ثمّة من اعتبر أنّ التشدّد في الحملة الأمنيّة التي أطلقها وزير الداخلية بسام مولوي، كانت مقصودة بذاتها، ليقدّم من خلالها أوراق اعتماده لرئاسة الحكومة إلى الأطراف المعنيّة في الداخل والخارج. وبمعزل عن دقّة التقويم وصوابيّته، فإنّ من حقّ مولوي أن يطمح لرئاسة الحكومة، والحال نفسه بالنسبة لكل السياسيين السُّنّة. لكن إذا كان موضوع الرئاسة الثالثة ليس من المواضيع المتداولة في الإعلام، إلا أنّ ذلك لا يعني أنّه خارج نطاق البحث في النقاشات والاجتماعات، خصوصاً مع الدبلوماسيين. والحال أنّ هناك “طفرة” غير مسبوقة في تاريخ السنّية السياسية في أعداد المرشّحين الراغبين في دخول السراي الحكومي… فما هي المعايير الأساسية التي يسوّق لها بعض الأطراف في “اللجنة الخماسية”؟
بالإجمال، تتماشى مواقف مولوي وسياساته منذ دخوله قصر الصنائع مع ما يدور في بال شريحة واسعة من النخب السنّية. خاصة أولئك المصنّفين ضمن فئة التكنوقراط، الذين باتوا الفئة الأكثر حضوراً في التمثيل السياسي السنّي. وحتى في موقفه من قضية النزوح السوري، الذي اعتبر البعض أنّه يتجاوز السقوف السنّية، فإنّه يمثّل التعبير الدقيق عن موقف هذه الفئة التي تلوذ بالصمت منعاً للحساسيّات، وخصوصاً الدينية.
بالنظر إلى التقويمات العامة للحملة الأمنيّة بين الأطراف السياسية المحلّية، يمكن ملاحظة أنّها وجدت ترحيباً كبيراً لدى مختلف الأطراف، وخصوصاً المسيحية. ومن جانب آخر، وعلى الرغم من غياب السُّنّة عن إبداء الموقف منها، بما يتّسق مع انسحاب السنّة من الواجهة في الآونة الأخيرة، إلا أنّها كانت محلّ ترحيب واسع في الأوساط النخبوية، فيما بدا الحزب وكأنّه المعنيّ الأوّل، ولا سيما أنّ الدرّاجات النارية تعدّ من الأدوات التي يستخدمها عند الحاجة.
حسب معلومات حصل عليها “أساس” من مصادر سياسية، فإنّ موضوع الرئاسة الثالثة جرى التباحث به داخل أروقة اللجنة الخماسية، سواء بشكل منفرد أو خلال اجتماعاتها
ومع الغضب الواسع في الأوساط الشيعية، وكثرة المشاحنات، كانت لبعض نواب الحزب مواقف نارية. أبرزهم النائب حسن فضل الله الذي هدّد بتدخّل حزبه في موقف يعيد التذكير بمن هي الجهة صاحبة القرار في لبنان: الدولة أو الدويلة. وخصوصاً عندما نستذكر موقف فضل الله نفسه عقب أحداث خلدة، حينما هدّد الدولة والجيش، ومنحهما وقتاً محدّداً لتنفيذ طلبات حزبه تحت طائلة تدخّل “مجاهديه”. تبعت ذلك مقالات وتحذيرات من الفتنة الأهلية، تتساوق مع تهديدات الحزب. فهدأت الحملة، وخفّت الغلظة حتى اختفت تماماً.
ثمّة من اعتبر أنّ مولوي أراد تقديم نفسه بصورة الشخص القويّ “الندّ” للحزب. وبالتالي يستطيع دخول السراي الحكومي، وقيادة الحكومة دون الخضوع لإملاءات الحزب. وهذه الرسالة بالتحديد كانت موجّهة إلى الدول المعنية بالشأن اللبناني، وبشكل أدقّ إلى “الخماسية”. واستدلّوا على ذلك بالحملة الإعلامية التي تشيد بمولوي ونجاح خطّته الأمنيّة. بيد أنّ ذلك ليس تهمة، بل هو أحد المعايير التي يتمّ نقاشها بين بعض أطراف الخماسية.
