرز وزراء الخارجية الذين مرّوا في تاريخ الكويت والخليج.
3 أعراف
في المحصّلة، يبدو أنّ هذه الأمور مجتمعة دفعت الأمير إلى هذا الخيار المختلف تماماً في قواعده ومنطلقاته عن السابق، وهو ما أدّى عملياً إلى تجاوز 3 أعراف:
- الأوّل أنّ الحاكم في الكويت يجب أن يكون ابن حاكم، أي أنّ أيّ أمير أو وليّ للعهد يجب أن يكون والده قد تولّى الحكم في وقت سابق، وهذا الأمر لا ينطبق على الشيخ صباح الخالد.
- الثاني أنّ الأمير منذ عهد الشيخ مبارك بن صباح الصباح المعروف بـ”مبارك الكبير” لم يخرج عن فرعَي الجابر أو السالم، حيث جاء الشيخ جابر المبارك الصباح خلفاً لـ”مبارك الكبير” وتولّى الحكم من 1915 إلى 1917، وتلاه الشيخ سالم المبارك الصباح الذي تولّى الحكم من 1917 إلى 1921، ومن بعدهما لم يحكم سوى أولادهما من ذرّية مبارك. والشيخ صباح الخالد ليس من أيّ من الفرعين.
- الثالث أنّ القاعدة التي وضعها الشيخ صباح الأحمد (2006 – 2020) قامت على قاعدة تولّي الأكبر سنّاً الحكم، وهو ما سرى على الأمير الشيخ نوّاف الأحمد (2020 – 2023)، والأمير الحالي الشيخ مشعل الأحمد. وأيضاً قاعدة السنّ لا تنطبق على الشيخ صباح الخالد، لأنّ هناك العديد من أبناء الأسرة الحاكمة أكبر منه سنّاً.
الحاكم في الكويت يجب أن يكون ابن حاكم، أي أنّ أيّ أمير أو وليّ للعهد يجب أن يكون والده قد تولّى الحكم في وقت سابق، وهذا الأمر لا ينطبق على الشيخ صباح الخالد
من المعلوم أنّ الأعراف هي عادات غير مكتوبة تضمّ مجموعة من المعايير أو المفاهيم الاجتماعية أو المقاييس المتّفق عليها، وليست قانوناً ولا تشريعاً، لكنّها تكتسب قوّتها من الاستمرارية في التطبيق.
ومع خيار الأمير الجديد لوليّ عهده، تبيّن أنّ صباح الخالد تمدّد ظلّه السياسي والإداري خارج الأعراف، لتواصل الكويت “الاستدارة التغييرية” نحو تحقيق الاستقرار المنشود.
السيرة الذاتيّة لوليّ العهد الجديد
– مواليد الكويت عام 1953.
– حاصل على البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة الكويت عام 1977.
– انضمّ إلى وزارة الخارجية عام 1978 بدرجة ملحق دبلوماسي، وعمل في الإدارة السياسية من 1978 إلى 1983.
– كان ضمن وفد الكويت الدائم لدى الأمم المتحدة في نيويورك خلال الفترة بين 1983 و1989.
– عمل سفيراً للكويت لدى السعودية ومندوباً للكويت لدى منظمة المؤتمر الإسلامي من 1995 إلى 1998.
– تمّ تعيينه في 1998 رئيساً لجهاز الأمن الوطني بدرجة وزير.
إقرأ أيضاً: كيف تعامل الإسلاميّون مع التحوّل الكبير في الكويت؟
– عُيّن وزيراً للشؤون الاجتماعية والعمل (2006 – 2007)، ثمّ وزيراً للإعلام (2008 – 2009).
– تولّى منصب وزير الخارجية عام 2011، وأصبح اعتباراً من 2012 نائباً لرئيس مجلس الوزراء.
– تمّ تعيينه في 2014 بمنصب النائب الأوّل لرئيس مجلس الوزراء مع استمرار تولّيه وزارة الخارجية.
– في 2019 تمّ تعيينه رئيساً لمجلس الوزراء، وشكّل 4 حكومات بين 2019 و2022.