معايير لا أسماء
حسب معلومات حصل عليها “أساس” من مصادر سياسية، فإنّ موضوع الرئاسة الثالثة جرى التباحث به داخل لدى بعض أطراف “اللجنة الخماسية” من ضمن الأفكار والرؤى المطروحة لإعادة تكوين السلطة في لبنان، التي تؤكّد أنّ البحث ليس في الأسماء، إنّما في الاتفاق على معايير معيّنة يجب توافرها في المرشّح العتيد. وتفيد المصادر بأنّ بعض الأطراف المعنية بدعم لبنان طرحت 3 معايير رئيسية ينبغي توافرها مجتمعة، وهي كفيلة باختزال لائحة المرشّحين الفعليّين بشكل كبير.
الفساد في لبنان بلغ مستويات مذهلة جعلته مضرب مثل عالمي في هذا المجال، لكنّ الإشكالية هي استخدام الفساد بشكل مبتذل للغاية ضمن اللعبة السياسية
الأوّل هو أن يكون رئيس الحكومة مسيّساً. لا يعني ذلك حصر الاختيار بين السياسيين التقليديين، على حساب النخب السنّية الوافدة من جديد إلى عالم السياسة. بل أن يتمتّع رئيس الحكومة المقبل بثقافة سياسية واسعة، تعيد “تثقيل” المركز السنّي الأوّل في عملية صنع القرار في الدولة، بما يمنع تكرار تجربة حسان دياب التي هشّمت مكانة رئاسة الحكومة كركن أساسي من أركان الحكم. تلك التجربة بنتائجها الكارثية، يتحمّل مسؤوليّتها مَن قبل التسمية ومشى بها لإشغال موقع رئاسة الحكومة، ريثما يعود إليها من جديد.
ترسيم الحدود مع الدّويلة
المعيار الثاني هو أن يكون رئيس الحكومة المقبل لديه القدرة على التواصل مع الحزب، بما يمكّنه من إعادة ترسيم الحدود بين الدولة والدويلة، بحيث لا يكون خصماً أو عدوّاً له، فلا يكبّل يديه في الحكم، وفي الوقت نفسه لا يكون تابعاً أو خاضعاً له. ذلك أنّ رئيس الحكومة لا يسعه وضع قرار حكومته في جيب الحزب، ومنحه القدرة على التحكّم باجتماعاتها وجدول أعمالها وقراراتها، والأهمّ سياستها الخارجية، بحيث يبدو كأنّه وزير خارجيّتها.
وفق هذا المعيار، ينبغي على عدد من الراغبين في دخول السراي الحكومي إعادة ضبط الانفتاح المبالغ فيه تجاه الحزب والسعي إلى الحصول على رضاه عبر فائض الخدمات التي يعرضونها عليه في حال تبنّى تسمية هذا أو ذاك. ومن المفيد هنا استرجاع تجربة الرئيس تمام سلام في رئاسة الحكومة، والجهد الجبّار الذي بذله وقتها للحفاظ على العلاقات التاريخية للبنان مع السعودية وعدد من الدول العربية من عبث وزارة الخارجية، والتوازن السياسي الذي أقامه بين الدولة والدويلة، وبين الدولة والجشع العوني، من دون جرح المزاج المسيحي القلق من طغيان الرئاسة الثالثة على الأولى.
معيار الفساد… الأساسيّ
أمّا المعيار الثالث فهو عدم التورّط في ملفّات فساد، وهو معيار مشترك مع رئاسة الجمهورية. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى عدم التوسّع في تفسير هذا المعيار بشكل فضفاض للغاية، ليشمل كلّ واحد تُوجّه إليه تهم بالفساد من قبل خصومه أو منافسيه بقصد إخراجه من دائرة المنافسة، فيصير كلّ من سيقت بحقّه إشاعة ما، أو قيل عنه أمر ما، فاسداً، دون وجود إثبات على ذلك.
إقرأ أيضاً: الحزب: نوّاب ينتظرون “إشارة” لانتخاب فرنجيّة
لا ريب أنّ الفساد في لبنان بلغ مستويات مذهلة جعلته مضرب مثل عالمي في هذا المجال، لكنّ الإشكالية هي استخدام الفساد بشكل مبتذل للغاية ضمن اللعبة السياسية، واستخدامه كسلاح للتصويب السياسي، مع تقديم إخبارات إلى القضاء، فارغة من أيّ مضمون حقيقي، بما يلوّث سمعة الشخص المتّهم ويهشّم صورته أمام الرأي العام.